1 التجلي الموضوعاتي: ويتمحور في حضور تيمة الرسم والتشكيل في القصة المغربية. في البداية يجب أن نميز الرسم عن التصوير والتشكيل، لأن الكثيرين يخلطون بينها ف «الرسم يتم بالخط فقط مع الاهتمام بعنصر الظلال أيضا، أما التصوير فيتم أساسا باللون. وفن التصوير كما يشير هربرت ريد يتضمن 5 عناصر رئيسية هي : إيقاع الخطوط، تكثيف الأشكال والفراغ، الأضواء،الظلال والألوان. واللون هو أكثر هذه العناصر أهمية بل هو جوهر فن التصوير.» (التفضيل الجمالي لشاكر عبد الحميد سلسلة عالم المعرفة ع 267 / مارس 2001 ص 248). أما الفن التشكيلي فهو غالبا ما يطلق على ما ينزع نحو التجريد والغموض. من هنا جاء بحثنا عن تجليات هذه الفنون ضمن القصة القصيرة المغربية. فمن خلال قراءتنا لكثير من المجاميع القصصية المغربية وجدنا أن حضور الرسم والتصوير والتشكيل، باعتبارها تيمات قليل، مقابل حضور موضوعات الطفولة والحلم وما له ارتباط بالذاكرة الشعبية أو الذاكرة الشخصية للكاتب، مما يكرس أن «ثقافة الأذن» هي المهيمنة على القصة المغربية على حساب «ثقافة العين» بتعبير عبد السلام بنعبد العالي، الذي يميز بينهما في كتابه «ثقافة العين وثقافة الأذن» (توبقال الطبعة 2/ 2008)، باعتبار أن العين لا بد لها من مسافة تفصلها عن موضوع رؤيتها . فإذا «التصق» الموضوع بالعين، فهي لن تتمكن من رؤيته. والعين حاسة المسافة والابتعاد والانفصال، كما تقترن الرؤية بالانعكاس والتفكير، والبصر بالبصيرة والنظرة بالنظر، والعين بالعقل. العين حاسة الصباح والنور. وهي لا ترى موضوعها رؤية جيدة إلا إذا استطاعت أن «تثبته» وتحدد أبعاده. إنها حاسة المكان. وعلى العكس من ذلك فالأذن تستلزم القرب وكلما ازداد الصوت اقترابا كان سمعها أرفع. وهي حاسة المباشرة والقرب والاتصال. وتقترن بالعقل و الحفظ و الذاكرة. والأذن حاسة الليل والظلمة، وبالتالي فهي حاسة الزمان. والثقافة التي تعتمد الأذن، هي ثقافة تاريخ وسرد ورواية، ثقافة شفوية لا ثقافة الكتابة و الصورة. ثقافة الصوت لا ثقافة الأثر. «الأذن دوما مفتوحة مستعدة للالتقاط، إنها حاسة «التلقي» بينما العين، على رغم صفائها، قادرة على أن تغلق نوافذها من حين إلى آخر. ثقافة الأذن ثقافة السمع و المحافظة. إنها ثقافة الوثوقية والتقليد، ثقافة ترضخ للصوت - المنبع، ولا تبتعد عنه بما يكفي كي تعمل فيه «فكرها». ثقافة الأذن هي على الدوام ثقافة سلطة: كل سمع طاعة» (ص 7 - 8 ). من هنا أمكن القول إن القصة المغربية، في مجملها، مرتهنة لثقافة الأذن، ولعل هذا القليل الذي عثرنا عليه لثقافة العين. الثقافة البصرية تسعف القول، و الوعي بالبعد البصري بدأ يتشكل وينمو في القصة المغربية. سنركز في هذا المحور على تيمة الرسم في القصة المغربية من خلال نماذج قصصية، ونبدي الملاحظات التالية: أ يستثمر الكتاب الرسم كوسيلة لتصحيح الأوضاع وتحقيق الرغبات كنوع من التعويض عن خيبات الواقع، ويمكن أن نمثل لهذا الأمر بقصة محمد العتروس «لوحة» من مجموعته « رائحة رجل يحترق»(1998) يقول السارد: «رسم الطفل ولدا يحمل حجرا رسم مسجدا بقبة محطمة ثم رسم جنديا غاضبا ينظر بحقد إلى المسجد الذي بقبة محطمة، ويصوب بندقيته نحو الولد الحامل الحجر. انطلقت رصاصات البندقية نحو الولد لكن الطفل. أوقفها بممحاته وسط الصفحة على بعد سنتمتر واحد من الجسد. أعاد الرصاصات إلى البندقية التي انفجرت للتو فوقع الجندي الغاضب ميتا. فتح الطفل قبرا في فناء الصفحة بعيدا عن المسجد، أعاد بناء القبة ثم رشق وجه الولد الحامل الحجر ببسمة حلوة ثم خرج . لكن الصفحة متذمرة قذفت الجندي الغاضب من أحشائها، وحطمت قبة المسجد وجردت الولد من الحجر» (ص38) الأمر نفسه نجده في قصة «ثأر» من مجموعة «إكواريوم» لعبد الحميد الغرباوي، جاء فيها: «الولد الذي يجلس اللحظة يرسم، منذ قليل كان يجهش باكيا .. شده الحنين إلى والدته، والده، أخته الذين أحرقتهم طائرة مغيرة فبكى.. يرسم الولد كوخا بمدخنة وحوله عشب، فلا دخان يخرج من المدخنة، ولا نداء يأتيه من عمق الكوخ، واخضرار العشب يتحول إلى اصفرار... يرسم الولد شمسا فلا تضحك .. عندليبا فلا يغرد، يرسم الولد طائرة حربية فتنطلق مسرعة لتحرق الأعداء ..» ب الاحتفاء بالرسام وطقوسه باعتباره فنانا / إنسانا غير طبيعي يحتاج طقوسا خاصة، وله وضع اجتماعي مختلف يحتاج إلى العزلة والصمت وعدم مشاركة الآخرين حياتهم حتى أقرب الناس إليه. ج توظيف أسماء الرسامين واللوحات خاصة المشهورون، إما على سبيل التأثيث، أو على سبيل التشبيه والتمثيل كما بقول أحمد لطف الله: « تموجات من النداوة ترخي شبقها المغري، وتسيل مثل ساعات سلفادور دالي. كومة نور ذائبة الانصقال و التجسدن « (قصة رباب من بياض ص 6) . د الارتكاز على اللون و تواؤمه مع بقية الألوان، وإدراك اللون من منظور بصري عالي الرهافة. يقول السارد في قصة «محنة من بياض» (ص23) : «أدركت أن البياض وحده سر الكتابة.» لكن المثير في هذه القصة أنها أقدر قصة على توظيف التصوير كتقنية، فنحن أمام لوحة قصصية فعلية وظف فيها الكاتب تقنية التصوير كما عرفناه سابقا. يقول السارد: « جسد أبيض، بياض على بياض. أنظر إليها وأنا واقف إزاء السرير فتبدو لي وقد اختلطت بالإزار، لا يميزها غير سواد عينيها وشعرها المنثور على الوسادة، وقد انفلتت لمسة من سواده واستقرت في وسطها(...) بياض واضح يحدثني، حتى وهي تضحك ملء فمها لم تبد غير أسنان بيضاء، أما لسانها الأحمر الذي يظهر ويختفي فقد انسجم لونه مع سواد شعرها، سواد يعوم في بحر البياض و لطخة حمراء صغيرة تذكي الجسد( ...) امرأة بيضاء عارية يضمها فراش أبيض» (ص24) ولعل أوضح مثال في توظيف الرسم، أي بالخط ووضع حدود الموضوع المرسوم فيتجلى في قصة « بالأبيض و الأسود « (ص43) حيث يقول السارد: «وجه يفيض عذوبة ومرحا، قسماته ترسم علامات الفطنة والذكاء، تقاسيمه رسمت بريشة الجمال، خداها ممتدان بصرامة ودقة وروعة، يلتقيان في أعلى الوجه عند محجرين مستديرين بشكل مناسب لمسافة الخدين، لذلك كان حجم عينيها متوسطا، لا هما بالغائرتين ولا البارزتين، لا يفصلهما عن صفحة الوجه غير مكان ضيق، يسمح لأهداب الجفنين أن ترتعش وتعبر عن أنوثة طافحة وألق تام، و ينتهي الوجه بذقن صغير لطيف يحمل ابتسامة ثغرها الفتان. وجهها يجمع بين الطفولة والرشد، يعتلي ممشوقا متناسقا متناسب الأبعاد ، يجعلها تنعم بهالة الجمال.» (ص44) إن معجم النصين طافح بالمؤشرات الدالة على الرسم ( لمسة ريشة - رسمت) كدلائل على هذا الوعي البصري المتقدم في هذه المجموعة، وعلى التمييز بين حدود الرسم والتصوير. ه نلاحظ ارتباط الرسم بالطفولة ، كما لاحظنا في قصة «لوحة» محمد العتروس و « ثأر» لعبد الحميد الغرباوي، ويمكن أن نظهر ذلك بشكل أوضح في قصة «روافد القصة» لإسماعيل البويحياوي، حيث يصير الرسم أحد روافد القصة لارتباطه بالذاكرة والطفولة حيث يقول السارد: «في الألبوم.. في ذاكرة التخييل، حصة الرسم. في الطفل، يقطف معلمي أحمد المومني من أصابعه السحرية شقائق النعمان ويغرسها في رحم اللوحة. يأتي الحقل إلى بيتي. ترتعش السنابل والورود والنحل في جسدي، فيسقط مني كاتب قصة قصيرة جدا ...» (ندف الروح ص32) 2 التجلي الثاني هو التشكيل البصري: ويتم من خلال استثمار فضاء الصفحة واستغلاله بشكل فني، وذلك عبر عدة تقنيات منها: أ توزيع الكلمات و تقطيعها عموديا أو بشكل مائل أو تقطيعها أفقيا داخل السطر ذاته، ولعل أبرز قاص استثمر هذه التقنية هو إسماعيل البويحياوي في مجموعتيه « قطف الأحلام»و»ندف الروح» حيث وظف ذلك بشكل كبير ومتنوع ومن وسائله: تقطيع الكلمة أفقيا داخل السطر للتعبير عن الدلالة كقوله» تختال الدبابات والطائرات و ي ت م ز ق الوطن» (نص أركيولوجيا ص23 مجموعة قطف الأحلام) - تقطيع الكلمة عموديا وهو الأكثر حضورا كقوله: تمسحان د م ع ت ين أو قوله: ن غ ط س للتعبير عن نزول الدمعتين أو الغطس. ب تغيير الحجم سواء ب: تكبير الكلمة حيث تبدأ صغيرة وتكبر كقوله في قصة «حملة النظافة» (ص65 ) النار النار النار تصغير الكلمة حيث تبدأ كبيرة وتصغر في قصة «مي حنا» لا أحبك لا أحبك لا أحبك ج استثمار علامات الترقيم في قصة «الوردة الساردة» (ص27 قطف الأحلام) د العناوين الفرعية و الأرقام بالنسبة للمقاطع قصة «بيعة الأحلام» (ص 28 قطف الأحلام.) و غير ذلك من الأمثلة الدالة. يساهم ذلك في تعميق الدلالة فهو ليس توظيفا مجانيا، إنما دال على التمزق أو النمو أو التلاشي أو التشتت أو الانفجار أو الصدى أو غيرها. إنه سند قوي للمعنى، كما يستثمر القاص البعد الهندسي من خلال الخطوط المائلة أو المتوازية أفقيا وعموديا وهي خطوط مكونة من حروف. إن هذا التوظيف للأبعاد البصرية يمنح القصة القصيرة طاقة جديدة وقدرة على إنتاج الدلالة لتجاوز قدرة الكلمة وتستجيب لمتطلبات حضارة الصورة، كما أن السعي إلى تعميق الوعي بالتشكيل البصري بوصفه جملة من الوسائل و التقنيات الفنية لها أثر في بناء النص القصصي لتدخل مرحلة «القصة اللوحة»، لتنتقل فعلا من مرحلة الشفهية الطاغية، المرتهنة لثقافة الأذن إلى التشكيل البصري المتأسس على ثقافة العين . تسعف تقنيات الطباعة الحديثة في منح القصة القصيرة كل السبل والوسائل لتبدو أكثر جمالية وأقدر على مخاطبة العين، لكن الذي وجب التنبيه إليه في ختام هذه الورقة هو أن العلامات البصرية يجب أن تكون عناصر بنائية في القصة، وليست مجرد حلية تزيينية توقعنا في لعب شكلي خالص، وهو ما بدأنا نلاحظه على بعض الكتاب الذين يعجبون ببعض هذه التوظيفات البصرية ويقلدونها دون وعي عميق بأبعادها الدلالية وخلفياتها. في الختام وجب التأكيد أن هذا الموضوع سيبقى مفتوحا على مزيد من النبش والتأمل النقدي وفي انتظار مزيد من تعميق النظر فيه ورفده بنصوص أخرى لم تصلها يدنا بعد. (*) قدمت هذه الورقة في ندوة «القصة والتشكيل» ضمن فعاليات الملتقى الثاني للقصة القصيرة بأبركان ( أبريل 2012)