ولد الإمام شرف الدين البوصيري سنة (608 ه/ 1212م) بقرية بوصير، وهو اسم لأربع قرى بمصر كما حدد ذلك ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان، انتقل إلى القاهرة والتحق بمسجد الشيخ عبد الظاهر حيث درس العلوم الدينية وشيئا من علوم اللغة كالنحو والصرف والعروض كما درس الأدب وجانبا من التاريخ الإسلامي خاصة السيرة النبوية وربما يكون قد درس بمساجد أخرى[1]. ينتمي البوصيري إلى مصر واسمه الكامل أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد محسن بن عبد الله بن صنهاج، بن هلال الصنهاجي[2]، نسبة إلى صنهاجة القبيلة المغربية المعروفة. درس البوصيري التصوف على شيخه الإمام أبي العباس المرسي، تلميذ الإمام الشاذلي وتلقى عنه هو وابن عطاء الله صاحب الحكم، وكانت بينه وبين تلميذه البوصيري علاقة ود كبيرة، وقد اشتهر البوصيري بانفتاح كبير على كتب أهل الكتاب، إذ كان يطالع في كتب النصارى واليهود فحصل من ذلك ثقافة واسعة جعلته يناقش مقولاتهم بكثير من العمق والدراية. عاش الإمام البوصيري ظروفا صعبة ومحنا كبيرة، وكان زاهدا من أهل الهمة والقناعة، وقد ابتلي بالفقر الشديد مع كثرة العيال وسوء أخلاق زوجته وذويها، ولكنه لم يكن متبرما بسبب ذلك؛ لأن تعاليم الصوفية سدت منافذ اليأس في نفسه وفتحت أبواب الرجاء والتعالي عن أغراض الدنيا بتعبير المرحوم الأستاذ عبد الصمد العشاب في كتابه حول الإمام البوصيري (جمعية التضامن الإسلامي 2003). إن هذا الأمر مما يحسب للبوصيري الذي كان يشتكي من الفقر وكثرة الأولاد؛ لأنه تورع عن تقلد مهمة المحتسب، ولو عرضت على غيره في مثل وضعيته ما كان ليتأخر عن تقلدها وهو الذي صور درجة فقره بقوله: كيف وصولي إلى الدجاجة والبيضة عندي كأنها بدنة وقد وصف لنا البوصيري أخلاق نفسه في إحدى قصائده فقال: إلى الله أشكو أن صفو مودتي على كدر الأيام لا تتكدر وإن أظهر الأصحاب ما ليس عندهم فإني بما عندي من الود مظهر وإن غرست في أرض قلبي محبة فليس ببعض آخر الدهر تثمر ويملكني خلق على السخط والرضا جميل كمثل البرد يطوي وينتشر وقلب كمثل البحر يعلو عبابه ويزخر من غيظ ولا يتغير إذا سئل الإبريزَ سال لعابه ويصفو بما يصفو عليه ويظهر وما خلقي مدح اللئيم وإن علت له رتب لا إنني متكبر ولا ابتغي الدنيا ولا عرضا بها بمدحي فإني بالقناعة مكثر ليعلم أغنى العالمين بأنه إلى كلمي مني لدنياه أفقر وأبسط وجهي حين يقطب وجهه فيحسب أني موسر وهو معسر أأنظم هذا الدر في جيد جاهل وأظلمه إني إذا لمبذر ولم ترني للمال بالمدح مؤثرا ولكنني للود بالمدح مؤثر عاصر الإمام البوصيري الشاعر الكبير الصوفي عمر بن الفارض ( ت 732 ه) وابن مطروح (ت 654) والبهاء زهير (ت 656). كما روى عن البوصيري شعره إمامان من أهل الأندلس هما أبو حيان (ت 745) وأبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري، (ت 734) وأخذ عنه العز بن جماعة (ت 793) وغيره.. كان عمل البوصيري في مراقبة الضيعات ومباشرة الفلاحين، وقد تعرض لدعابة الناس وسخريتهم أحيانا؛ لأنه كان قصيرة القامة، ولم يكن هو نفسه يخلو من دعابة فقابل خصومه بالهجو اللاذع، وباشر موضوعات الشعر كلها قبل أن يستقر على موضوع واحد وهو مدحه للنبي "ص"؛ وبه سيعرف عبر قصيدتيه ذائعتي الصيت: البردة والهمزية.. يقول الأستاذ المرحوم عبد الصمد العشاب في كتابه حول الإمام البوصيري: إن هذا المدح المبارك للرسول الكريم هو "الذي فجر ينابيع الشعر عنده مقرونا بالإخلاص والحق، وكان قبل ذلك شاعرا قوالا في كل مجالات القول، وكان مفكرا عرف الحياة بكل تقلباتها والمجتمع بكل تناقضاته عبر عن ذلك في بعض أشعاره ومنه هذه الأبيات من قصيدة طويلة: نقدت طوائف المستخدمينا فلم أرى فيهم رجلا أمينا تفقهت القضاة وخان كل أمانته وسموه الأمينا وما أخشى على أموال مصر سوى من معشر يتأولونا وفي هذه القصيدة أيضا يصور تنازع الموظفين من المسلمين والقبط واليهود على أكل أموال الناس: يقول المسلمون لنا حقوق بها ونحن أولى الاخذينا وقال القبط نحن ملوك مصر وأن سواهم هم غاصبونا وحللت اليهود بحفظ سبت لهم مال الطوائف أجمعينا يرى صاحب فوات الوفيات أن شعر البوصيري في غاية الحسن واللطافة، عذب الألفاظ منسجم التركيب ولعله يقصد بذلك قصائده في المديح النبوي، والشيخ محمد الشاذلي النيفر يرى أن أكبر ظاهرة في شعره السهولة والعذوبة، وتسهيل الشعر مما شاع في عصره وأما ذلك البهاء زهير. وهناك من يعزو ارتفاع نفس البوصيري الشعري في البردة إلى كون ذلك كان نفحة نبوية، ويذكر ابن حجر الهيثمي، أن البوصيري كان من عجائب الله تعالى في النثر والنظم. أما الدكتور زكي مبارك فيرى أن البوصيري كان شاعرا ظريفا تجري في شعره النكت المستملحة، وفي شعره وصف للحياة الاجتماعية في عصره.. وهذه مسألة غاية في الأهمية في مجال التأريخ الاجتماعي. يفيدنا المرحوم عبد الصمد العشاب في كتابه حول الإمام البوصيري أن هذا الرجل المبارك كان شاهد عصره، وعصره هو القرن السابع الثالث عشر للميلاد وقد صور رؤية واضحة لعصره من خلال نماذج متعددة، نذكر منها نموذج المحتسب المتهالك على الناس في الأسواق، يضرب هذا و يسلب هذا والناس قد امتلأوا غيضا من ظلمه، وكان أحد الأمراء قد عرض وظيفة الحسبة على البوصيري فأباها، وأنشد في ذلك قصيدا جمع بين الاعتذار عن قبول الوظيفة ومدح الأمير وتصوير المحتسب في نظر الناس آنذاك: تالله يرضى فضلي ولا أدبي ولا طباعي في هذه السبه اجلس والناس يهرعون إلى فعلى في السوق عصبة عصبة أوجع زيدا ضربا وأشبعه سبا كأني مرقص الدبّه ويكتسب الغيظ مقلتي وخداي احمرار كزامر القرابة كان شعر البوصيري، خصوصا في المديح النبوي، مفعما بالأبيات الحكمية التي سارت بها الركبان، وحفظتها الألسنة وعلقت بالجنان بتعبير الفاضل المرحوم عبد الصمد العشاب، وذلك مثل قوله في الهمزية: وإذا حلت الهداية قلبا نشطت في العبادة الأعضاء وإذا ضلت العقول على علم فماذا تقوله النصحاء ومثل قوله في البردة : والنفس كالطفل أن تلهمه شب على حب الرضاع، وأن تفطمه ينفطم وقد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم ومن يبيع أجلا منه بعاجله يبن له الغبن في بيع وفي سلم ابتدأ البوصيري حياته الأدبية بما بدأ به كل الشعراء من التقرب إلى الولاة وأهل اليسر استجداء لفضلهم، واستجلابا لمعونتهم، ولكنه لما دخل في طريق القوم عافت نفسه تلك الحياة، وانصرف إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم ومدح آل البيت، كما انصرف إلى مدح رجال التصوف من معاصريه وأساتذته كأبي العباس المرسي، وأبي الحسن الشاذلي رحمة الله عليهم أجمعين.. يتبع في العدد المقبل.. -------------------------------------------------------------- 1. مقدمة ديوان البوصيري للأستاذ محمد كيلاني. 2. أحمد بن حجر الهيثمي والشيخ بنيس في شرحيهما على الهمزية والأعلام للزركلي.