في حديث الجمعة الأخير تناولنا ضمن سياق الأزمة المالية والاقتصادية العالمية ما تقوم به الدول الكبرى في موضوع تقديم المساعدات سواء كانت في صيغة القروض أو المساعدات والأثر السلبي الذي تتركه تلك المساعدات على الشعوب والدول التي تقدم لها ومن طبيعة الحال فان الفوائد المترتبة على الديون التي تقدم لتلك الدول لها وضع آخر وهو أمر سنتناوله في الحلقات المقبلة ولكننا في حديث اليوم سنواصل الكلام عن الملاحظات التي سجلها صاحب كتاب (مسؤولية الرجل الأبيض) وقد اخترنا في الحديث الأخير بعض الفقرات في الموضوع كان التركيز في الحديث الأخير كما أشرت إلى عدم فعالية تلك المساعدات التي تقدم للشعوب الفقيرة،وكان منطلق الكاتب الخبير هو تصريح وزير المالية البريطاني رئيس الوزراء حاليا «براون» وذلك لأن الأدوات التي تستعمل لإيصال تلك المساعدات تخضع لإجراءات معقدة ولأن الأمر في الواقع اكبر من التعقيد لأن الجزء الأكبر من تلك المساعدات كما وضح ذلك «تبورماند» في كتابه (من المساعدة إلى عودة الاستعمار) كما اشرنا إلى هذا في حديث سابق فما يفوق تسعين في المائة تستفيد منها الدول المانحة وترجع إليها.. من من المشاهدين الذين يشاهدون في القنوات التلفزية الأوضاع المزرية التي تعيش عليها الشعوب الضعيفة والفقيرة ثم لا يشعر بالألم والحسرة على تلك الإنسانية المعذبة؟ فنحن نشاهد الأطفال عراة حفاة لا يجدون قوتا ولا يجدون مأوى ولا لباسا يقيهم قيظ الصيف أو زمهرير الشتاء، فتلك السواعد النحيفة للرجال والنساء وتلك البطون المنتفخة جراء الجوع ونقص التغذية في مختلف القارات حيث يُصَاحَبُ ذلك كله بأرقام الوفيات التي تلحق الأطفال والنساء والرجال كما يكون ذلك كله مدعما بأرقام إحصائية عن عدد الناس الذين يعيشون تحت الفقر وهذا كله يدل على إفلاس السياسات المتبعة، كما يدل على أن الدول الكبرى أو الغنية كما يسمونها لا تهتم بواقع الناس الذين هم في أمس الحاجة إلى الدعم والمساعدة، ولكن الهدف لدى تلك الدول ومنذ القدم هو تنمية ثروات الشركات والمؤسسات المالية التابعة لتلك الدول. وقد اهتم كثير من الباحثين والمفكرين في الغرب بواقع هذه الشعوب والمآسي التي تعيش فيها ويتحدثون عن ذلك بمرارة ولكن الدول لا تأخذ ما يقوله هؤلاء مأخذ الجد وربما لا تعيره ما يستحق من الاهتمام والعناية فكأن الأمر لا يعنيها وكأن هؤلاء إنما يكتبون ويتحدثون لتزيد تلك الدول في تقوية سياسياتها المبنية على مزيد إغناء الأغنياء وفقر الفقراء. ولإلقاء مزيد من الضوء على هذه السياسة الفاشلة في معالجة قضية الفقر من خلال ما يقدم من مساعدات وما يرافق ذلك كله من تصريحات سواء من طرف المسؤولين السياسيين أو من طرف المسؤولين أو الباحثين في المؤسسات النقدية المالية فإننا سنرافق الكاتب الاقتصادي (وليام ايسترلي) في كتابه مسؤولية الرجل الأبيض. وإذا كان الكاتب تحدث في الفصل الذي أدرجنا خلاصته في الحديث الماضي عن فشل المخططين في مواجهة الباحثين فإنه في هذا الفصل يتحدث عن مسؤولية الرجل الغربي في مواجهة ما تعانيه الشعوب الفقيرة من حيث إيجاد الحلول الضرورية لذلك. ومن حيث إيصال تلك المساعدات فانه في هذا الفصل يتحدث عن المسؤولية المباشرة فيما وصلت إليه الدول المستعمَرة بالفتح سابقا من تدهور في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، ويقوم بسرد تاريخي لبعض الواقع والأحداث التي تؤثر وتؤكد تلك المسؤولية. في فصل بعنوان: مسؤوليات الرجل الغربي: ملاحظات تاريخية يتحدث الكاتب عن تمسك الغرب منذ القديم بحلول مثالية لحل مشاكل العالم قائلا: » كما يدل مثال « روبرت أوين»، التمسك بحلول مثالية لمشاكل باقي العالم ليس جديدا إنه موضوع انتقل عبر تاريخ الغرب وباقي العالم. وظهرت الخطط الكبيرة التي ستصبح يوما ما مساعدات خارجية وتدخلا عسكريا في بدايات القرن الثامن عشر. وتشير معظم السجلات إلى الانتقال المفاجئ من نظام الاستعمار إلى المساعدات الخارجية والتدخل العسكري الخيري، وبالطبع كان هناك تغييرات رئيسية في مواقف وسياسات الغرب. ومن الجيد أيضا رؤية الأساليب التي استمرت منذ تلك الحقبة. ومنذ البداية، لم تحظ مصالح الفقراء باهتمام يذكر مقارنة بخيلاء الأغنياء. وانبثقت « مسؤولية الرجل الغربي» من الفكرة الخيالية التي أسعدت الغرب بأننا «نحن» من وقع علينا الاختيار لإنقاذ باقي العالم. وأناط الرجل الأبيض بنفسه دورا قياديا في نسخة النظام السياسي القديم من « هاري بوتر»«. اعتبرت حركة التنوير الفكري في أوربة في القرن الثامن عشر بقية العالم لوحا فارغا ليس لديه تاريخ ذو معنى أو مؤسسات خاصة به يستطيع الغرب أن ينقش عليه مثله العليا. وكما وصف «كومت دو بوفون» الأمر: « ظهرت الحضارة من خلال الأوروبيين... ونظرا لتفوقها تحديدا، تعتبر الشعوب المتحضرة مسؤولية عن تطوير العالم» . وقال « ماركيز دو كوندورسية»: « تلك الأراضي الشاسعة... لا تحتاج سوى إلى مساعدة منا لتصبح متحضرة». وهذا ما لا يزال الغرب وفي مقدمته أمريكا يردده فهم يتحركون بتفويض من الله وليس باسم التنوير كما كان الأمر سابقا... وحتى مع القيام بإصلاحات تدريجية مفيدة، مثل الحملة البريطانية المناهضة لتجارة الرقيق في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، لم تكن غطرسة الرجل الأبيض على وشك الاختفاء آنذاك. وقال البريطاني المحافظ السير «روبرت بيل» في خطاب له في حزيران /يونيو 1840 أنه ما لم يوقف البيض تجارة الرقيق، فإنهم لن يقنعوا أفريقية أبدا» بتفوق إخوانهم الأوروبيين». قال أحد قادة الحركة المناهضة للعبودية،» ويليام ويلبروفورس»، لاحقا حول الهند:» ألا ينبغي علينا عندها... السعي لانتشال تلك المخلوقات البائسة من وضعها المزري الحال؟». وقال» جيمس ميل» سنة 1810: « من أجل السكان المحليين» في الهند، لا يستطيع البريطانيون» تركهم لمصيرهم». حتى مؤتمرات برلين سنة 1885، الذي قسم أفريقية بين المستعمرين الأوروبيين مثل الأطفال الذين يصرخون طلبا للحلوى عند افتتاح الهدايا تضمن لغة إيثارية. وكان الموقعون « يهدفون إلى تعليم السكان المحليين وتزويدهم ببركات الحضارة».( واليوم يتحرك الغرب باسم الحضارة والديمقراطية) وانتقد المعارض الفذ، مارك توين، الجهود الحضارية ابتداء من سنة 1901: «بركات الحضارة... لا يمكن أن تكون أفضل، في ضوء خافت... مع مسائل تنال الكثير من الاهتمام، والتي زودوا بها هذا المعرض المرغوب: قانون ونظام... حرية ... تعامل مشرف... حماية الضعيف... تعليم ... هل هذا جيد؟ يا سيدي، إنها فطيرة. وستجذب إلى المعسكر كل أحمق يجلس في الظلام في أي مكان». وعد ميثاق عصبة الأمم الذي تم إقراره بعد الحرب العالمية الأولى «الشعوب التي لا تمتلك القدرة على النهوض بأنفسها» بأن تكوّن « رفاهية وتنمية تلك الشعوب وديعة مقدسة للحضارة». لهذا، « ينبغي وضع تلك الشعوب تحت وصاية الأمم المتقدمة». ولم يتساءل سوى بعض المشككين فيما إذا كانت مثل تلك الوصاية» محاولة كبيرة لإخضاع الأجناس البشرية أكثر منها... شكلا بدائيا من الاستغلال» ونحن نعلم أين أوصلت الوصاية الاستعمارية عقب الحرب العالمية الأولى فلسطين وسوريا والعراق الخ وقد تغيرت اللغة وتغيرت الألفاظ والأسماء ولكن الشعوب الضعيفة بقيت عرضة لكل أنواع الاستغلال وهو ما يعبر عنه الكاتب فيما يلي: حدث تغير في اللغة (وفي التفكير أيضا) بعد الحرب العالمية الثانية. وذهبت الأحاديث حول التفوق العرقي، الوصاية على الشعوب المتخلفة، وشعوب لا تستطيع حكم نفسها أدراج الرياح. وأصبح الحكم الذاتي والتحرر من الاستعمار مبادئ عالمية. وبدل الغرب العبارة العنصرية بكلمة جديدة. وتحولت كلمة «متخلف إلى «نام». وأصبحت كلمة» الشعوب الهمجية» « العالم الثالث». وكان هناك تغيير حقيقي في المشاعر بعيدا عن العنصرية نحو احترام المساواة، لكن مبدأ الرعاية والإكراه بقي متداولا. المساعدات الخارجية والاستعمار: في الوقت نفسه،حصل مشروع الغرب لتطوير باقي العالم على اسم جديد: المساعدات الخارجية. وبدأت المساعدات الخارجية مع برنامج»النقاط الأربع» الذي طرحه « هاري ترومان». وقال في خطاب توليه مهامه في 20 كانون الثاني/يناير 1949 (مستبقا «جيفري ساكس» ومشروع ألفية الأممالمتحدة بأكثر من نصف قرن): « ينبغي أن نبدأ برنامجا جديدا شجاعا ل... تطوير و تنمية المناطق النامية. ويعيش أكثر من نصف سكان العالم في ظروف تقترب من البؤس... للمرة الأولى في التاريخ، تمتلك الإنسانية المعرفة والمهارة للتخفيف من وطأة معاناة تلك الشعوب». وتجاهل «ترومان» محاولات الغرب السابقة كما لو أنها أقارب ريفيين بعيدين في زفاف يقام في بارك أفينوا: «للمرة الأولى في التاريخ» نعرف كيف نساعد باقي العالم («تلك الشعوب»). شق «ترومان» طريقا جديدة. وسرعان ما ظهر خبير التنمية، وريث المبشر وضابط الاستعمار. وتوصلت مجموعة من خبراء الأممالمتحدة بعد سنتين من خطاب»ترومان» إلى نتيجة مفادها أن: «تحقيق زيادة 2% في الدخل القومي للفرد الواحد» تطلب مساعدات خارجية» بحدود 3 مليارات سنويا». وفي سنة 1960، ادعى «والت روستو» في كتابه» مراحل النمو الاقتصادي»: أن هناك حاجة لزيادة المساعدات الخارجية بقيمة 4 مليارات دولار لتحقيق نمو منتظم في كل آسيا، الشرق الأوسط، أفريقية وأميركا اللاتينية، بزيادة دخل الفرد بحوالي 1.5% سنويا». كان هناك بعض المصالح الشخصية في هذا المضمار. وعنون» روستو» كتابة»البيان المناهض للشيوعية». وتنافس الغرب (العالم الأولى_ مع الشيوعية (العالم الثاني) لجعل العالم الثالث ينتهج «الطريق الأمثل». وكافح الغرب لإقناع باقي العالم أنه يمكن تحقيق الازدهار المادي بسهولة في ظل الحرية (الملكية الخاصة، الأسواق الحرة والديمقراطية) أكثر من تحت مظلة الشيوعية. وكان على جيوش الغرب أحيانا أن تتأكد من سلوك باقي العالم طريق الرخاء. وأثرت الحرب الباردة في الجهود الغربية طوال عقود (كما تؤثر الحرب على الإرهاب في المساعدات الخارجية اليوم). الوعود بالتغيير ولاشيء يتحقق؟ كان «روتو» مستشارا ل «جون ف. كينيدي»، الذي أعلن سنة 1961 أن « برامج ومفاهيم المساعدات الخارجية الموجودة حاليا غير مرضية على الإطلاق... ننوي خلال عقد التنمية القادم هذا تحقيق نجاح فاصل فيما يخص مصير العالم النامي، ونتطلع نحو ذلك اليوم... الذي تنتفي فيه الحاجة للمسعدات الخارجية». أفرزت تلك الحملة عددا كبيرا من الوكالات التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية: صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، وكالة الولاياتالمتحدة للتنمية الدولية USAID، وزارة المملكة المتحدة للتنمية الدولية DFID، مصرف التنمية الأميركية البينية IDB، مصرف التنمية الأفريقية AFDB ، مصرف التنمية الأسيويةADB، برنامج الأممالمتحدة الإنمائيUNDP ، منظمة الصحة العالمية WHO، منظمة الأغذية والزراعة FAO، منظمة العمل الدولية ILO ، صندوق الأممالمتحدة للأطفال UNICEF، وكثير غيرها. لم يكن الأمر مقتصرا على المساعدات الخارجية؛ وإنما قدم الغرب المشورة، وأقام العلاقات الدبلوماسية، واستعمل التدخل العسكري كجزء من حملته لتطوير باقي العالم. وأرسل قادة الحرب الباردة الجواسيس، الجنود والأسلحة إلى البلاد الفقيرة في محاولة لإنقاذها من الشيوعية وتطبيق الرأسمالية. تم ابتكار حقل جديد بالكامل من الاقتصاد يدعى «اقتصاد التنمية». ودعا اقتصادي بولندي المولد يدعى « بول روزنشتاين رودان» في الأربعينيات إلى «دفعة كبيرة « لنقل العالم الثالث إلى الأول. ودرس باحثون في السياسة وعلم الاجتماع وحقول كثيرة أخرى «تنمية» البلاد الفقيرة. قال الاقتصادي وعالم الاجتماع، والذي حاز لاحقا جائزة نوبل، غونار مردال، سنة 1956 أن الحل لمشكلة الفقر يتمثل في خطة: « من المتفق عليه الآن أن البلد النامي ينبغي أن يكون لديه... خطة وطنية عامة موحدة... تعمل بتشجيع ومباركة من الدول المتقدمة» . واستعمل»مردال» لغة عاطفية لوصف مثل تلك الخطط، لغة تحاكي ما هو موجود حاليا (الأصلية بالأحرف المائلة): « إن البديل للقيام بمحاولة بطولية هو الإذعان المستمر للوضع الراهن أو الانحسار الاقتصادي والثقافي والذي يعد أمرا مستحيلا من الناحية السياسية في العالم المعاصر». آمين على ذلك، عدا أن الخطة البطولية فشلت في إنهاء الركود الاقتصادي أو حتى إدراك إمكانية تلبية حاجات أكثر بساطة. تبقى الأفكار التي ألهمت نسخة اليوم من «مسؤولية الرجل الغربي» نفسها مع بعض التقلبات الفكرية منذ ذلك الحين. وكان الاقتصادي الهنغاري البريطاني « بيتر باور» التنمية» عبر المساعدات الخارجية. المغالطة أن يفترض المرء أنه إذا درس وعاش في مجتمع ينعم نوعا ما بالرخاء والأمن، فإنه يعرف ما يكفي ليخطط لمجتمعات أخرى حتى تنعم بالرخاء والرخاء والأمن. وكما قالت صديقتي « أبريل» مرة أن ذلك يشبه التفكير بتكليف خيول السباق بناء مضمار السباق.