خلال مقالات أربع حاولت من خلال ما كتبه الاقتصاديون المختصون أو المفكرون النهضويون أو القادة السياسيون أو الفقهاء أو العلماء المسلمون الذين استشهدت بأقوالهم وأفكارهم أن أوضح مدى تأثير النظام الاقتصادي الربوي في الأزمات المالية والاقتصادية العالمية التي تعرفها الإنسانية بين فترة وأخرى، وذلك محاولة مني لتنبيه القارئ إلى أن كل الادعاءات والمبررات أو التعلات التي يتقدم بها المدافعون عن النظام الربوي هي مبررات وحجج أوهى من بيت العنكبوت وان ما جاءت به الديانات السماوية منذ القدم وما سطره المفكرون والعلماء والأخلاقيون في شأن مفاسد الربا وضرر التعامل به على الإنسان أمر حقيقي وان القرءان عندما يؤكد (يمحق الله الربا) إنما يؤكد امرأ يراه ماثلا للعين كل من استطاع ان يستفيد مما أنعم الله به عليه من عقل يعي ويتدبر. ونواصل اليوم الحديث عن هذه الأزمة الخانقة عالميا والتي يزيد مع مر الأيام كشف الكثير من المآسي التي نتجت عنها و التنبوء بالمزيد مما سيحصل والذي حصل في الواقع لم يكن مفاجئا للمتبعين ولاسيما لأولئك الباحثين المختصين في المجال المالي والاقتصادي، إذ طالما نبهوا إلى أن هذا الذي الكارثة التي وقعت ينتظر ان تحدث وربما كانوا يتوقعون أكثر مما وقع، ولكن لم يكن هناك من يسمع صيحاتهم وتبوؤاتهم لأن الساسة كانت لديهم حسابات أخرى وكانت أمامهم أجندة خاصة بهم أوحت بها إليهم قناعاتهم الإيديولوجية أو مصالح الشركات العابرة للقارات أو اللوبيات التي تسعى لأهداف محددة ولو على حساب جثث القادة أنفسهم، لأن المصالح الآنية والذاتية أولى من كل مصلحة أخرى بالنسبة لهؤلاء الناي الذين سعوا لتكديس الثروات وفرض توجهات فكرية وإيديولوجية معينة على العالم. ولندع أولئك الباحثين وعلماء الاقتصاد الذين كثيرا ما نبهوا الدول الكبرى وبالأخص الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى مخاطر سياساتها الاقتصادية. مثل ما كتبه الاقتصادي الأمريكي العالمي (جوزيف ستيغليتز) في كتابه المترجم إلى العربية بعنوان (التسعينات الهادرة). ولنحاول ان نتجه صوب أولئك الذين انتقدوا هذه السياسات ونبهوا الدول المختلفة إلى المخاطر التي تختفي وراء المديونية ووراء ما سمي بالمساعدات التي تقدمها الدول الكبرى للدول المختلفة أو ما سمي تلطيفا دولا نامية أو الآن ما يسمى حاليا بالجنوب أو الدول الفقيرة في بعض الأحيان وكلها أسماء لمسمى واحد وهو الدول التي يميزها الفقر والفساد السياسي والمالي والأخلاقي ويسوسها حكام مستبدون همهم الأول والأساس بقاء سيطرتهم ونفوذهم وتكديس الثروات المنهوية من تلك المساعدات التي تقدمها الدول الاستعمارية القديمة أو الامبريالية الجديدة والغريب هو أن هذه الدول التي تقدم هذه المساعدات أو القروض تعرف قبل غيرها ان تلك الأموال تكون عرضة للنهب والاختلاس والسرقة والإنفاق في مشاريع وهمية أو مشاريع تافهة بكلفة باهضة ان هذا الوضع لا تسكت عنه الدول الاستعمارية القديمة أو الجديدة فحسب ولكنها تشجعه وقد تستعمله في مرحلة ما للابتزاز السياسي ولفرض مزيد من الهيمنة وإطلاق يد الشركات التابعة لها في اقتصاديات تلك الدول وربما استعمل جزء من المال المدفوع مساعدة في تدبير مخطط لضرب مصلحة أو جهة لا تتفق مع مصلحة أو الجهة التي ترعاها تلك الدول ان هذا الوضع نلحظه ونقرأه في الصحافة بل توضع في شأنه أفلام سينمائية ووثائقية، ومع ذلك فالوضع مستمر والناس ينهجون نفس السياسيات وكان الأمر عاد وليس فيه ما يعاب. إن هذه الأوضاع لاحظها الكثيرون وكتبوا حولها ونبهوا إلى مخاطرها كما قلنا ولكن الأوضاع لا تزداد إلا استفحالا حتى كان ما نشاهده اليوم وما كان يجري في دوائر المختصين والعارفين أصبح متداولا بين الناس وعلى المكشوف كما يقال. ولعل من بين أولئك الباحثين الذين كشفوا واقع تلك المساعدات وما سينشأ عنها في المستقبل الكاتب والخبير والباحث الاقتصادي المجري (تيبورماند) صحاب الكتابات الاقتصادية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي والذي حاول فيما كتبه ان يدفع بالدول النامية آنذاك لتدارك المخاطر لسياسات الاستعمار القديم والجديد. ويحلل الباحث في كتابه (من المساعدة إلى عودة الاستعمار) نوعية المساعدات وكيف تقدم ولمن تقدم في فصل بعنوان: من يقدم المساعدة ولمن تقدم ولماذا؟ ففي بداية الفصل يستعرض من يقدم المساعدة وهي الدول الغنية طبعا كما يتحدث عن لفظة المساعدة وما تنطوي عليه من المغالطات قائلا: ان لبعض الكلمات مثل »المساعدة« و» معونة التنمية« مفاهيم إنسانية واحسانية. وقد يقود المنطق الساذج إلى الاعتقاد بأن المساعدة تخصص للبلدان الأكثر بؤسا أو للبلدان التي تستخدمها بالشكل الأفضل لتضع حدا لوضع لا يطاق. على أن الفحص ولو السريع للمعطيات الموجودة يدل على أنه لا يوجد شيء من ذلك. وليس التحقق والتحليل باليسيرين اذ أن مجموع المساعدة المقدمة للتنمية في العالم مجزأ إلى عدد محير من النشاطات التي لا ترابط بينها والتي تتداخل في غالب الأحيان. والأرقام المتوفرة لا يركن إليها دائما. (ص115) وإذا كان الكاتب ألف الكتاب والصراع الإيديولوجي على أشده في السبعينيات من القرن الماضي والحرب الباردة والساخنة في بعض الأماكن كما كان الحال في الفيتنام وغيره قائمة على قدم وساق فان الكاتب يتساءل ما إذا كان للإيديولوجية أو الصراع الإيديولوجي دور في تقديم المساعدات أو عدم تقديمها، ويلاحظ الكاتب ان الوجه الظاهري لهذه المساعدات قد لا يفصح ذلك وعلى أي فهو يطرح الأمر على النحو التالي: »وهل كان للتقارب الإيديولوجي دور أكبر؟ إننا نرى داخل بعض البلدان المستفيدة بالدرجة الأولى من مساعدة بلد ديمقراطي نيابي كالولاياتالمتحدة حكومات لا تمثل شعوبها، لا بل مستبدة أيضا فوق ثلاث قارات. وهناك إمارات من القرون الوسطى خصصت لها بريطانيا صناديق عامة صوت عليها البرلمان. وتحافظ الديمقراطية الفرنسية على حياة بعض الأنظمة الإفريقية التي تزج بمعارضيها السياسيين في السجن. ونرى الاتحاد السوفيتي، (الكاتب كتب هذا في السبعينيات ومع ذلك فتعتبر الأسماء لا يغير الواقع) حيث السلطة استبدادية (يعني السوفيات آنذاك) وموجهة، يدعم بالمساعدة بلدا ذا اقتصاد حر ونظام برلماني كالهند. حتى ان الصين المتشددة تساعد الباكستان التي يحكمها كبار الملاكين، ناهيك عن مساعدتها بعض بلدان الشرق الأوسط التي لا تميل كثيرا إلى تطبيق الأنظمة الإيديولوجية الصارمة التي تبناها ماوتسي تونغ«. (ص116) الإعانة لدعم الصادرات واستعادة النفوذ الاستعماري ان الفقرة أعلاه توحي بالكثير من الأسئلة، التي ترد على الذهن عندما يلاحظ المرء الأنظمة التي تتحالف معها الدول التي تدعو إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان مع انها تدعم حكومات قمعية وعلى رأسها حكام ظالمون فاسدون يعرف الخاص والعام مدى تغلغل الفساد في الأجهزة التي تعمل تحت مسؤولياتهم، وإذا قمنا بعملية إسقاط نجد أن الأمر لم يتغير نحو الأفضل بل نزل دراجات نحو الأسفل ومن هنا يصدق على الحال القول لا جديد ولا تغيير. ويستمر الكاتب في التحليل متسائلا: هل كان »جورج وودز«، حاكم البنك الدولي سابقا، محقا عندما قال ان » بعض البلدان أظهرت صراحة انها لا تعتبر تمويل التنمية الا إعانة مقنعة لصادراتها«؟ اننا نقترب هنا، لا ريب، من الدوافع الحاسمة. فمن أصل كل 100 ليرة استرلينية من المساعدة البريطانية تذهب 80 ليرة إلى بلدان الكومنولث. ويشير كتيب رسمي إلى المنافع التجارية الناجمة عن المساعدة ويقول ان » ثلثي مساعدتنا تقريبا يستهلكان في الواقع داخل بريطانيا، ويوفران طلبات واعمالا للصناعة البريطانية. ومن الواضح ان البلدان الراضية عن المنتجات البريطانية ستثابر على إرسال الطلبات إلينا بمعزل عن برامج المساعدة...« أما فرنسا، فيذهب أكثر من ثلث مساعدتها إلى مقاطعتها ومستعمراتها ما وراء البحار، وخصص القسم الأكبر منها للممتلكات الفرنسية السابقة في إفريقيا. ويعود كل ذلك عمليا إلى فرنسا بشكل تحويلات نقد أو طلبات. ويكاد الأمر يشبه ذلك بالنسبة لبلجيكا. أما الولاياتالمتحدة، فلمصالحها ولسياساتها الخاصة بالمساعدة مدى أوسع. إلا أن الدافع التجاري له أهميته أيضا بالنسبة إليها. فقد جاء في أحد التقديرات الدقيقة ان 90% من أموال برامج المعونة العسكرية ونصف المساعدة الاقتصادية تقريبا قد أنفقت في الولاياتالمتحدة، وان ما يقرب من نصف مليون انسان كانوا مستخدمين في ذلك الوقت في الولاياتالمتحدة في إنتاج السلع والخدمات المخصصة في الأصل لنفقات الأمن المتبادل. وبعد ثماني سنوات، صدرت نشرة رسمية تعبر عن هذا الأمر بوضوح أكبر. وتقول هذه النشرة: » ان أكبر خطأ نرتكبه بشأن المساعدة الأجنبية هو الاعتقاد بأننا نرسل الأموال إلى الخارج. فنحن لا نفعل ذلك، لأن المساعدة الخارجية الأقل كلفة لبلوغ هذا الهدف. انها حل بديل للنزاع المسلح الذي يستهدف السلطة والنفوذ، وهذا الحل يفضل الوسائل التقليدية الأكثر تدميرا: فالمساعدة أقل كلفة، وحتى لو أدت إلى جر الشركاء بالرغم منهم إلى الدخول إلى ميدان المنافسة والنزاع بين البلدان المانحة، فإنها متنفس غير ضار نسبيا بإرادة البلدان الكبرى في السيطرة وبروحها التنافسية العدوانية وبحاجتها الدائمة إلى الهيمنة. وهذا المتنفس أفضل بالطبع من الحرب. ان السر من خلال هذا التحليل الذي كتبه الكاتب والمدعم بأقوال وتقارير مسؤولي وخبراء الدول التي تقدم المساعدات يوضح كيف تستفيد هذه الدول من المساعدة وأنها في الواقع مساعدات من اجل دعم صناعاتها وصادراتها ومحاربة البطالة في بلدانها وهذا الأمر لا يزال هو الوضع حاليا ويضاف إليه ما أتيح للشركات الكبرى للدول الغنية من فرص الربح غير المشروع ان لم نقل النهب الواضح من خلال ما سمي بالخوصصة ومن خلال فوائد الديون التي تجنيها تلك الدول بالإضافة إلى استعادة نفوذ الدول الاستعمارية القديمة وفتح المجال أمام الاستعمار الجديد وفي هذا يقول الباحث: »وهكذا، فإن البلدان التي تخلت عن إمبراطورياتها وجدت في المساعدة أداة سهلة للإبقاء على نفوذها وسلطانها وهي، إذ حرمت من وسائل المساهمة بشكل حاسم في التنافس القائم بين القوى الكبرى الجديدة، تجد في هذه الروابط التقليدية الوسيلة الوحيدة المناسبة للإبقاء على دائرة نفوذها. وهي تستطيع، ضمن إطار هذه المنطقة الضيقة، ان تحافظ على نظام تفضيلي لنشاطات مواطنيها الاقتصادية والمالية، أو على مناطق نقدية تؤمن لها منافع تجارية ومالية إضافية. وهي تتحين الفرص للتأثير على البلدان المستقلة حديثا ولكي تقدم لها الملاكات الضرورية لبناها الإدارية والاقتصادية والجامعية. ولقد نجحت السياسات نفسها في تسهيل الوصول إلى المواد الأولية وفي فرض الوسائل الكفيلة بتحديد أسس التعامل بهذه المواد الأولية وفي فرض الوسائل الكفيلة بتحديد أسس التعامل بهذه المواد. واستطاع الوجود العسكري في بعض الحالات ان يمارس الضغط في مناطق حساسة من الناحيتين الإستراتيجية والعسكرية. وفي جميع هذه الحالات تقريبا، كانت تقارير المساعدة الجديدة تلقى أصوات الدعم الثمين والأكيد داخل المؤسسات الدولية. وفي الواقع، ظهرت سياسات المساعدة تدريجيا كأهم تجديد في التغير المعاصر الكبير، تتألف من المعدات والمواد الأولية والخدمات والمواد الغذائية الأميركية. وان 93% من أموال الوكالة الدولية للتنمية (AID) تنفق مباشرة في الولاياتالمتحدة لدفع ثمن هذه المواد. فقد تلقت في الماضي نحو 4000 مؤسسة أميركية في خمسين ولاية 1300.000.000 دولار من أموال وكالة التنمية العالمية مقابل منتجات مقدمة في إطار برنامج المساعدة الخارجية«.