أوضاع الأسواق المالية العالمية هي الطاغية على الأخبار التي تشتغل بها وسائل الإعلام على اختلاف أشكالها وتنوعها، وعندما نقول الأخبار فمعنى ذلك ما يتبع تلك الأخبار من الهلع والخوف لدى مختلف الأوساط سواء التي تباشر العمل في تلك الأسواق من مستثمرين ومودعين ومساهمين وعاملين وكذلك مختلف طبقات وشرائح المواطنين المهددين في أرزاقهم ومدخراتهم وشغلهم، وهكذا يعيش الناس هذه الأيام وهم يسمعون أخبار المؤسسات البنكية التي أعلنت إفلاسها أو المؤسسات التجارية نزلت أسهمها ولم يرد احد ان يقبل على شرائها أو المغامرة في الاستثمار فيها، وكل ذلك يتبعه جيش من الرجال والنساء الذين يفقدون عملهم بسبب ذلك، والذين يفقدون مدخراتهم ومساكن أنفقوا في سبيل اقتنائها زهرة شبابهم وهاهم يرمى بهم خارجها في الشوارع في أعظم دولة اقتصاديا وعسكريا لأنهم عجزوا عن أداء أقساط القروض التي التزموا بها للمؤسسات البنكية ومؤسسات تأمين القروض، يصحب ذلك ما يتحدث عنه الخبراء والمسؤولون من عبث العابثين بأرزاق الناس وحقوقهم ومصالحهم للحصول على أجور خيالية وتعويضات على حساب عرق الآخرين وكد يمينهم، ولم يقتصر الأمر على بلد دون آخر، وانما انتقلت العدوى من مكان إلى مكان كما تنتقل النار في الهشيم، ولا ترى في جداول الصحافة المعنية أو شاشات القنوات التلفزية الا أرقام انخفاض مؤشرات الأسهم التي تزيد الهلع في الأوساط وتبعث القلق في النفوس، ومع ان الحكومات المعنية والتي تنتظر ان يعنيها الأمر تبادر إلى ضخ الملايير في صناديق الأبناك والمؤسسات المالية ولكن تلك المؤسسات لا تنفك تردد هل من مزيد.؟ لعل هذا الوصف المختزل يكون أعطى صورة تقريبية أو مصغرة عما يجري ولكن بواطن الأمور والأرقام التي تكشف حينا فحينا أبلغ وأفدم من كل وصف يمكن ان يستنتجه الإنسان وهو يتبع ما يذاع وينشر في الموضوع. وقد يسأل القارئ وما علاقة حديث الجمعة بما يجري فالأمر يجب ان يترك للمختصين ليقولوا رأيهم ويدلوا باقتراحاتهم لإيجاد الحلول الناجعة؟ ان الجواب على هذا السؤال يكمن في أحاديث سابقة قبل شهر رمضان والتي تناولنا فيها الأزمة الاجتماعية وانتشار الفقر والبطالة في مجتمعات متعددة وفي مقدمتها المجتمعات الإسلامية التي تتوفر الدول فيها على إمكانيات هائلة ومع ذلك تعاني من الفقر والجوع وكانت تلك الأحاديث بعنوان (إمكانيات هائلة وشعوب جائعة) وأخذنا في حينه فقرات من كتب ودراسات اعتنت بالموضوع وانتقدنا في حينه سكوت الكثيرين عن الحديث عن ضرورة العدالة الاجتماعية وقبول الناس بمقولة نهاية التاريخ والقبول بالعولمة وويلاتها وكانت تلك الأحاديث بداية للحديث عن المعضلة الكبرى في العالم وهي معضلة قديمة انها معضلة اختلال نظام توزيع الثروات وانعدام العدل والإنصاف بين الناس فيما أفاء الله على دولهم ومجتمعاتهم من نعمه وخيراته. ولكن الناس الذين كانوا من قبل يدعون ويسعون إلى العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل الوطني توزيعا عادلا غزتهم الليبرالية الجديدة ويعرف الأستاذ شوقي جلال مترجم كتاب »بعيدا عن اليسار واليمين« نشر سلسلة عالم المعرفة الليبرالية الجديدة بأنها: »السياسة الاقتصادية التي جاءت في صورة انقلاب على الكينزية التي سادت في الغرب عقب الحرب العالمية الثانية، وتعرف الليبرالية الجديدة أحيانا باسم الثاتشرية الريجانية، أي التي سادت خلال فترة حكم حزب المحافظين البريطاني وبدأت على يدي مارجريت ثاتشر، وكذلك الحزب الجمهوري في الولاياتالمتحدة على أيدي رونالد ريجان وجورج بوش الأب، ثم من بعده بوش الإبن، والليبرالية الجديدة تطبيق لتعاليم فريدريك فون هاييك، الفيلسوف الاقتصادي بجامعة شكاغو ثم تليمذه ميلتون فريدمان. وجدير بالذكر أن مارجريت ثاتشر تلميذة هاييك أيضا. وتؤمن الليبرالية الجديدة بالنظرة الداروينية الاجتماعية في الاقتصاد، وترى أن لا بديل عن المنافسة المطلقة دون ضوابط لصالح الشركات العملاقة على نطاق الكوكب دون حدود أو قيود، وشعاراتها دولة الحد الأدنى للتدخل تمهيدا لما يلي: حرية تجارة السلع والخدمات حرية تداول رأس المال. حرية الاستثمار إلغاء القطاع العام وسيادة الخصخصة. اللا مساواة الاجتماعية ظاهرة طبيعية سوية. ومن ثم دعت إلى تهاوي الحدود القومية والقيود الحمائية لصالح ديناصورات الأعمال والاقتصاد، ذلك لأن البقاء للأقوى وأن الضحية تستحق مصيرها.« (هامش صفحات 15 وما بعدها). هذه الليبرالية الجديدة هي ما نشاهد ونسمع ونقرأ اليوم دعوات المسؤولين في العالم إلى دفن و وأد ذلك النظام العولمي الذي نشأ عنها والذي تغنى به الكثيرون و رددوا على مسامع الناس مزاياه ومحاسنه تلك المزايا والمحاسن التي حفظوها عن ظهر قلب كما كان يمليها ويلقنها لهم المسؤولون عن المؤسسات المالية الدولية والتي أصبح الناس اليوم ينتقدون ما يتقاضاه أولئك من أجور وعلاوات فوق التصور، والذين كانوا أعلنوا ان التأميم ومراقبة المؤسسات والتوجيه الاقتصادي قد ولى لم يترددوا في أول محطة عند الإعلان عن اتخاذ الإجراءات التي تعود بالناس إلى ما عرف في مراحل سابقة من تأميم ومراقبة للمؤسسات والذي كان مثار نقد شديد في العقدين الأخيرين. والواقع أن الذي حصل لم يفاجئ الكثيرين الذين كتبوا ونبهوا على ان النظام الاقتصادي الجديد إنما يزيد الفقراء فقرا والأغنياء غنى وفي هذا السياق قدم احد الخبراء الأمريكيين نموذجا صارخا في هذا الفارق الكبير بين الأجور والتفاوت الحاصل بين الناس في بلد الحرية الاقتصادية وموطن انطلاق الدعوة إلى العولمة حيث أكد هذا المسؤول والعضو في المؤسسة التشريعية الأمريكية ان الفارق بين الحد الأدنى في الأجر واجر المدير العام كان بنسبة 1 إلى 40 مرة في عام 1980 وانه أصبح في بداية الألفية الثالثة هو 1 إلى 400 مرة وهكذا نرى انه فيما كان الفرق تسعا وثلاثين مرة ارتفع إلى ثلاثمائة وتسع وتسعين مرة وهذا الفارق المهول ليس خاصا بالولاياتالمتحدة ولكنه عام في مختلف البلدان بقطع النظر عن مقداره ودرجته. لقد استيقظ الناس ذات يوم ووجدوا أعمدة الصحافة ومحاضرات الأساتذة في الجامعات وخطب القادة والزعماء وبرامج الحكومات خالية من كلمات او شعار الاستقلال الاقتصادي أو العدالة الاجتماعية، هذا الاستقلال الذي كثيرا ما تغنى به قادة سابقون ولاحقون وزعماء سياسيون وقادة أحزاب وتنافس الأساتذة في الكليات والجامعات لإبراز محاسن وأهمية الاستقلال الاقتصادي للحفاظ على الاستقلال السياسي، ولكنه منذ قرابة عقدين من الزمان أصبح هذا المصطلح وكأنه في خبر كان، فالعالم قرية واحدة، والاستقلال بالمعنى العام اقتصاديا أو غيره صنو الانعزالية والانغلاق هكذا أصبح الناس يقولون فنهاية التاريخ هي أن يكون النموذج الأمريكي هو النموذج السائد في كل الدنيا، وإذا كان الكبار في العالم يعرفون كيف يلعبون مع الغول القادم حيث اتخذوا من التدابير والإجراءات ما يمكنهم من الحفاظ على الأوضاع الاقتصادية لبلدانهم ولا مانع عندهم من الاستفادة ما أمكن من هذا التوجه الجديد في المستعمرات القديمة والاستيلاء ما أمكن على ما ستبيعه وتفوته برسم الخصخصة، من مؤسسات بذل الشعب الكثير من التضحيات من أجل بنائها، ومع ذلك فإنها تباع في المزاد ويكون أولى ضحايا هذا البيع هم العاملون في تلك المؤسسات الذين يفقدون مورد العيش نتيجة لتسريحات العاملين التي يقوم بها المالكون الجدد لهذه المؤسسات، ولكن الناس مع ذلك تحملت نتيجة للوعود التي تقدم على ان المستقبل سيكون لصالح التنمية وإيجاد الشغل بتدفق الرأسمال الأجنبي للاستثمار في المشروعات الجديدة، ولكن الأمر طال ولم يأت ذلك الخير المنتظر وذلك الاستثمار الموعود وان أتى فعلى استحياء ودون ما كان منتظرا حتى فوجئ الناس بهذه الأزمة التي تهدد الناس بأزمة خانقة لم يروا لها مثيلا في ثمانين سنة الأخيرة إذ انهارت الأسواق المالية أو كادت ولم يعد الناس يرون أمامهم إلا شبح الكساد الاقتصادي وتراجع الاستثمار وانتشار البطالة وضياع الثروات في جيوب أناس جشعين لا يرحمون، ولا يعرفون للشفقة أو تعرف لهم طريقا. وبدأنا نسمع المسؤولون الكبار يرددون أن هذه الوضعية الجديدة تهدد بكارثة شبيهة بكارثة عام 1929 تلك الكارثة التي ضربت الأسواق المالية في الولاياتالمتحدةالأمريكية ومنها إلى غيرها ولا بأس من استحضار تلك الحالة مع احد الباحثين الأمريكيين الذي كتب كتابا في الستينيات من القرن الماضي حول »الولاياتالمتحدةالأمريكية في الأزمة الاقتصادية العظمى« ترجمة صلاح احمد سليمان عزت يقول في الفصل الأول بعنوان : الكارثة: إذا كان هناك يوم فاصل في التاريخ الأمريكي فهو يوم «الخميس الأسود» 24 من أكتوبر سنة 1929 الذي نزلت فيه الأسعار بسوق الأوراق المالية إلى الدرك الأسفل. وفي هذا اليوم نجحت جماعة من كبار الماليين بنيويورك مؤقتا في إيقاف هذا الهبوط ولكن لم يلبث الفزع بعد خمسة أيام أن عاد ثانية إلى ورل ستريت.. فقد انحدرت أسعار السندات والأوراق المالية إلى الدرك الأسفل وظل هذا الهبوط التدريجي مستمرا لمدة ثلاثة أعوام ونصف العام. ولم يؤثر كارثة وول ستريت مباشرة وبسرعة الا على جزء صغير نسبيا من السكان ولكن حقبة موحشة كانت قد بدأت وبرغم تأكيدات الزعماء السياسيين وزعماء دوائر الأعمال أن إفلاس سوق الأوراق لن ينعكس على حالة الاقتصاد بصفة عامة إلا انه لم يطل الوقت حتى بدأ الاضطراب يسود رفاهية الأمة الاقتصادية. فقد بدأت البطالة بين العمال الذين يعتمدون على أجورهم في حياتهم وهذه هي أخطر وأعظم المشكلات الكثيرة التي ترتبت على الأزمة الاقتصادية العظمى في الازدياد بصورة صارخة. لقد انقلب الوضع بعد مضى عدة أشهر من الأزمة الاقتصادية في أمريكا رأسا على عقب وحتى المظهر الخارجي للمدن كان قد تغير. وكنت ترى بائعي السندات السابقين على أرصفة الشوارع يحاولون بيع التفاح على حين أصبح الكتبة السابقون يطوفون أحياء المال لكي يتعايشون على تلميع الأحذية ومسحها وأخذ المتعطلون والمشردون يرحبون بالقبض عليهم بتهمة التشرد بغية الحصول على الدفء والطعام في السجن لقد طلب أكثر من مائة ألف عامل أمريكي العمل في الاتحاد السوفياتي وظهرت مدن من العشش والأكواخ إلى جوار المدن الصناعية وأطلق سكان هذه المساكن للمرارة التي يذوقونها اسم رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية عليها. والمختارات التالية، واغلبها من الصحف المعاصرة، تبين الاضطراب وبعض مظاهر اليأس التي سادت في تلك الأوقات...(ص11). وأورد الكاتب بعد ذلك عناوين الصحافة التي لا تختلف كثيرا عما تكتبه صحافة اليوم حيث نرى أن الأخبار تثرى حول الأسواق والتصريحات التي تخرج من أفواه القادة والخبراء الاقتصاديين في العالم تدعو وبسرعة إلى علاج الأزمة قبل أن تصل إلى مدى ما وصلت إليه في الماضي. وبالنسبة لعالمنا العربي فإن الأخبار الواردة من دول الخليج تؤكد ان التهديد حقيقي رغم ان المسؤولين العرب كعادتهم لا يتحدثون بالصراحة مع شعوبهم فهم يطمئنون الناس، في الوقت الذي يتحدث فيه غيرهم أن الارتباط مع أسواق مالية خارجة لابد أن يكون له انعكاس ما في تلك الدول وفي غيرها من الناحية الاقتصادية، ولكن السؤال الأكبر هو أين دور التعامل الربوي في هذه التقلبات والتلاعب الذي جرى ويجري؟ ان غول الفائدة في هذا لا يمكن إلا أن يكون في صدارة أسباب ما حصل وهو موضوع يمكن أن نطرقه في الحديث المقبل.