عن المساعدات التي تقدمها الدول الكبرى والمستعمِرة بالكسر سابقا للدول المستعمَرة بالفتح هي موضوع الحديث الأخير من هذه الأحاديث التي خصصناها للأزمة المالية العالمية ودور التعامل الربوي في اشتعالها وإذكاء نارها، وسنواصل اليوم الكلام في نفس السياق عن حقيقة تلك المساعدات وبالأخص التي تقدم بدعوى محاربة الفقر، لان الكثير من الناس يسمعون عن هذه المساعدات ويعتقدون أو يظنون على الأقل ان تلك المساعدات مفيدة للشعوب التي تقدم لها. في حين أنها في الواقع أفيد للدول المانحة أكثر مما هي نافعة لتلك الشعوب التي تتلقاها ولعلنا في هذا التناول للموضوع نستطيع إلقاء بعض الضوء على جدوى تلك المساعدات. كان موضوع الحديث الأخير كما أسلفت هو تقديم شهادة احد الخبراء العالميين في هذا الموضوع وهو (تبور ماند) وكانت الخلاصة ان تسعين في المائة من تلك المساعدات تذهب بالأساس إلى الدول التي تقدم تلك المساعدات هذا بالإضافة إلى ما توفره لها من نفوذ وتأثير على الحكومات التي تتلقى تلك المساعدات، بل ان الباحث أكد انها تأتي في سياق تركيز نفوذ الدول المستعمِرة بالكسر سابقا أو التي تحاول جاهدة ان تحل مكانها وتضع نفوذها مكان نفوذ تلك وهذا حصل في بداية السبعينيات وأواخر الستينيات من القرن الماضي أثناء وضع اللمسات الأخيرة على النظام الدولي الجديد في مجال النقد والمعاملات الاقتصادية ولم تكن العولمة قد أطلت بقرونها المخيفة على الدنيا ولم تكن الرأسمالية المتوحشة قد وضعت يدها على مقدرات الدول الفقيرة باسم الخوصصة والمبادرة الحرة، اما وقد هيمنت سلطة القطب الواحد على الدنيا فقد قفزت سياسة التجويع وفرض الأسلوب الليبرالي المتوحش الذي لا يعبأ بأحد إذ البقاء للأقوى فان الأمر اكتسى خطورة أكثر، والناس يعانون من الألم والجوع وضيق ذات اليد أكثر، وهذا ما نشاهده ونلمسه وبالأخص مع الأزمة المالية الحالية. وسنحاول في هذا الحديث وربما في الأحاديث المقبلة ان نرافق احد المختصين في الاقتصاد واحد المسؤولين في المؤسسات النقدية الدولية هو »ويليام استرلي« أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك وعضو بارز في (مركز التنمية الدولية) كان باحثا اقتصاديا في (البنك الدولي) لأكثر من ست عشرة سنة وإضافة إلى عمله الأكاديمي ينشر العديد من المقالات في الصحف الأمريكية والعالمية والكتاب الذي نحاول إلقاء نظرة على بعض مضامينه ترجم إلى العربية بعنوان (مسؤولية الرجل لأبيض) وتحته سؤال لماذا قادت جهود الغرب لمساعدة الآخرين إلى الكثير من الضرر والقليل من المنفعة؟ والكتاب من ترجمة (مروان سعد الدين) ونشر «دار العربية للعلوم ناشرون» وجاء في حولي أربعمائة وخمسين صفحة وحاول فيه المؤلف ان يرصد هذه المساعدات وكيف يتم إيصالها إذا وصلت، وهو يرى ان هذه المساعدات اعجز ان تقدم وتقرب للأطفال المرضى في إفريقيا (اثني عشر سنتا) لشراء الدواء ولكن الغرب في مقابل ذلك يستطيع ان يقدم للطفل في دول الشمال اكبر ما يمكن ان يقدم وفي الفصل الأول بعنوان: (المخططون في مواجهة «مقابل» البحاثة) الذي يفتحه بمقطوعة شعرية جاء فيها: احمل مسؤولية الرجل الغربي صابرا على ما أكابده لا حجب خطر الإرهاب وأنقذ ماء وجهي بخطاب مفتوح وبسيط كنت مخلصا تماما في السعي لفائدة الآخرين والعمل ليكسب الآخرون احمل مسؤولية الرجل الغربي حروب السلام الهمجية أملأ فم الجياع وأشارك في مداواة المرض. ليأتي بعد هذه القصيدة مباشرة تصريح وزير المالية البريطاني حينها والوزير الأول حاليا وأورده على النحو التالي: »يتحدث وزير مالية المملكة المتحدة غوردون براون ببلاغة حول واحدة من مأساة فقراء العالم. وألقى خطابا مؤثرا في كانون الثاني/ يناير 2005 حول مأساة الفقر المدقع الذي يصيب مليارات البشر، وملايين الأطفال الذين يموتون نتيجة أمراض يمكن الوقاية منها بسهولة. وطالب بمضاعفة المساعدات الخارجية، وإطلاق خطة مارشال لصالح فقراء العالم، وإنشاء صندوق تمويل دولي يمكن من خلاله اقتراض عشرات مليارات الدولارات أكثر من المساعدات المستقبلية لإنقاذ الفقراء اليوم. ومنح الأمل بالإشارة إلى مدى سهولة القيام بأعمال الخير. ولا يكلف الدواء الذي يمنع حوالي نصف حالات الوفاة بالملاريا سوى اثني عشر سنتا للجرعة. ولا تكلف شبكة السرير التي تمنع إصابة طفل بالملاريا سوى أربعة دولارات. ولن يكلف إنقاذ خمسة ملايين طفل من الموت في السنوات العشر المقبلة سوى ثلاثة دولارات لكل أم جديدة. ولن يكلف برنامج مساعدات لمنح أموال نقدية للعائلات لتعليم أولادها، وإرسال أولاد الفقراء إلى المدرسة الابتدائية سوى النذر اليسير«. وينتقد المؤلف هذا التصريح ليوضح كم هي مفجعة حقيقة المساعدات التي تقدم، ولكنها فشلت في إيصال اثني عشر سنتا لمريض من المرضى لشراء الدواء يقول الكاتب: » لم ينبس غوردون براون ببنت شفة حول المأساة الأخرى لفقراء العالم. وتتمثل هذه المأساة بإنفاق الغرب 2.3 تريليون دولار على المساعدات الخارجية خلال العقود الخمسة الماضية دون أن يستطيع إيصال دواء ثمنه اثنا عشر سنتا إلى الأطفال لمنع نصف وفيات الملاريا. أنفق الغرب 2.3 تريليون دولار دون أن يستطيع إيصال شبكات أسرة بقيمة أربعة دولارات للواحدة إلى العائلات الفقيرة. أنفق الغرب2.3 تريليون دولار دون أن يستطيع إيصال ثلاثة دولارات لكل أم جديدة لمنع خمسة ملايين حالة وفاة بين الأطفال. أنفق الغرب 2.3 تريليون دولار، وما يزال الأطفال يحملون الحطب كما تفعل أمارتخ ولا يذهبون إلى المدرسة. إنها مأساة لم يحمل فيها التعاطف الشديد أي نتائج ملموسة للمحتاجين«. ويقارن الكاتب بين مأساة اثني عشر سنتا والعجز في إيصالها وبين طبع 9 ملايين نسخة من كتاب للأطفال وتتمكن الأجهزة الخاصة بإرسال نسخ من هذا الكتاب إلى جميع أركان المعمور حيث تمكن العالم من تطوير وسائل نقل أدوات الترفيه ووسائله في حين لم يفعل شيئا بشأن نقل المساعدات ويفرغ الكاتب هذا كله في قالب هزلي: في يوم واحد، 16 تموز/يوليو 2005، نشرت الاقتصاديات الأميركية والبريطانية تسعة ملايين نسخة من الإصدار السادس لسلسلة كتاب الأطفال هاري بوتر للجمهور المتحمس. وكانت رفوف باعة الكتب تفرغ باستمرار ليتم ملؤها من جديد نتيجة تهافت الزبائن على الكتاب. وشحنت مواقع أمازون وبارنز نوبل للشراء المباشر نسخا مباعة تنقل إلى منازل الزبائن مباشرة. لم يكن هناك خطة مارشال لهاري بوتر، ولا صندوق تمويل دولي لكتب السحرة القصر. وما يحبس الأنفاس أن المجتمع العالمي قد طور طريقة شديدة الفاعلية لإيصال الترفيه إلى الراشدين والأطفال الأثرياء، بينما لا يستطيع إيصال دواء بقيمة اثني عشر سنتا إلى الأطفال الفقراء المحتضرين«. ويقول الكاتب: ان هذا الكتاب هو حول المأساة الثانية. ويتحدث الحالمون، المشاهير، الرؤساء وزراء المالية، البيروقراطيون ( الموظفون الإداريون)، وحتى الجيوش حول المأساة الأولى، ويستحق تعاطفهم وعملهم الشاق الإعجاب. ولا يتحدث سوى القليلين فقط عن المأساة الثانية. أشعر بأنني مثل بخيل يشير إلى المأساة الثانية رغم وجود الكثير من النوايا الطيبة والتعاطف بين الكثير من الناس لمساعدة الفقراء. أتحدث إلى جمهور واسع من أصحاب القلوب الطيبة الذين يؤمنون بقوة خطط الغرب الكبيرة لمساعدة الفقراء، وأتمنى فعلا أن أؤمن بها بنفسي. أشعر أحيانا بأنني ملحد آثم اشترك بطريقة ما في الاجتماع السري الخاص بالكرادلة لاختيار خليفة البابا يوحنا بولس الثاني. ورغم وجود إجماع في الآراء على الخطط الكبيرة لمساعدة الفقراء، إلا أن العموم ينظرون إلى شكوكي حول تلك الخطط مثلما ينظر الكرادلة إلى ترشيحي للمطربة مادونا لتكون البابا التالي. نلاحظ في الفقرة أعلاه ان الكاتب ينتقد مساهمته في المؤسسات التي تدعي إنقاذ الفقراء في حين لا تفعل شيئا ويشبه نفسه في ذلك بترشيح مادونا لمنصب البابا ولاشك ان هذا مبالغة في السخرية. لكنني أتابع محاولا مع الكثيرين ممن يشاطروني الأفكار نفسها، ليس للتخلي عن تقديم المساعدات للفقراء، ولكن لضمان وصولها إليهم. وينبغي على الدول الغنية التعامل مع المأساة الثانية إذا أرادت تحقيق أي تقديم في المأساة الأولى. بخلاف ذلك، ستكرر موجة الحماس الحالية في التعامل مع الفقر في العالم دائرة سابقها: مثالية، توقعات عالية، نتائج مخيبة للآمال، ردود أفعال سلبية ساخرة. ويتحدث الكاتب عن مأساة العجز عن إيصال المساعدات قائلا: وقعت المأساة الثانية بسبب المقارنة الخاطئة التي سلكتها المعونة الغربية التقليدية في معالجة الفقر في العالم. إذا، هل وجد هذا الكتاب أخيرا، بعد كل تلك السنوات، الخطط الكبيرة الصحيحة لإصلاح نظام المساعدات الخارجية، إثراء الفقراء، إطعام الجياع وإنقاذ المحتضرين؟ يا له من تطور هام إذا وجدت مثل تلك الخطة رغم أن الكثير من الأشخاص الآخرين، الأذكى مني، قد جربوا الكثير من الخطط المختلفة طوال خمسين سنة، وقد فشلوا في ذلك. ويزيد الكاتب قائلا عن نفسه وعن الكتاب: يمكنكم الاسترخاء؛ لأن مؤلف هذا الكتاب لا يمتلك ترياقا سحريا. وكل الضجة الإعلامية حول اعتماد الخطة الصحيحة ليست نفسها سوى علامة على المقاربة الخاطئة للمساعدات الخارجية التي اعتمدها الكثيرون في الماضي وما زال الكثيرون يعتمدونها اليوم. الخطة الصحيحة أن لا يكون هناك خطة. فشل المخططين، نجاح البحاثة وفيما يلي يعرض المؤلف فشل المخططين قائلا: » دعونا نسمي المدافعين عن المقاربة التقليدية المخططين، فيما نسمي العملاء المسؤولين عن التغيير في المقاربة البديلة البحاثة. الجواب المباشر حول عدم تلقي الأطفال الذي يحتضرون دواء بقيمة اثني عشر سنتا، فيما يحصل الأطفال الأغنياء على هاري بوتر، هو أن المخططين يقدمون دواء الاثني عشر سنتا فيما يقدم البحاثة هاري بوتر«. إن المؤلف يقارن هنا بكيفية ساخرة الأسلوب الذي يتم به العناية بالأطفال الأغنياء والأطفال الفقراء فحيثما يتم تلبية حاجات الأطفال الأولين يموت الآخرون الفقراء حيث لا يتم إيصال الدواء الأبسط ثمنا وكلفة. إنها الحقيقة التي توضح فشل الغرب رغم الضجيج الذي يقدم به ما يعتبره مساعدات إلا أنها لا تسمن ولا تغني من جوع. وفي فصل فرعي بعنوان مشاكل كبيرة يستعرض الكاتب بعض الأرقام التي تلقي نظرة على الواقع المر للإنسانية المعذبة . مشاكل كبيرة وخطط كبيرة يعيش حوالي ثلاثة مليارات شخص على أقل من دولارين في اليوم، وهي مخصصة لشراء الطاقة. لا يمتلك 840 مليون شخص في العالم ما يكفي لقوتهم. يموت عشرة ملايين طفل كل سنة نتيجة أمراض يمكن الوقاية منها بسهولة. يقتل الإيدز ثلاثة ملايين شخص سنويا، وما زال ينتشر. يفتقر مليار شخص في العالم إلى مصادر المياه النظيفة؛ ويفتقر مليارا شخص إلى الصرف الصحي. يوجد مليار بالغ أمي. وحوالي ربع الأطفال في البلاد الفقيرة لا ينهون تعليمهم الابتدائي. ولهذا تنشغل أمارتخ بحمل الحطب بدلا من اللعب والتعلم في ساحة المدرسة. يحرك هذا الفقر في باقي العالم مشاعر الكثير من الناس في الغرب. وأدت الجهود الغربية إلى ظهور مجموعة من التدخلات إلى جانب المساعدات الخارجية، منها المشورة الفنية، قروض صندوق النقد والبنك الدوليين، نشر ثقافة الرأسمالية الديمقراطية، التدخلات العلمية للقضاء على الأوبئة، بناء الدولة، الإمبريالية الجديدة والتدخل العسكري. ويشترك كل من اليسار واليمين في هذه الجهود. من هو الغرب؟ إنه الحكومة الغنية في أميركا الشمالية وأوربة (وأوروبا) الغربية التي تحكم السيطرة على الوكالات الدولية وجهود مساعدة البلاد الفقيرة. واشتركت، بمرور الوقت، بعض الدول غير الغربية (اليابان) كما شارك المحترفون من كل أنحاء العالم في هذه الجهود. ولكنها جهود دون نتائج وسنحاول في حديث مقبل تناول بقية الفصول باختصار.