المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    موظف بالمحكمة الابتدائية بطنجة خلف القضبان بتهمة النصب وانتحال صفة    الكشف عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة    المغرب يستعد لإطلاق 5G لتنظيم كان 2025 ومونديال 2030    ينحدر من إقليم الدريوش.. إدانة رئيس مجلس عمالة طنجة بالحبس النافذ    الفتح الرباطي يسحق النادي المكناسي بخماسية    أمن البيضاء يتفاعل مع مقطع فيديو لشخص في حالة هستيرية صعد فوق سقف سيارة للشرطة    رابطة حقوق النساء تأمل أن تشمل مراجعة مدونة الأسرة حظر كل أشكال التمييز    بوريطة : العلاقات بين المغرب والعراق متميزة وقوية جدا        ميداوي يقر بأن "الوضع المأساوي" للأحياء الجامعية "لا يتناطح حوله عنزان" ويعد بالإصلاح    الملك محمد السادس يعزي أفراد أسرة المرحوم الفنان محمد الخلفي    "البيجيدي": حضور وفد اسرائيلي ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب استفزاز غير مقبول    موانئ الواجهة المتوسطية: انخفاض بنسبة 17 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري عند متم نونبر الماضي    "نيويورك تايمز": كيف أصبحت كرة القدم المغربية أداة دبلوماسية وتنموية؟    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    متضررون من الزلزال يجددون الاحتجاج على الإقصاء ويستنكرون اعتقال رئيس تنسيقيتهم    حملة اعتقال نشطاء "مانيش راضي" تؤكد رعب الكابرانات من التغيير    دياز يثني على مبابي.. أوفى بالوعد الذي قطعه لي    "بوحمرون" يستنفر المدارس بتطوان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء            الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    أخبار الساحة    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط        فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بِرْلينُ..وردة بلارائِحَةٍ!
نشر في العلم يوم 03 - 05 - 2013

الطفولة بريئة..تعشق الورْد، ورائِحَتَه الزكية، عندما تفتح نوافذَها في الصَّباحاتِ الربيعية على الطبيعة. لكنّها تَحْذَر منه، إذا لَمْ يُنْعِشْها بتلك الرائحة، وتَخْشى جَمالَه الساحر، وتَحْتاط من ساقِهِ الْمُشَوَّك!..هكذا هي العواصِم الغربية، ومنها برلين!..فهي من الْمُدن الْحالِمة، التي تُبْهِرك بِحدائقها الغَنّاء، وتُتْحِفك بآثارها الْموغلة في التاريخ، وبنَهْضتِها الصناعية..غير أنّها تصدمك بشُحوبِ وجوهها، وذُبولِ عُيونِها، وشُحِّ كلامِها وابْتسامِها، فلاتشعر بوجودك الإنساني، وتلك هي مُعْضلة الشعوب الأروبية برمّتها!
في الربيع الْماضي، دعَتْني الْمَجْموعة الإعلامية للمُشاركة في ندوة حول ثقافة الطفل ببرلين، فكنت أرتاد، صباحَ مساءَ، شارعا طويلا، يَمْتدُّ من بُرج الْمَدينة إلى قوس النصر، أطلقتُ عليه اسْمَ ((شارع الْمَتاحِف)) لأنه يَحْتوي على العديد منها، وعلى حدائقَ مزينةٍ بالتماثيل والْمُجَسَّمات كالدباباتِ والْمَدافع. بل إنّ هناك أرصفة، أرضيتها زجاجية، تَمُرُّ فوقَها فتجِد الْعَشراتِ من الْمارِّين، يقفون لَحَظاتٍ مُطَأْطِئي الرؤوس، ليقرأوا الوثائقَ والاتفاقياتِ والْمُعاهداتِ التاريخيةَ، ويشاهدوا الصور والرسوم والْخَرائط، الْموْضوعة بطريقة فنية على طاوِلاتٍ تَحْتَ الصفائح الزجاجية السميكة. أي تقريب الْحَقائق التاريخية، والْمَعْرفة الشاملة، والثقافة العامة من الراجلين. فهناك من لاقابلية له أنْ يزور الْمَتاحفَ، أوْينفر من مُزاحَمة أكتاف الزائرين، أولايسمح وقته بذلك. وبِماأنّني لاأعرف اللغة الألْمانية، فقد صورتُها كاملة، واحدةً واحدةً، وأحضرتُها معي إلى الْمَغرب، ليترجِمَها لي بعض الأصدقاء. وإنْ كانَتْ تُرافقني، أحيانا، مترجِمة سورية في عُمْر الزُّهور، يبدو أنَّها طالبة وتشتغل في أوقاتِ فراغِها، تُسَمَّى (سُهى مُحَبِّكْ)!
وأذكر من بين هذه الْمَتاحف، واحدا يركُن في زاوية، كأنه دُكان، يتألف من غرفة واحدة، لَمْ يَجْذِبْني لأوَّل وَهْلةٍ، فقلتُ في نفسي: لاداعيَ لزيارته. غير أنني شاهدتُ صفا ضخما من الزائرين أمامه، فعدتُ أقول لَها في سَريرَتي: عُذْرا، سيدتي، لقدْ تسرَّعْتُ في حُكْمي، فرُبَّما يوجد في النهر مالايوجد في البحر..!
وتقدمتُ إلى الصف آخذُ دوري بين الْمُصطفِّين، فلاحظتُ أنّ من يدخل الْمتْحفَ يلقي نظرةً خاطفةً، ثُمَّ يَخْرج منه بسرعة، لايتجاوز ثوانِيَ مَعْدوداتٍ، كأنه في سباق عشرين مترا!
ولَمَّا حَلَّ دوري، خطوتُ داخل الغرفة ثلاثَ خطواتٍ فقط، فوجدْتُني أمام تِمْثال نُحاسي لامرأةٍ من القرن الْماضي، مُلَفَّعَة الرأس، تَحْتَضِن طفلا بِحُبٍّ وحَنانٍ. فقلت بيني وبين نفسي: ليس ثَمَّةَ شك في أنّ هذه الْمَرأة تَخْتَزِن سِراّ غامِضا، وإلا لِمَ نَحَتوا لَها تِمْثالا، لَوْ لَمْ تَقُمْ بِعَمَل جيد؟!
اِنْصَرْفْتُ لِتَوِّي من الغرفة، بعد أن الْتَقَطْتُ صورةً لصفيحة معلقة بالْحائط، تَحْكي سِرَّ التِّمْثال الأنثوي!
في الْمَساء، قبلَ أنْ أدخل قاعةَ الندواتِ، التقيتُ بِمُستشرقة شابة، فاغتنمتُ فرصةَ اللقاء، وقدّمتُ لَها صورتي الْمَرأة والصَّفيحة. فانفرج ثَغْرُها الوردي عن ابتسامة رقيقة، وقالتْ لي:أنتَ، الآنَ، تكتشف أسْرارَ النَّهْضة الألْمانية، شيئا فشيئا، رغم أنك لاتفقه حرفا من
لُغَتها، ولَمْ تدرسْ تاريخَها، لاالقديمَ ولاالْحَديثَ...!
قاطعتها ضاحكا، وأنا أهُزُّ كتفَيَّ:كيف؟!..إنه مُجرَّد تِمْثالِ أمٍّ تَحْضُنُ طفلَها، لاعلاقة له الْبَتَّة بالتاريخ!
أجابتني باسِمة:أصْغِ إلَيَّ!..عِنْدما هَجَمَ الْحُلفاءُ على ألْمانيا، وحطّموا أعلاها على أسفلها، حتى أصبحتْ رَميماً. كانوا يَمُرُّون بين الأنقاض ليبحثوا عن بقايا الأحْياء من الْجُنودِ الألْمان، وإذا بضابط، يسمع صوتا أنثويا، يَحْكي قصةَ الطفل الذي أتى بِشُعاع النور من بلد بعيد ليضيئ مدينته. فأمر الْجُنودَ برفْع الْحُطامِ عن ذلك الْمَكان الذي يصدر منه الصوت. وفاجأهُمْ أن يَجِدوا أُمّا وابْنَها مُتَعانقين، وبين يديهما كتاب صغير للأطفال، تقرأ منه الأم القصة!
قال الضابط لِلْجنود بثقة:إنَّ دولةً أنْجَبَتْ مثلَ هذه الْمَرأة، لايُمْكِنُ القضاء عليها، فعلينا بالرحيل من هنا حينا!
وصِدْقاً قال الضَّابطُ، لأنه لولا قراءة الكتب، التي تُذْكي العقلَ، وتفتح الذهنَ، وتنمِّي الفكرَ، وتُرْهِف الإحْساسَ، لَمَا كنّا من أوائل الدول الغربية تطورا وتقدما في العالَمِ.ومازالتِ الأمَّهاتُ يَحْكين لأولادِهِن وبناتِهِن، برغْم ظُهور الشبكة العنكبوتية، التي تأتيك بكل شيء جاهِز، من نصوص قصصية ورسوم وصور جذابة، لأن قراءةَ الكُتب، لاتعدِلُها أوتُعَوِّضها آلاف الأشرطة السينمائية ولاالتلفزية والْمواقع العنكبوتية...!
إذن، هذا سِرٌّ من أسرار أروبا وأمْريكا واليابان والصين أيضا. ونَحْنُ ندعو شعوبَ الْجَنوب إلى مُحاربة الأمية، أي إلى معرفة كتابة وقراءة الرسائل والعناوين والبطائق والأسْماء والأرقام، وماشابَهَ ذلك، لكننا لاندعوهم إلى مطالعة أُمّهاتِ الْمُؤلَّفات والْكُتب والْمَوسوعات الأدبية والفلسفية والعلمية والسياسية، التي تبعثُ على التساؤل والشك، وتُعيدُ النظر في كلِّ شيءٍ. وهذا ماتَحْتاجونه في بُلْدانِكُمُ الْمُتَلهِّية بالقيل والقال، وكثرة السؤال!
قاطعتها مستغربا:ولِماذا؟!..هل تَخشون أنْ يتفوقوا عليكم؟!
أجابتني ضاحكة:لا، حتى لو شرعوا في ذلك، فإنّ الأمرَ يُلْزِمُهُمْ كي يَلْحَقوا بنا سنواتٍ طويلةً، ولكننا نَخْشى أنْ نَفْقِد سوقا تِجاريةً، هي الْعَمود الفقري لِحَركتِنا الاقتصادية والإنْتاجِية!
فكرتُ طويلا، ثُمَّ قلتُ لَها، كاتِما حُزْنا في صدري:كم يَلْزمنا من أم وأبٍ، كي ننهض من كبوتنا؟!..أم علينا أن نكون، أولا، الأبَ والأمَّ، لنحصل على تلك الْمَرأة العظيمة؟!
في تلك اللحظة، نودِيَ علينا لنلِجَ قاعةَ الندواتِ، فألْفَيْناها غاصّةً بالباحثين والصِّحافيين والطلبة، ومُصَوِّري وسائل الإعْلام الْمَكتوبة والْمَرْئيةِ. وتولَّتِ الْمُترجِمَةُ (سُهى) نقلَ مداخلتي من العربية إلى الألْمانية، وبترجَمَة أسئلة الْحاضرين إلَيَّ. ولَمَّا أكْمَلْنا ندْوتَنا، قابلتني قائلةً، كأنّها تريد أنْ تُبْرِئَ ذِمَّتَها:عفوا!..لقد أسَرَّ إلَيَّ البعضُ بأنَّهُمْ سيحذفون جزءا من مداخلتك!
وكأنني عثرتُ على كنز، فقلتُ لَها:لاعليك!..سأكون مسرورا لويفعلون، لأنَّ لي ملاحظات على أروبا، أبْحَث لَها عن أدلةٍ وبراهينَ، أعَزِّزُها بِها!
ردّتْ عليَّ، وهي تنصرف:على كل، أنا لاعلاقة لي بِحَذف الفقراتِ الْمُتَعَلِّقة ب....!
وبينما كنتُ أنصرف من القاعة، لَحِقَتْ بي الْمُستشرقة الشابة:هل ترافقني إلى مطعم تشي غيفارا؟
سألْتُها غيرَ مُصَدِّقٍ:أحقا ماتقولين؟!..أما زال من يذكر هذا الْمُناضل العُضْوي؟!
أجابتني:أجل، إنه لايبعد عن هذه البناية إلابِخَمْس دقائقَ!
وكم هالَني أن أجدَ هذا الْمَطعمَ مكتظا بالزبائن، أكثرهم أسنانُهم سوداء ومَخرومة، وسقفه أسود بدخائنِهِم، وأضواء مصابِحِه خافتة، تكاد لاتُبينُ لك شيئا، كأنك في قاعة مؤتَمرات الْجِن. وطاولاته خشبية مُهْترئة، وجدرانه مُزَيَّنة بشعارات حَماسِية، وصور كارل ماركس ولينين وفْريدْريكْ إنْجلز وتشي جيفارا وفِدِيلْ كاسْتْرو، وباقي أعلام الثورة الْحَمْراء، فأحسَسْتُ كأنني عُدْتُ إلى الستينات من القرن الْماضي. وليس الْمَطعم فقط، ولكنْ، حتى الْحَدائق، تواجهك فيها تَماثيل مَنْصوبة لِهَؤلاءِ الزُّعَماء!
قلتُ لَها، وأنا أكاد أختنق، بعد أنِ ارتشفتْ شفتايَ سَحابةَ دُخانٍ كثيفةً، حلّقتْ فَوْقَ رأسي: مالنا وهذا الْمَطعم الشيوعي البئيس؟!..هيا نبحث لنا عن آخر هادئ!
ضَحِكتْ مني، وأمسكتْ بيدي، ثُمّ ساقتني إلى مطعم تركي، لَمْ نَجِدْ فيه إلاَّشخصين منزويين في ركنٍ قَصِيٍّ، يَحْتَسيان كؤوسَ النبيذ!
سألتني، ونَحْنُ نتناول شرائحَ اللحم بالْخُضر: قُلْ لي بصَراحة: ماذا قالَتْ لك الْمُترجِمةُ السورية؟
أجَبْتُها فورا: لاشيء!..جاءتْني لتودِّعَني فقط!..غيرَ أنني أودُّ أنْ أعْطيَكِ رأيي في ألْمانيا وأروبا التي يفتخِر بِها الكثيرون!
حَمْلقتْ فِيَّ بعينين ضاحكتين: ماذا يوجد في جُعْبَتك؟!..هيا، قلْ، أيُّها الْمُشاغِب!
أجبت ببرود: أقبل شتيمتك برحابة صدر!..لقد حقّقتْ ألْمانيا، بل الدول الغربية برُمَّتِها، تقدما عِلْمِيا وثقافيا وصناعيا كبيرا، وضَمِنَتْ لإنْسانِها حقوقا اجْتِماعية لاتُنْكَر، وشَيَّدتْ اقتصادا قويا، وحافظتْ على بيئتها بالتَّشجير والنَّظافة والْعِناية الطبية، إلَخ..لكنَّها مازالتْ تُعاني مشاكل شتى؛ ففي برلين وحدها، عشرةُ آلاف مُشَرَّد، بلاأكل ولادواء ولامأوى، يعيشون مُهَمَّشين في أطْرافِها!..ويكفي أنْ أقول لك إنني التقيتُ اليومَ أسرةً كاملةً، تعترض سبيلَ الْمارّة بأسْمالِها الرَّثَّة، طالبةً الصَّدقةَ!..كما أنّ امرأة في الْخَمْسينَ، فاجأتني، وأنا في الْحَديقة أتناول لُمْجَةً، بِخَلْعِ سروالِها، وهي تشير إلَيَّ بأنْ أفعلَ مُقابلَ اللُّمْجَةِ. فتركتُها لَها فوق الكرسي الطويل مع كعكة وقِنِّينة عصير، وأطلقتُ رجليَّ للريح، أجري نَحْو باب الْحَديقة..!
قاطَعَتْني بقهقهةٍ عالية، أزعَجتِ الشخصين الْمُنْزويين:لَمْ أرَ في حياتي امرأة تتَحَرَّش برجل!
أردفتُ:وأثناء تَجْوالي، في ساعة الظَّهيرةِ، لَمَحْتُ أكثرَ الْعُمَّال والْمُوظَّفين، يتناولون غذاءهم عند العرباتِ، التي تُهَيئ وجباتٍ خفيفةً، لاتُسْمِن ولاتغني من جوعٍ، والقلة تقصد الْمَطاعِمَ، بِما يعني أنَّ الْمُواطنَ لايستطيع أنْ يُؤَمِّن لبطنه الوجبةَ الْمُشْبِعةَ، ومايتقاضى في الشهر، رُبَّما يُنفِق نصفَه على الكراء، وبالتالي، فإنّه مازالَ يعاني من الْخَصاصة والْحِرمان. ثُمّ أين هي كرامةُ الْمرأة، عندما تصادفُك العشراتُ من بائعاتِ الْهَوى على قارعة الطريق؟!..أين التنمية الاجْتِماعية والاقتصادية، وجسم الْمَرأة يتحول إلى سلعة وبضاعة تُعْرَضان في السوق، كما كان عندنا في العصر الْجاهلي؟!..ولَمْ يُخْطِئ القائلُ: برلين فقيرة، لكنها مثيرة!..أي تَجْمَع النقيضين، فَهِي فقيرة من جِهة، ومن جِهَة ثانية جَذابة، تَجْعَل السُّياحَ والأدباء والفنانين يَزورونَها ويُقيمون فيها لرَخْصِها وبساطتها. وبرغم هذه العناية الفائقة بالثقافة والْموسيقى والتشكيل والآثار، فإن لَهْجَةَ البرلينيين خَشِنةٌ، وسُلوكَهُمْ فَظٌّ، ونظراتِهِم جافّة، ومَلامِحَهُمْ قاسِية، لَمْ تُلَيِّنْها الطبيعة الْخضْراءُ، ولاالورود والزُّهور التي تزيِّن حدائقَها. وهاكِ نَموذجا حيا: قصدنا، أنا وسُهى، مطعَما في أعْلى عِمارةٍ، تُشْرف على الْمَدينة، كأنَّها بُرْجٌ عالٍ. ونظامُ أكْلِهِ أنْ تأخُذي صَحْنا، تضعين فيه مايشتهي بطنك من أطعمة معروضة على طاولة، ثُمّ تتوجّهين إلى الصندوق، ليزِن الْقَيِّمُ صَحْنَك، وكُلَّما ثَقُلَ، كان الْمَبْلَغُ مُرتَفِعا، ولايهُمُّ نوعُ الأطْعِمة، فنصْفُ كيلو عَدَس، يُساوي مِثلَه سَمَكا ودجاجا ولَحْما وخُضَرا. وصادفَ في ذلك الْحينِ، أنْ حضر فوْجٌ سياحي من الفرنسيين، ليتناولوا غذاءهم فيه. فلَمّا حلّ دوري، وأدّيْتُ ثَمَنَ الصّحنِ، انصَرَفتُ إلى الْمائدة التي حَجَزَتْها لنا سُهى، فاعْتَرَض طريقي الْمُراقِب، وأشار إلَيَّ بِعُنْجُهِيَّةٍ أنْ أعودَ لأدْفَعَ ثَمَنَ الأكلِ، فضحِكْتُ منه، وقلتُ له، بِماترجَمَتْه له مُرافقتي، وأنا أُشْهِرُ له الوَصْل بِتَحَدٍّ، وأحركه يَمينا ويسارا عَمْدا:
مامَعْنى أنْ تُخاطِبَ الزَّبونَ بِهَذِه اللهْجة: تعال، أنتَ..عُدْ لتؤَدِّيَ الثَّمَنَ!..لوكان الفرنسي، مثلا، مكانَك لقالَ باسِما وبأدبٍ: من فضلك، سيدي، هل نسيتَ أن تزور الصندوق؟
لَمْ يَجِدْ مايردُّ به عليَّ، إلاّ أنْ يقولَ لي بفَمٍ مُقَوَّسٍ كأنبوب الإبريق:هل جئتَ من فرنسا لتلقِّنني درسا في مُعاملةِ الزّبائن؟!
رددْتُ عليه: بل جِئْتُك من العالَمِ العربي الْمُتَحضِّر..اُنْظُر إلى جوازي الأخضر لتتَيقّن!
وهُنا، التفت الفرنسيون إليه يضحكون منه ويهزُّون رؤوسَهُم مؤَيدين، وماكان من الْمُراقب، إلاأنْ خفض رأسَه خَجَلا، وانصرفَ!
ولنْ أُفْشِيَ سِراًّ إذا ذكرْتُ لكِ إنَّ فقراتٍ عادية جدا، حُذِفَتْ من مداخلتي، مثل: إن أروبا تشجع أطفالَنا على العنف، فسلسلة القط والفأر، توم وجيري، مثلا، تُظْهِر أحدَهُما حاملا فأسا، وهو يَهْوي به على رأس الآخر، أويضع قنبلةً في الْجُحْر، فتنفجر ليتحطّم الْمَنْزل كله على رؤوس قاطنيه!..أهذه هي حرية التفكير والتعبير التي يتمَشْدَقون بِها؟!..ولن آتِيَكِ بأمثلةٍ عنِ الْمواقِف الغربية تُجاهَ قضايا التَّحرر في الْعالَمِ، كالقضية الفلسطينية، ودَعْمِها للأنظمة الطاغية، وسَفْكِها لِدِماء مِئاتِ الألوفِ من العراقيين للسَّطْو على النفط، باسْم الْحُرية والديموقراطية. وماذا تقولين عن مُحاكَمة جارودي لِتشكيكه في الْمِحْرقة؟..أوعن سِجْنِ الْمُناضِل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، أزيدَ من خَمْسٍ وعشرين سنةً بِتُهَمٍ مُخْتَلَقَة (تَجاوز حاليا ثَمانية وعشرين عاما)؟!
وضَعَتْ يَدَها على فَمي: كفى!..أدرك جيدا أنّ تقدُّمَنا نسبي، ولولا تَحالُفاتنا مع تلك الأنظمة، لَمَا حَقَّق اقتصادنا هذا التَّطَوُّر الكاسِحَ. ففي بعض الأحْيان، ينبغي أنْ تدوسَ رجْلَ الآخَر لِتَمُرَّ، وهذا مايُفَسِّر الْمَثَلَ السائرَ: الغاية تُبَرِّر الوسيلةَ!..وألَمْ تَسْمَعْ بالْقَوْلة: إمَّا أنْ تكون اللحْمَ، وإمّا أن تكون السِّكينَ؟!
وسكتتْ قليلا، قبل أن تباغتني بسؤال:والآن، ماذا علينا أنْ نفعل، والساعة تشير إلى الواحدة صباحا؟!
قلت: سننصرف من هذا الْمَطْعمِ، لتوصليني إلى فندقي، وغدا نلتقي ثانيةً لتأخُذيني إلى البرج!
ثَبَّتَتْ عيْنَيْها في عيني:ألايوجد سرير آخر في غرفتك؟
أجبتها:إذا أردتِ، أسلِّمُك سريري لتنامي عليه، وأنا سأتَّخِذ الأريكة فِراشا لي، لكنْ، لا تَطْمَعي في شيءٍ آخرَ!
سألتني باسِمة:قيل لي إنَّ الْمَغْربيَّ يَتَمَيَّز بقُدْرتِه على...!
قاطعتها، وأنا أعانِقُها: لا تنسيْ أنَّك في سِنِّ ابْنَتي، أو أصغر قليلا، وأنا لَمْ أعُدْ أُشْغِل بالي بغير الأدب والثقافة، فَمَرْحلة الْمُراهقة ودَّعْتُها منذ سنواتٍ!
تلأْلأَتْ عيناها، وقالتْ:اِتَّفَقْنا، وأعِدُك بألآَّ أفعل مافعلته الْمَرأة الْخَمْسينية في الْحَديقة، وإنْ كنتُ أشتهي مغربيا، ولوكان كَهْلا!
وكذلك كان، فقد أمْضتْ تلك الليلةَ على سريري، وأنا على الأريكة، أتقلّب كلّ دقيقة على جَنْبَيَّ، حتى أزْعَجَها تقلُّبي، ولَمْ تَسْتَطِعْ أنْ تنامَ، فقالتْ لي مُتثائبةً:لا تَكُنْ عنيدا، وتعالَ ترقُدْ جَنْبي، وليَطْمَئنَّ قلبُك، سأضع حقيبتي حاجزا بيننا!
اِعْتَذَرْتُ لَها قائلا:ستذكِّرني حقيبتك بِجِدار برلين الفاصل!
تساءلتْ: ولِمَ لانُحَطِّمه؟!
برّرْتُ لَها ذلك: أخشى أنْ نرقصَ فرحا بتَهْديمِه، فنُزْعِج النائِمين!
وفي اليوم التالي، أخَذتني إلى بعض الأحياء، التي تفصل بعضها عن بعض حدائقُ، مايَعْني أنَّ برلين كانتْ مَجْموعةً من القرى الْمُتقاربة، فتكونتْ مِنْها الْمَدينة. ويوجد بِها أكثرُ من أرْبعِمِئةِ ملهى وحانة، مُصْطفّة على جانبي الأرصفة، مثلَما عندنا بالنسبة للمقاهي والْمَحْلبات والْمَلْبنات والْمَقْشدات. ولعل منطقة (مِيتا) أشْهرها، إذ يستحيل أنْ تعثر على مكان خالٍ فيها، إذا لَمْ تَحْضُر باكرا، فتحجِز لك مقعدا. ثُمّ توجّهنا إلى سور برلين الذي أقيم في 13 غشت 1961 ليفصلها إلى منطقتين، شرقية وغربية، وسقط في 9 نوفمبر 1989. وقادتني الْمُترجِمة إلى ساحة، كانتْ من قبلُ حَداًّ فاصلا، ياوَيْلَ مَنْ تُسَوِّل له نفسه بالدُّنُوِّ منه، فإنّه سيلْقى حَتْما حَتفَه على أيدي القناصة، ويُدْعى (دَرْب الْمَوْت)!..ومازالتْ هناك قطعة من الْجِدار العازل، تُذَكِّر الزائرين بتلك الْحِقبة السوداء. بِها نقطةُ تفتيش وهْمِية، يُطْلقون عليها اسْمَ (تْشارلي) تسْحَبُ منها جَوازَ سَفَرٍ بأورَيْن، يعود شكلُه إلى الْحَرْب العالَمِيَّة الثانية، ثُمّ تَخْتِمُه عند جندي مُزَيَّفٍ بأورو، لتجتاز النقطةَ إلى متحف (تْشيكْ بْوينتْ تْشارْلي) الذي تُشاهد فيه كلَّ مايتعلَّق بتلك الْمَرْحلة السوداء من صور وخرائطَ ووثائقَ...!
وهُناك وسيلتانِ مُمْتِعتانِ للتجْوال في برلين: الأولى نَهْرية، وهي أنْ تَمْتَطِي سفينةً سياحيةً، تسير بك عبر نَهْر(شبراي) لتقطع بك الْمَدينةَ، من قَلْبِها إلى غربِها، حتى تصلَ نَهْرَا آخرَ، يُسَمَّى (الْهافل) وخلالَ هذه الْجَوْلة، تُشاهد أهَمَّ الْمَتاحِف والْحَدائق، التي تُحيط بالْمَدينة، كالسِّوار بالْمِعْصَم. والثانية جوية، وهي أنْ تصعَدَ مئةً وخَمْسينَ مترا في مُنْطادِ (فيلْتْ) الذي يَعُدُّونه الأكبرَ في الْعالَم، أوالبرجَ بوسط الْمَدينة، فترى كلَّ أنْحائِها وشوارعِها الكبرى وحدائقِها ومعالِمِها التاريخية..!
لاتَتَمَيَّز برلين عن مدينة إفْران إلابِمَتاحِفِها وآثارِها، وتَماثيلِها الْمُقامةِ هنا وهناك، وبِكِبَرِها وشَساعَتِها. لَكِنَّها في النِّهاية، تشكِّل مَجْموعةَ (إفْراناتٍ) بأشْجارِها وحدائقِها وشوارِعِها ومِياهِها الْمُتَدَفِّقةِ، وبساطَتِها في العيش والبناء..!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.