أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عبد ربه، ربطته علاقة قوية بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي أشركه في لقاءاته مع القادة وفي القرارات الصعبة، وبينها انطلاق الحوار مع الولاياتالمتحدة ثم سلوك طريق أوسلو والمفاوضات المستمرة حتى اليوم. في حوار مطول لصحيفة «الحياة» اللندنية يكشف عبد ربه كثيرا من الخفايا التي رافقت تلك المفاوضات، وأسفرت عن هذه النتائج. - وحصل 11 شتنبر؟ < في 11 شتنبر شاهدت المأساة على التلفزيون وانتقلت بالسيارة من رام الله إلى غزة. كان هناك أبو عمار. وخلال انتقالي، كلموني على التلفون ليخبروني أنه تم تحميل تنظيم فلسطيني المسؤولية عن الهجمات، فاضطررت إلى التكذيب من دون أن أرجع إلى أحد. بعدها صارت التلفزيونات الأمريكية تعرض صوراً لأطفال فلسطينيين يوزعون حلوى ويرقصون في الشوارع. المهم وصلنا إلى غزة. دخلت إلى مكتب أبو عمار وكان يمشي بقلق وكنا وحدنا. قال لي: هذه لا يمكن أن تكون عملية من الخارج، يفترض أن تكون من الداخل. كان خائفاً من أن يكون مرتكبو العملية فلسطينيين. - كأنه يحاول إقناع نفسه؟ < لأن الطائرات ترتبط ذهنيا دائماً باحتمال كبير أن يكون وراءها فلسطينيون. نحن متخصصون في خطف الطائرات ونسفها. لذا كان خائفاً من هذا الاحتمال. عرضت عليه إرسال برقية إلى جورج بوش فوراً بالإدانة والتعاطف. كتبنا البرقية بسرعة وأرسلها. قلت له إن بوش لديه الآن عشرة آلاف برقية ولن ينتبه أحد إلى برقيتك، واقترحت عليه أن يقدم على خطوة رمزية كالتبرع بالدم تضامناً مع الشعب الأميركي ضد هذا العمل الإرهابي. قام بذلك، لكن مشكلة ياسر عرفات أنه كان يعتقد أن هذا الأمر يكفي، ففي الأسابيع التي تلت كنا نتحدث عن وجوب حصول انعطافة سياسية في الموقف الفلسطيني، أهم ما فيها وقف العمل المسلح ووقف العمليات المسلحة كجزء من الانتفاضة. - هل كان أبو مازن مع هذا الرأي؟ < كان في طليعة من كانوا مع هذا الرأي. كنا نقول: لتستمر الانتفاضة بأشكال مختلفة كعنصر ضغط حتى رغم مجيء شارون. ربما لم يكن عرفات قادراً على وقف الأعمال المسلحة لأن ليس كل شيء في يده، فليس لدينا جيش نظامي، لكن كان بإمكانه بذل جهود أكبر، غير أنه لم يكن يرى أن الوحش الأميركي أصبح مسعوراً ولا يجب الاصطدام به في ظرف كهذا. - وكان هناك شارون؟ < كان شارون يريد انتهاز هذه الفرصة لنهش الفلسطينيين والانقضاض على أوسلو وكل ما تم إنجازه. ياسر عرفات لم يدرك ماذا تعني 11 شتنبر في أمريكا. شارون فهم القصة واستخدمها ضدنا إلى أقصى حد وزادت الطين بلة فضيحة كارين. - السفينة كارين اي؟ < أعتقد أن الاستخبارات الإسرائيلية كانت على علم بأمر السفينة وصفقة السلاح منذ البداية، وتركوها تصل إلى المياه الإقليمية الفلسطينية، وألقوا القبض عليها وجروها وعرضوا الأسلحة لإثبات أن عرفات لا يريد الوصول إلى تهدئة وإنما يريد فتح أكثر من جبهة. - هل كانت للسلطة علاقة باستخدام السفينة؟ < ياسر عرفات اكتفى بنفي هذه التهمة واعتبرها حسب تعبيره المحبب، «اتهامات سخيفة»، وكان يقول: ما حاجتي إلى هذا السلاح، وكان يرفض هذه التهم. البعض نصحنا بأن يرسل عرفات إلى بوش رسالة يقول فيها إن هذا خطأ وقع. - في رأيك، هل كان هدف جزء من العمليات الانتحارية التي كانت تنفذها «حماس» و«الجهاد» تقويض سلطة عرفات؟ < الهدف الرئيسي لبعض هذه العمليات لم يكن إلحاق الأذى بالإسرائيليين، وإنما إضعاف السلطة الفلسطينية وتقويضها وإضعاف عرفات تمهيداً لبديل آخر، وهو الحلول مكانه. - هناك أشخاص من «فتح» نفذوا عمليات انتحارية؟ < بأعداد محدودة. كان عرفات موزعاً بين اتجاهين، اتجاه يقول: ما داموا يعاقبونني هكذا فإنهم يستحقون تلقي الرد بهذا الشكل، ولماذا اصطدم بالحركة الإسلامية أو بجماعات داخل «فتح»؟ دعوهم يعرفون أن ياسر عرفات هو في النهاية صمام الأمان الذي يجب أن يأتوا إليه لتهدئة الوضع. لم يكن قادراً على استيعاب أن هذه اللعبة لم تكن تصلح لذلك الظرف، لأن شارون كان لديه غطاء أمريكي إلى أبعد الحدود. - حوصر عرفات عام 2002 واستمر الحصار حتى وفاته. كيف كان سلوكه وهو محاصر؟ < كان يحب الحصار، إذا صح التعبير. في ظل الأزمات يشعر بأنه أصبح محط اهتمام ويصبح في حالة عصبية متيقظة ولديه استعداد عال للعمل والكفاح، وهو يريحه كثيراً لأنه شخص يتمتع بنشاط عال. في الحصار الأول لم أكن معه، بيتي بعيد عن قصره بمئات الأمتار، وقطعوا عنه الاتصالات، لكني كنت أحاول بوسائل مختلفة أن أبقى على اتصال هاتفي به، وكنت الناطق الوحيد الرسمي باسم السلطة والمنظمة من بيتي، إلى حين اقتحم الإسرائيليون المنزل خلال الحصار كنوع من الرسالة. وبعد مرور شهر من حصاره، سمحوا لعدد محدود منا بزيارته. ذهبنا تحت حراسة سيارة عسكرية إسرائيلية. ولما دخلنا إلى المقر، كانت الرائحة قاتلة، في غياب المياه، في كل أجهزة الصرف الصحي التي كان يستخدمها مئات من الناس، وهي ستة مراحيض. دخلنا على عرفات ووجدنا أمامه حلقات كبيرة يكتب ويوقّع، لا فاكس ولا تلفون ولا أحد تتواصل معه، فكيف توقّع على أوراق؟ لكن حتى معنا، ونحن الأقرب إليه، كان يحرص على إعطائنا انطباعاً بأنه هو القائد، وأنه في كل لحظة يواصل دوره ويقوم بمسؤولياته في شكل كامل. - كان شجاعاً؟ < هو يتألق في ظرف كهذا. جلسنا معه، لكن الرائحة قاتلة والهواء غير نظيف، النوافذ مغلقة، الظلام، وهذا الرجل الكبير في السن يعيش في هذه الحال المأسوية، فكنا نكرر زياراتنا للتشاور معه قبل فك الحصار عنه، وكان يسمح لنا بأخذ حقائب يدوية، وكنت أهب سجائر للحرس، سألت عن نوع الأكل الذي عنده، وكان كله طعاماً جافاً. فتحت الثلاجة لدي ووجدت قطع لحم ودجاج فوضعتها في الحقيبة وحملتها ووصلت إلى المقر وقلت لهم اسلقوها فقط من أجل تناول شيء دافئ، اعملوا حساء، أي شيء، ورجعت في اليوم الثاني، فقالوا رميناها، لأن ياسر عرفات قال عندي 400 شخص، ستكفي مَن؟ لم يقبل أن يختلف طعامه عن طعام البقية، كان إلى هذه الدرجة يساوي نفسه مع الآخرين، لكنه كان يقظاً سياسياً ولم يكن يحب إظهار ضعفه، وأعتقد أن أمراضه الداخلية والتي كانت بأمعائه تفاقمت وكان دائماً يشكو من التهاب معوي ويعالجه بالأعشاب ويرفض اللجوء إلى الأدوية، وفي تلك المرحلة، وبسبب نوع الحياة والغذاء وثقل الهواء الذي كان يتنفسه، تفاقمت أمراضه. استقبل عرفات عدداً من الوفود وبينها وفد كولن باول، الذي سمع منه عن معاناة الحصار وأنه بذل جهوده لإيقاف المأساة بما فيها العمليات الانتحارية، لكن ليس كل شيء في يده، وكان رأي الأمريكيين في حينه أن ليس المطلوب مائة في المائة نتائج وإنما مائة في المائة جهد. وعاد أبو عمار إلى محاولة إبراز أن لا مسؤولية عليه وأنه أدى واجبه بشكل كامل وأن الإسرائيليين استخدموا أسلحة محرمة. فقال له باول: أنا لا أعرف الآن هل أنا ديمقراطي أم جمهوري، لكن أعرف شيئاً واحداً هو أنني صديقك الأخير الآن في واشنطن. - هل تعتقد أن عرفات تعرض للتسمم قبل نقله إلى في باريس لمعالجته؟ < لست متأكداً من ذلك، ولا أدلة عليه. لا أستطيع أن أجزم بأنه لم يكن هناك تسمم، لكن الفرنسيين وضعوا التسميم احتمالاً أول حين وصل عرفات إلى فرنسا. وأجروا كل الاختبارات على كل أنواع السموم المعروفة وغير المعروفة، ولم يجدوا أثراً للتسمم، ما وجدوه هو التهاب شديد ومزمن في الأمعاء الغليظة والدقيقة، وتحول إلى نوع من التسميم للدم وأدى إلى تناقص صفائح الدم، بمعنى أن المشكلة مرضية ناتجة عن إهمال في معالجة المرض وحالة التسمم البطيء الذي كان يجري. - هل تفتقد ياسر عرفات؟ < جداً، وفي كل لحظة. لم أكن أخجل حين أقول أنا عرفاتي، ما أعجب محمود درويش هو أن ياسر عرفات لم يترك أثراً مكتوباً. والعرفاتية هي نهج براغماتي مفتوح، له مبدأ واحد هو الإخلاص للمصلحة الوطنية الفلسطينية، للاستقلال الوطني الفلسطيني.