هل كان لابد أن تلجأ الحكومة إلى إصدار قرارها باقتطاع مبلغ 15 مليار درهم من الميزانية لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية الحالية؟.. إنه قرار مثير سواء بإيجابياته، إن كانت له إيجابيات، أو بسلبياته التي قد تعصف بمخططات ومشاريع وتضرب عمق بعض الإنجازات التي كانت في طريقها إلى التحقيق. ولأنني لست خبيراً اقتصاديا يمكن أن يُعتدَّ برأيه، فإنني سأترك هذا القرار جانبا، وأحاول أن أنبُش في بعض الأسباب التي دفعت بالحكومة إلى اتخاذ هذا القرار، ولم أر في كل هذا إلا محورا واحدا يتمثل في الفساد. لو تمكنت الحكومة من محاربة الفساد الذي استشرى في كل القطاعات في طول المغرب وعرضه لما اضطرت إلى قرارها هذا. كل الوزارات وكل القطاعات، معنية بهذا الفساد. بعض الجماعات المحلية تتصرف في مجالها الترابي وكأنها تُسيّرُ ضيعة فلاحية يملكها رئيس أعضاء هذه الجماعة، يتخذون قرارات بيع وشراء الأراضي دون صفقات، ويحتالون على القانون والدولة، ويستفيدون وينهبون الملايير، وما وقع مؤخرا في الصويرة خير دليل على ذلك، ولو سارعت وزارة الداخلية كوزارة وصية إلى الوقوف على هذه الخرق السافر للقانون لتجنبت خزينة الدولة خسارة فادحة. وزارة الفلاحة عجزت حتى الآن عن استرجاع أراضي صوديا وصوجيتا التي سبق تفويتها في ظروف غامضة، أراضي لم يتم احترام بنود العقد المبرم بين الدولة والمستفيدين منها. كل الوزارات تشكو من خطر الموظفين الأشباح، ولا أعتقد أن المسؤولين سيملكون كامل الجرأة لضبط هؤلاء الاشباح، لأنهم يتمتعون بهذه الصفة، لكونهم يستفيدون من حصانة الجهات النافذة، وهي جهات لها نفوذ قد يؤدى إلى ما لا تُحمد عقباه على كل من يمس شعرة من هؤلاء الأشباح. والدولة مازالت تدافع عن المسؤولين الذين يتقاضون الرواتب الخيالية، والذين يوجدون في صدر العشرات من المؤسسات العمومية، أولئك الذين يتقاضون أضعاف أضعاف ما يتقاضاه رئيس الحكومة والوزراء. امبراطورية «بلاص بيتري» وما أدراك ما هي هذه الامبراطورية، هذه المؤسسة العمومية التي تتصرف في أموال الدولة وتوظفها وتجني الأرباح منها، يمكنها أن توظف آلاف الشباب العاطل، وأقول الآلاف، لكنها عوض أن تفعل ذلك، فهي تعتمد في جل توظيفاتها على المحسوبية والزبونية، بل أكثر من ذلك، فإنها بدل أن توظف الشباب تعمد إلى توظيف العشرات من المتقاعدين من إدارات ومكاتب ليستفيدوا من رواتب يضيفونها الى معاشاتهم، والأدهى من ذلك أن المهام المنوطة بهم يمكن أن يتكفل بها شباب من خريجي المعاهد العليا الذين يصطفون في طوابير التظاهرات والاعتصامات اليومية للمطالبة بحقهم في الشغل. والمغرب يتميز بكثرة المهرجانات، مهرجانات للسينما في كل مدينة، ومهرجان للرقص وآخر للأغنية، كل أيامنا مهرجانات والحمد لله، ونحن لسنا ضد المهرجانات، بل ما ينفق في هذه المهرجانات من أموال طائلة، إنها مهرجانات هامة ولا نقاش في ذلك، ونحن نصفق لها ونشجعها، ولكننا لا نصفق ولا نشجع التبذير الذي يرافق بعضها، من فنادق فخمة خارج التصنيف يستفيد منها كل من هب ودب ويحرم منها الفنانون، ومن شاحنات محملة بأجود أنواع الخمور والشامبانيا التي تراق آناء الليل وأطراف النهار في هذه الفنادق تحت عنوان الاحتفاء بالضيوف. وكان حريا بالجهات التي تشجع مثل هذه المهرجانات أن تصب جزءاً يسيرا من هذه الأموال في ما يعود بنفع أكثر على هذا البلد. كان على الدولة وهي تقرر حرمان معظم الوزارات من جزء هام من ميزانياتها في حدود 15 مليار درهم، أن تُسارع إلى استرجاع الملايير من ناهبي المال العام الذين حوكموا وما زالوا يحاكمون، أين أموال البنك الوطني للإنماء الاقتصادي؟ وأين أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي؟ وأين أموال التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية التي مازال ينخرها الفساد؟ وأين المبالغ المحكوم بها من طرف محكمة العدل الخاصة التي انتقلت إلى عفو الله؟ وأخيرا فإن الموضوع أكبر من يُحصر في أمثلة قليلة، غير أن الأهم هو أن نتأكد من أن أولى البديهيات التي ستنقذنا من هذه الأزمة هو محاربة الرشوة والفساد واسترجاع أموال الدولة المنهوبة ومحاربة الريع، دون أن نختفي وراء تعليلات من قبيل العفاريت والتماسيح.