مع توالي الإصدارات القصصية وانتشارها المطّرد بين صفوف القراء، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، تؤكد القصة القصيرة، من جديد، أنها لا تزال ذلك الجنس الأدبي القادر على لفت الانتباه، من خلال ما توفره من إمكانات لغوية وتعبيرية تلامس، من خلالها، هموم الإنسان وقضايا المجتمع في تحولاته وتقلباته. ولأن الأمر كذلك، تحضرنا مجموعة قصصية جديدة للكاتب أحمد لطف الله، أثث بها مساره الإبداعي وآثر لها عنوانا دالا هو: «رباب من بياض». وهي مجموعة كتبت، كما يشير الكاتب نفسه، داخل فضاءات تتراوح ما بين مكناسوالبيضاء والرباط وفاس ووجدة، وما بين سنوات 1994-2010. وتضم خمس عشرة قصة قصيرة، تفاوتت حجما وموضوعا ودلالة، تحمل عناوين متفاوتة التركيب والصياغة، ما بين مفردة وجملة وشبه جمله، نذكر منها: (لعنة، مسافة، خيانة، مؤامرات، محنة البياض، بالأبيض والأسود، دمار المعنى، سفور وحجاب..). أول ما يسترعي الانتباه في هذا العمل، كعتبة نصية أولى يمكن الاحتكام إليها قبل مباشرة النصوص، هو لماذا اختار الكاتب «رباب من بياض» عنوانا؟. إنه عنوان يسم المجموعة بأكملها، من جهة، وهو أيضا، عنوان لأول قصة تحتضنها المجموعة، من جهة أخرى. ولعل في ذلك، إشارة قوية تنم عن وعي واختيار قصصيين يصدران عن الكاتب. يتألف العنوان، كما يظهر، من جملة اسمية تحيل رأسا إلى عنصري الزمان والمكان معا، كما تشير إلى البياض كفضاء مفتوح على اللون والحياد؛ بل وتمنح القارئ المتلقي افتراضات وتأويلات أوليةً تتباين بحسب نوعية القراءة. فثمة حضور للسماء والسحاب وللنور والامتلاء وللممكن والمحال وللانتصار والحياة، مع ما يقابل هذه الإحالات الأولية، على سبيل المفارقة والتضاد، من أرض وإنسان وظلمة وسواد وضيق وانهزام واحتضار وموت. فأية الدلالات القصصية التي تزاوج بين هذه المفارقات في هذه المجموعة؟ وماذا عن القضايا والموضوعات التي تعالجها، كأفق فني يروم إشراك القارئ المفترض في التأمل والمساءلة؟ وماذا عن الصنعة القصصية والطرائق التعبيرية، التي توسل بها الكاتب وهو يمرر رسالته الفنية والإنسانية؟ تتحرك نصوص هذه المجموعة في فضاءات متعددة، لعل فضاء المدينة كان الأكثر حضورا، من خلال تتبع الكاتب لشوارعها ودروبها وعماراتها ومنازلها وكذا غرفها، وبكل ما له صلة من قريب أو بعيد بعوالمها ضيقا واتساعا، ظلمة وإضاءة، ألفة واغترابا. مدن تحتضن كائنات بشرية يقدمها الكاتب في صور ومشاهد مختلفة وهي تصارع الحياة ما استطاعت وتواصل عيشها بما توافر لديها من إمكانات التعايش. يقول الكاتب: «عجيب أمر هذه المدينة، بقدر رحابة شوارعها، وضخامة أبنيتها الأسطورية، وعتاقة أزقتها بقدر ضيق نفوس أهلها، وتقلص مساحات التعامل فيما بينهم، فهم لا يتحدثون إلى بعضهم إلا للضرورة القصوى بعبارات يشتد إيجازها، أما الباقي من الكلام، فهو يصدر عن لغة العيون وتقاسيم الوجوه، حيث يبدو الاحتراس من أية كلمة طائشة لم تنتظم في سياقها الخاص بها.» (ص5). ولأن الإنسان مدني بطبعه، إذ هو دائم الحاجة إلى التعامل مع الآخر، رجلا كان أم امرأة؛ فإن لطف الله يطلعنا في نصوصه القصصية على أنواع وأسرار من العلاقات الإنسانية، التي تتأسس، تارة على الحب والعاطفة ، مثلما نقرأ له في نص (سفور وحجاب)، حيث يقول على لسان السارد: «شعرت برغبة في لمس هذا التدفق الأنثوي اللذيذ، لكن قمعت أناملي الطموحة وكبحت دمائي الفائرة. قلت وأنا أستدعي مشيها بحركات من يدي.. تواطأنا لأننا نعشقك معا، أنا والزمن؛ لما أخذت تتململ من مكانها وتتحرك ببطء وثقة أردفت هذا السؤال: - ألست سعيدة بالعشيقين؟ - الزمن عاشق مخادع.. أخشى أن تتركني له. أجابت خطواتها الثابتة وقد بدأت تطاوعني على المشي..» (ص28)؛ أو تتمظهر تارة أخرى، في أشكال الصراع والاحتيال والفقر والقهر وما سوى ذلك، يتابعها الكاتب في دقة متناهية، تقوم على توصيف المشاهد وتكثيف المواقف. يقول الكاتب في موضع آخر على لسان سارد قصة (صبيحة السقوط): «توقفت الناقلة بغتة عند مدخل مركز الشرطة، صعد شرطيان بسرعة وكأنهما كانا على موعد مع الناقلة، وأنزلاني بهدوء، أخذت أهبط الدرج وأنا ألتفت إلى السائق الذي المح إليّ بإشارات من يديه على أنه لم يفعل شيئا غير تنفيذ تعليمات» (ص56). هكذا نتابع عددا من الإشارات عبر هذه العلاقات واللقطات المذكورة، لنكتشف عمق ما تحمله شخوص المجموعة، من قلق وجودي ومن إخفاقات وانكسارات تدفع بها نحو مواصلة البحث عن سبل للخلاص وتحرير الذات وتطهيرها. يقول الكاتب: «وجه فاطمة الميت يبعث بداخلي ألق النضارة التي كانت تلون صفحته خلال الصباحات الجميلة، ووجه ولدي الشيطاني الذي تحفز للقيام بعمل ما، يفسد علي ذكرياتيّ المضيئة. تأملت هذا الماضي الذي جنيته، فتدفق أمامي أسود. ناديت على النادل ليحضر لي قهوة سوداء مرة ثانية حتى يكتمل السواد وتتفحم الجلسة.» (32). في هذا السياق، تواصل المجموعة مقاربة جملة موضوعات، متباينة الرؤى والدلالات، من خلال شخوص حقيقية وورقية في آن، تعكس حالات ومواقفَ متباينة قابلة للتأمل والمتابعة عبر تتبع دقيق لمسار حياتها اليومي، بما يقربنا من عالمها الخاص، فرحا وقرحا، وعبر تقطيع مشهدي يحيلنا رأسا إلى تقنية عالم السينما، سواء تعلق الأمر بعلاقة هذه الشخصية بذاتها وهويتها، من جهة، أو بعلاقتها بمحيطها وما حوله، من جهة ثانية. ففي نص (شريط النسيان) يقدم الكاتب صورا قاتمة وغائمة عن موظف أذاب شموع عمره في عمل كريه منذ أعطته جهات مسؤولة صفيحة نحاسية حفرت عليها عبارة «حارس مرحاض». يقول الكاتب على لسان السارد: «تضيق نفسه، يبصق على الباب الرئيسي للمراحيض، يدرك أنه لا يبصق سوى على نصيبه في الحياة وعلى نفسه. كان حنقه يشتد مع توالي الأيام، ويتنامى التوتر مع الإهانات التي تنهال عليه، حتى أمسك يوما بعصبية حفنة النقود ورفعها بيده فوق رأسه ثم صفع بها وجه الأرض..» (ص20) وحين قرر هذا العامل رفع شكاية إلى الجهة المعنية طال انتظاره ولم يتلق جوابا، مما دفع بالحنين إلى أن يعاوده ثانية داعيا إياه بالرجوع إلى مقر عمله. وبنفس الأفق التصويري، يقدم الكاتب مشاهد أخرى منتقاة عما يعانيه الإنسان من فقر وقلق وتوتر، جاعلا من «اليد»، كعضو من أعضاء الجسد الإنساني، موضوعا للحكي والمساءلة. وهكذا، يتابع الكاتب مغامرات هذه «اليد» ويصاحب تموضعاتها المختلفة في علاقتها بالموضوعات والأشياء (القلم، الكتابة/ الجسد، اللذة/ المعول،العمل/ القطع النقدية، التسول..). يقول السارد مختزلا مسار هذه السيرة: «اليد التي امتدت يوما إلى الورق، فهزمتها براءتُه، ثم انتفخت أوداجها بمحافظ النقود التي انتشلتْ، ليحولها السجن ومعول المقابر إلى تمثال حجري يمتد الآن في الهواء. أصبحت يدا سوداء كريهة ملوثة بدخان العربات الذي استقر سُخامه المتراكم بين شقوق الجلد وتحت الأظافر.» (ص61) ولأن الكاتب منشغل بهموم الإنسان وبرصد مشاعره النفسية والعاطفية، لا يني في رسم صور متفاوتة عنه، سواء في علاقاته بالمكان وبالزمان أو في علاقاته بكل التفاصيل اليومية التي يحياها، سلبا وإيجابا، مثلما نقرأ في قصتي: (دمار المعنى) و(خيانة) أو في قصتي: (مسافة) و(ليلة السقوط) وغيرهما، حيث تستوقفنا نماذج بشرية من الشخوص، وقد بدت مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى تحمل المزيد من القسوة والألم والكآبة لمواصلة الحياة. ومن ثمة تحضر شخصية المرأة في مواضع مختلفة، بما تعكسه من إشكالات اجتماعية وحقوقية، كما تحضر شخصية الرجل أيضا، بما يتناسب وطبيعة الموضوع. ولأن «البياض» كلون وعلامة وإشارة يؤثث فضاء النصوص ويرخي سدوله على الشخوص؛ فإنه لا يحضر بمعزل عن السواد. ومن ثمة يصير البياض والسواد لدى الكاتب، لونين يختزلان العالم والإنسان. يقول في نص «محنة البياض» على لسان سارده: «جسد أبيض يرتمي على إزار أبيض، بياض على بياض. أنظر إليها وأنا واقف إزاء السرير فتبدو لي وقد اختلطت بالأزرار، لا يميزها غير سواد عينيها وشعرها المنثور على الوسادة البيضاء وقد انفلتت لمسة من سواده واستقرت في وسطها.» (ص24). غير أنه، وهو يواصل الحديث عن هذا البياض وسحره، سرعان ما يكشف عن ألم عميق يعتري هذا البياض الأنثوي يحوله إلى بياض مشوه اعترته سمرة وقتامة كان سببَهما ما تفرزه الحياة من عنف وقسوة. يقول الكاتب في نهاية النص: « وبعد طول رنين، أتاني صوت أختها يدعوني للحضور في أسرع وقت ممكن.. وجدتها ممدودة، يلفها العويل والنحيب. كانوا يودعون أختا، بنتا، ابنة عم...، مصدر رزق للجميع، ولما أفسحوا لي في المكان رأيت جسدها ينتفض.. كان جسدا أزرق.» (ص26) لقد اعتمد الكاتب برنامجا سرديا متنوعا قائما على التقطيع المشهدي بحسب الرؤية وطبيعة الموضوع وانزياحاته، فيما استند إلى لغة قصصية متماسكة، تمتح من مرجعيات دينية وفكرية وفنية، تلامس الحكاية من جوانب عدة. كما توسل الكاتب إلى جانب السرد بتقنيات الوصف من أجل ضبط وتعقب الملامح المميزة للشخصيات القصصية ورصد أبعادها النفسية والاجتماعية، وبالتالي سبر أغوار مواقفها وسلوكياتها. لقد شكل البياض، بتداعياته المختلفة، مادة أدبية مركزية لمعالجة الواقع، الحقيقي منه والمجازي. بياض حمل في طياته عمقا ودلالة، واتخذ أشكالا متعددة الجوانب. يقول الكاتب في نص (فصوص لطائفية): «الأبيض يهزم زرقة البحر وكل الألوان، في البياض أستطيع الغوص بحرية تامة، أستطيع أن أتأمل الأبيض وقد حل في ورقة أو ثوب أو غيرهما، فأشعر بإنسانيتي تنجلي أمامي عارية بضة، الأبيض يجعلني أتذكر كل شيء... إنه الأبيض الذي يرحل بي في الزمن، يفتح ذاكرتي ويسلط نوره على ما بها فينكشف أمامي كل شيء، هذا الأبيض يعريني، يفضحني، يرعبني...» (ص17) أخيرا، ألا يكون البياض، في هذه المجموعة، مساحة للطهر والخلاص من ظلمة الحياة؟ ألا يكون البياض، من خلال الإحالة، غير ما مرة، إلى لون الغطاء إشارة إلى الكفن والموت والفناء؟ ألا يكون البياض، بين هذا ذاك، مساحة للتفكير والتأمل في الماضي والراهن والمستقبل؟.. لعلها بعض رسائل «رباب من بياض». ----- إحالات: * نص المداخلة التي ألقيت بمناسبة حفل تقديم المجموعة من تنظيم المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط يوم 26 يناير 1220 * رباب من بياض. أحمد لطف الله. التنوخي للطباعة والنشر. 2011.