مع احتفال الأمة الاسلامية عامة والمغرب خاصة بعيد المولد النبوي الشريف، الذي تنشد فيه قصيدة البردة والهمزية، وتتلى شروحهما، انطلاقا من أهمية القصيدتين وناظمهما شرف الدين البوصيري رحمه الله، يسعدني أن أكتب هذا الموضوع حول قصيدة البردة بين العاطفة والعقل، هذه القصيدة الشهيرة التي تغنى فيها البوصيري بمدح خير البرية سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، إنها قصيدة قيل عنها الشيء الكثير لمكانتها الرفيعة؛ فهي قصيدة تشتمل على أبيات غاية في الروعة والتأثير في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم فقبل تناول القصيدة الرائعة بالتحليل لابد من التعريف بناظمها محمد شرف الدين البوصيوي. من هو الشاعر المداح شرف الدين البوصيري..؟ ولد الشاعر بقرية (دلاص) في إقليم البهنسا بمصر، ويرجع أصله الى قبيلة صنهاجة الصحراوية المغربية، أما الأم فهي مصرية، وقد أدركته المنية بمدينة الإسكندرية وقبره مشهور هناك. عاش حوالي 81 عاما، إذ ولد سنة 608 وتوفي سنة 689 هجرية، درس كثيرا من العلوم والفنون والنحو ولاصرف والبلاغة والحديث والتفسير والتصوف... كان في البداية يعيش حياة يطبعها الفقر والحاجة دفعته إلى الاشتغال بكتابة شواهد القبور، ثم تعاطى لمهن متعددة إلى أن اختار أخيرا تدريس الأطفال والصبيان، انصرف بعد ذلك الى حياة الزهد والتصوف، وقال في الرسول سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات، مدائح خالدة، لم يأت أحد بمثلها حيث بقيت قصيدتا البردة على الألسنة تردد أبياتها وتتغنى بطلعتها كما هو الشأن بالنسبة لقصيدة الهمزية. اشتهرت قصيدة البردة شهرة واسعة، وترجمت الى عدة لغات. ووضعت لها عدة شروح وحواشي بالمشرق والمغرب، واحتفاء المغاربة بالقصيدتين احتفاء كبير، سيما بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف. ويأتي هذا الشرح الموجز الواضح ليكون خدمة متواضعة لأهل المدح والمتصوفين عامة، وللشبان المولعين بالأمداح النبوية خاصة، ليكونوا على بينة من المعاني والمرامي التي قصد إليها الناظم الموفق، العظيم الحظ رحمه الله. هذا ويذكر للبردة خاصة بعض المزايا: انها تنشد في كثير من المناسبات السعيدة والحزينة، وفي جلسات الذكر عند المتصوفين، وإنها محفوظة كلها أو بعضها عند عامة الناس وخاصتهم، شيبهم وشبابهم، حضرييهم وبدوييهم، وإنها تخضع لكل النوبات الموسيقية الأندلسية عند الترنم والإنشاد وإنها مهما أُعيدت وكُرّرت لا تُمل أبدا، وإنها أعجزت الشعراءالقدماء والمحدثين، أن يأتوا بمثلها... فرحمة الله على مادح الرسول الخالد بخلود قصائده محمد شرف الدين البوصيري. قصيدة البردة من أبدع وأروع ما نظمه الأدباء والشعراء في المدح النبوي ومن أجود وأحسن ما تفتقت عن ذهنيتهم الشعرية (الغرب الإسلامي والمغرب والأندلس خاصة) وجادت بقريحتهم المتفتحة في هذا المضمار منذ عصر نظمها في القرن السّابع الهجري إلى الآن. ولذلك حظيت هذه القصيدة البديعة في مضمونها ومحتواها، الرائعة في أسلوبها ونظمها بعناية فائقة واهتمام كبير لدى كثير من الصوفيين من العلماء والأدباء في الأندلس والمغرب وما وقع عليها من اهتمام وإقبال رواية وحفظا وتلقيناً وتدريساً ومحاكاة وإنشاداً. فلقيت من الجميع إعجاباً وقبولاً واستحسانا، وذلك لما تضمنته من سيرة نبوية طاهرة ومديح سليم للجناب الشريف، نابع من محبة متفانية فيه ومن عاطفة صادقة نحو شخصه الكريم، طافحة بالمشاعر الدينية الفياضة، حافلة بالأحاسيس الروحية والإلهامات الجياشة، فجاءت قصيدة البردة بديعة ممتازة في المضمون والمحتوى فريدة رائعة في التماسك البنيوي والترابط المعنوي، والاتقان اللغوي، والابداع البلاغي والمجال الأدبي،وفي ذلك ذاع صيتها واشتهر ذكرها في كثير من ربوع البلاد الاسلامية فاقترن ذكرها بذكر ناظمها شرف الدين البوصيري رحمه الله. لقد اهتم بهذه القصيدة أدباء الصوفية بالبلاد المغاربية والأندلسية،. نظرا لما تميزت به من خصوصيات الرسول (صلى الله عليه وسلم ) وسيرته الطاهرة وشمائله المحمدية، ومع ذلك لم تسلم قصيدة البردة من انتقادات شديدة من طرف البعض، فهي في نظرهم تشتمل على مخالفات بينة لصريح الكتاب والسنة النبوية، فالقصيدة بها أبيات توصل النبيّ لمرتبة الألوهية: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم كيف تدعو للدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم فهذان البيتان يرى فيهما بعض النقاد أن البوصيري قد تجاوز في قصيدته الحد الشرعي في محبته للنبيّ (صلى الله عليه وسلم)، لكن المعجبين بالبردة لايرون بأسا في ذلك بنظرهم، فالقصيدة التي تشتمل على مائة وسبعين بيتاً لا يمكن أن تنسف كلها لكونها تشتمل على أبيات بها غلو في إطراء ومدح الرسول ومحبته عليه السلام والتغني بشخصيته ورسالته ومقامه العظيم. لقد ترجمت قصيدة البردة إلى اللغات الأوروبية والهندية والتركية والفارسية، يقول البوصيري في سبب نظمها «سبب نظمي إياها أنني أصابني خالط فالج، عجز عن علاجه كل معالج، إذ أبطل نصفي وتحير فيه وصفي، فلما يأست من نفسي، وقاربت حلول رمسي، تذكرت في ساعة سعيدة، أن أصنع قصيدة في مدح خير البرية، فصح العزم والنية، وشرعت في امتداح المصطفى، ورجوْت الشِفَاءَ فأعانني الله ويسر علي طلبي، فلما ختمتها رأيت في منامي المصطفى (عليه السلام) وَمَرَّ يده المباركة عليَّ فعوفيت لوقتي». قال بعض الأدباء: ليس من حق البوصيري ان يطلق على قصيدته «بردة»، لأن هذا الإسم خاص بقصيدة «بانت سعاد» للشاعر المخضرم كعب بن زهير الذي أنشدها بين يدي الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأجاز عليها بردته التي احتفظ بها، ثم اشتراها معاوية من ورثته بعشرين ألف درهم، فكان على البوصيري ان يسمي قصيدته «برأه» لأنها كانت سبباً في برئه وشفائه. لقد استهل البوصيري قصيدته بالتشبيب، وهو نوع من الغزل، اعتاد عليه الشعراء في الجاهلية وصدر الاسلام، لإهتمامهم بشأن العشق والعشاق.. من ذكر الأحبة وديارهم وفراقهم وتحمل الأحزان والأشواق وكانوا يعدون هذا الصنيع من حسن المطلع لتشويق السامعين ولَفْت نظرهم، ويشتمل هذا التشبيب على عشرين بيتاً.. بعض هذه الأبيات من مطلع القصيدة: أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من إضم فما لعينيك إن قلت اكففا همتا وما لقلبك إن قلت استفق يهم أيحسب الصب أن الحب منكتم مابين منسجم منه ومضطرم لولا الهوى لم ترق دمعاً على طلل ولا أرقت لذكر البان والعلم والملاحظ أن بعض الناس في الحفلات الدينية يتخشعون ويتمايلون وتمتلئ عيونهم بالدموع وهم ينشدون مطلع هذه القصيدة متصورين أن هذه الأبيات في مدح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والحقيقة تقتضي تنبيه الناس لذلك حتى يعطوا ما لقيصر لقيصر وما للَّه للَّه... وتمتاز مدائح البوصيري بعاطفة صادقة، وشعر جزل فصيح، وأريد أن أوضح، وهذا من باب التذكير - فقط - أن الحب الحقيقي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم ) لايتجلى في التغني بالقصائد المدحية في المناسبات، بل يتجلى في الاستجابة لأوامر رسول الله، والتحلي بأخلافه والعمل بسنته واتباع نهجه، والصلاة عليه كما أمر الله تعالى «إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما» «سورة الأحزاب الآية 56». وقبل الدخول في مناقشة بعض أبيات القصيدة المختلف في شأنها بين المتيمنين بها وبين الباحثين والمنتقدين الذين يخضعون أبياتها للفكر المنهجي الاسلامي... متهمين بعض أبياتها بالمخالفات لكتاب الله وسنة رسوله، والغلو والتطرف في إطراء الرسول لدرجة الشرك. يمكن الرجوع إلى مقال الأستاذ عبدالسلام سومع (المنشور في مجلة الفكر الاسلامي العدد 76 بتاريخ 3 أكتوبر 1997 الذي استنكر فيه الانتقادات المنشورة في المجلة العربية التي تصدر بالمملكة العربية السعودية بقلم الاستاذ سعيد الجربوعي الذي قال: «في القصيدة مخالفات بينة لصريح الكتاب والسنة النبوية، واشتمالها على أبيات شركية، وأبيات توصل النبي صلى الله عليه وسلم لمرتبة الألوهية.. وقد استشهد صاحب المقال بعدة أبيات، وأضاف الكتاب الجربوعي إن هذا لا يجوز في شرعنا الحنيف وهو من الشرك، واستشهد بآيات قرآنية من سورة يونس، والحديث النبوي...». وتعليقاً على الانتقادات الموجهة للقصيدة ودفاعا عنها قال الأستاذ عبدالسلام سومع: «ان قصيدة البردة هي طويلة تتكون من170 بيتاً، والكاتب يرى أن فيها ثمانية أبيات شركية، وبالتالي فهو سينفي القصيدة كلها ويرفضها، وهذا شيء لا يعقل، ولا قبله العقل السليم» هل يريد حذف هذه الأبيات الثمانية التي يدعي الأستاذ الجربوعي أنها شركية..؟ «أم يجب تناولها بالدرس والتحليل، ثم الحكم عليها إذا ثبت هذا الادعاء..»؟ في الحقيقة إن قصيدة البردة لها مكانة متميزة في قلوب الناس كما يؤكد ذلك الكثير من العلماء والمتصوفين لكونها تشتمل على بعض الأبيات غاية في الروعة والتأثير في مدح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهذا شيء لاجدال فيه، ولكن هذا لا يمنع من مناقشة بعض الأبيات التي تجاوز فيها البوصيري الخط الأحمر بلغة السياسة. لقد عاش البوصيري في العصر المملوكي أيام حكم أسرة قلاوون، ولم يكن هؤلاء يهتمون بالأدب والعلوم.. بل كان اهتمامهم الأكبر بالفتوحات والحروب، فسمي عصرهم بعصر الظلام والانحطاط الأدبي والعلمي، رغم ازدهار بعض الفنون كالتصوير والنحت وصناعة السجاد المزخرف والمنسوجات الحريرية وغير ذلك من الصنائع، فقلاوون الملك المنصور اشتراه الملك الصالح أيوب وأعتقه، ونودي به سلطاناً، وانتصر على الجيوش المنغولية والارمينية والافرنج قرب حمص، واحتل الكثير من الحصون الصليبية. إن هذه البيئة هي التي نشأ وترعرع فيها البوصيري، ولا شك أنه تأثر بما كان يروج ويموج من حوله من متاهات العقائد والمذاهب المختلفة، وأقوال النُّساك المتصوفة، وانعدام التشجيع من طرف الملوك والسلاطين، فانعكست هذه العوامل المتشابكة على الأدب والعلوم فانحط الأدب شعراً ونثراً وظهر استعمال اللغة العامية وأدب السوق... هذه الظروف والأحوال هي التي جعلت فرس البوصيري يكبو، فالذين انتقدوا بردته ربما غابت عنهم الحقائق التي ذكرناها فجاءت انتقاداتهم للبيت الذي من أجله نسفوا القصيدة برمتها وهذا البيت هو: كيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاهُ لم تخرج الدنيا من العدم فمفهمون هذا البيت عند المدافعين عن قصيدة البردة يرون أن الإنسان ليس له القدرة على الحياة إلاّ بقدرة اللَّه (فلولا الهواء ما عاش الانسان) فالبيت السالف الذكر يفسر معناه بعض المختصين بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لولاه لما خرجت الدنيا إلى الوجود، فوجوده شرط مسبق لخروج الدنيا من العدم، لكن هذا لا يجوز في حق الله لأنه لا يشترط عليه وهو الخالق البارئ المصور خلق الدنيا وما فيها وما عليها بلفظ «كن» فيكون. كل هذا وتبقى قصيدة البردة قمة في مدح الرسول عليه السلام وعلينا التغني بها مدحاً لخير البرية وأحسن مناسبة لذلك عيد المولد الشريف الذي يحتفل به الشعب المغربي قاطبة في المساجد والبيوت احسن احتفال. أفلا يحق لنا أن نخلد ذكرى مولده بالحب والعرفان والذكر والابتهال سائلين الله عز وجل أن يعطيه الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة ويبعثه المقام المحمود الذي وعده وأن يجازيه أفضل ما جازى به نبيا عن أمته آمين والحمد لله رب العالمين.