أربع سنوات مرت على رحيل قائد الثورة الفلسطينية ، ياسر عرفات ، وكأنها لم تمر، وكأنَّ أبو عمّار لم يمت ، هو الرجل الذي تكالبت عليه «الكلاب» لنهشه وهو حيّ . وكم كان يتمنى أكثر من طرف غيابه ؛ وكم من واحد كان لا يطيق حضوره ، لأن حضوره الكبير كان يغطي على الأقزام الذين لا يدَعُون فرصة تمر دون تسجيل حضورهم ، بالصوت والصورة . ومع ذلك يُسَجَّلون في عداد الغائبين ، لأنه ، بكل بساطة، لا وزن لهم ولاثِقْل ولا قيمة . وكم من حاكِمٍ سقطت عليه الزعامة سَهْواً ، أو اختلسها من الرجال الحقيقيين ، في غفلة من الزمن ، فراح يصول ويجُول، ويستأسد على المستضعفين ، حتى إذا وجد نفسه أمام الكبار تراه يبلع لسانه ، ويقدّم آيات الاعتذار... هذا هو حال الحاكمين الجبناء في كل زمان ومكان . حين دُفِن عرفات ، في مكان قَصِي ، بمقر المقاطعة ، برام الله، كانت الثورة تُدْفَن معه من دون أن يدري ، ربما، مُشَيِّعُوه - الحاضرين في عين المكان أو الحاضرين بعيدا عن المكان - أنهم يخسرون الكثير في تلك اللحظة : خسروا الثورة وقائد الثورة . وَوَلّى الجميع ، وهم لا يلْوُون على شيء ، ويَدُهُم في التراب . انظروا ماذا يجري اليوم على التراب : لقد تمّ تمريغ الثورة الفلسطينية بالتراب ؛ وانتهز الأقزام الفرصة ليعيثوا بالتراب المقدس . من يتحدث الآن عن عرفات ؟ لقد تخلّصوا منه ، لأن حضوره كان يُزْعج ، ولأن خياله كان «يخلع» ، ولأن وجوده كان غير مرغوب فيه ، فاجتمعت القِوَى السيئة ، من كل حدب وصوب ، لتتفق على إعدامه؛ وكان القرار بقتله من دون رحمة ولا شفقة . وكان الموت البطيء الذي أرادوا من وراءه إرسال رسالة لمن يهمّه الأمر، تقول : انظروا ماذا نحن قادرون على صُنْعِه إذا جاوز أحدكم الخطوط الحمراء . لكن الزعماء الحقيقيين لا يعترفون بخطوط حمراء ولا زرقاء ولا بيضاء .. لا يومنون سوى بالْمُثُلِ التي من أجلها يحيون ومن أجلها يموتون . سيقف التاريخ كثيرا عن سرّ هذا الموت ، بل القتل الرهيب . وسيقرأ أبناؤنا تفاصيل وفاة قبل الأوان . ومن المؤكد أن الرجل سيكبر في أعينهم وهو ميت كما كان كبيرا وهو حيّ . ولا يستطيع أحد أن يكذب على التاريخ ، كما يحلو له أن يكذب على الأحياء، مهما كانت قُوَّتَه ومهما كان جبروته . العجيب أن عرفات كان رمزا لفلسطين المغتصَبَة كما كان سيكون رمزا لفلسطين المحَرَّرة كما يريدها هو لا كما تريدها التفاهمات والترتيبات والإكراهات والضغوطات والتنازلات والانحناءات ... وما شئتَ من مصطلحات الزيف والتيه والسَّفَه ... والريح . و«ياجبل ما يهزّك ريح». ذهب الرجل والابتسامة العريضة لا تفارق مُحَيّاه . و قاتلوه يموتون غَيْضاً وهم يرون تلك الابتسامة ما زالت ساطعة مُتَوَهِّجة مُتَّقِدَة على الجبين الناصع البياض . كم حاولوا ، عبثاً، إزالتها وإعدامها ، لكن يدهم الْتَوَتْ بالتراب . كم حاولوا ، عبثا، مُصادَرَةَ حقه حتى في الدّفن : كانوا يريدون تصدير موته ، وتصدير قبره .. وجَعْل نعشه يدور ويطوف حول العالم كما كان هو يدور ويطوف بقضيته العالم بأسره قبل أن يهلكه الأعداء بكثير من التّشَفِّي وبكثير من التعذيب .. ومع ذلك ، فهو يغيض الأقزام في موته كما في حياته. وتلك هي الزعامة ، ودُونَها الخواء الخاوي .