يغص الفضاء العربي بقنوات تلفزيونية باتت تعمل مستفيدة من اتساع مساحات البث لتشمل مناطق نائية من عالمنا لم يكن، حتى قرابة عقدين سابقين من الزمان، يعتقد ان الوصول إليها بات ممكناً. وعوضاً عن الراديو الذي صار شبيهاً بحكايات الجدات التي غابت عن سهراتنا حلَّ التلفاز، والقنوات التي يمضي البعض معها ساعات ثمينة من يومه، وهم يتنقلون بينها. وكما في الماضي غير البعيد، فقد احتلت قنوات بي بي سي، روسيا اليوم، فرانس 24، الحرة، العالم، دويتشه فيله، التركية وتلفزيون كوريا الجنوبية، وفي الطريق إلينا محطة جديدة هي سكاي نيوز العربية، مكان محطات الإذاعة الأجنبية، كصوت موسكو، صوت أمريكا، مونتي كارلو، وبعضها لم يكن يبث على مدار الساعة. على عكس قنوات التلفزيون الحالية التي تصل الليل بالنهار، وتجتهد في الوصول إلى مساحة مشاهدة أكبر. بين المال والسياسة سؤال مركزي نطرحه فبل كل شيء، هل لعبت هذه القنوات دوراً يفيد المشاهد العربي أم أنها تنفذ الأجندات المرسومة لها من الممولين الذين يفترض بهم أن يخططوا سياسات قنواتهم؟ لعل الإجابة عن السؤال الأول هي بنعم غير مشروطة، فالمشاهد العربي بحاجة إلى ما توفره هذه القنوات على مدار ساعات الليل والنهار من رصد مستمر لما يجري في بلاده والعالم. وما يزيد من هذه الحاجة أن تلك القنوات تستفيد من الهامش الواسع للحرية التي يتصف بها الإعلام الأجنبي عموماً، ما يفضي إلى حضور الرأي والرأي الآخر فيما يخص الواقع العربي المعاش، ولاسيما في العامين الماضي والحالي اللذين شهدا ربيعاً عربياً لم يكن منتظراً لا من العرب ولا من الغرب، فالكل تفاجأَ به، وحاول التماشي والاستفادة منه قدر الإمكان. وتظل الحاجة موجودة طالما أننا نتحدث عن محطات لا يتعدى عددها أصابع يدي الرجل الواحد. ومن دون شك فقد أعطت تلك المحطات المشهد الإعلامي العربي سمات مختلفة، ودفعت مثيلاتها العربيات إلى التنافس معها على الخبر الجديد والحصري. وقد بدا هذا واضحاً في حرب العراق الثانية، وفي متابعة فصول الثورات العربية الجديدة منذ عام ونيف. أما الإجابة عن السؤال الثاني، فمن البديهي أن تسعى تلك المحطات إلى "تصدير" سياسة البلد الممول لها إلى المشاهدين العرب. ويلاحظ المتابع هنا أنها تلتزم في معظم الأحيان بسياسة بلدانها، مع وجود هامش كبير للتنويع على ذلك. وليس في هذا الدور ما يخيف، فليس ما تقوم به هذه المحطات عملاً خيرياً، وليس عيباً أن يبنى على المصالح المتبادلة بين البلدان العربية وتلك المالكة للمحطات الناطقة بالعربية. "الحرة" وحرب العراق ورغم أسبقية قناة "الحرة"، زمنياً على قناة "روسيا اليوم"، حيث تزامن ظهورها مع حرب احتلال العراق، إلا أن سمعتها ظلت متصلة بالحرب على العراق مع أن ذلك الحدث صار جزءاً من الماضي. ولعل المشهد العراقي هو الطاغي عليها، ثم المشهد الأمريكي. وفي زمن الربيع العربي صارت الموضوعات العربية تحتل جزءاً واسعاً من اهتماماتها. وقد عانت المحطة بعد غزو العراق من مقاطعة بعض الفنانين والمثقفين والسياسيين العرب لها بسبب اتهامهم لها بأنها صوت الولاياتالمتحدة في المنطقة التي يتهمها هؤلاء بأنها طرف غير نزيه في الأحداث التي تعاني منها بلدانهم. ولا تبدو "الحرة" الوحيدة المقربة من واشنطن، إذ يجمع عديد من الكتَّاب والإعلاميين العرب على أن الخارجية الأمريكية تمول بالسر عدداً من المحطات التلفزيونية العربية، بمبالغ تصل سنوياً إلى مئات ملايين الدولارات. ويبدو حظ المحطة التركية الناطقة بالعربية ((TRT مثل حظ الدبلوماسية التركية في الحراك الذي تشهده المنطقة العربية. فقد نشأت كنتيجة لازدهار العلاقات التركية السورية، لكن الحاجة إليها لم تكن بمستوى الحاجة إلى المسلسلات التركية المدبلجة، والتي استطاع السوريون نشرها في كل المحطات العربية، ومنها إلى كل بيت عربي. وهكذا لم تدخل على خط المنافسة مع المحطات الأخرى، وزاد من تلك الحالة الفورة الكبيرة والمفاجئة في إنشاء المحطات العربية بعد أن تغيرت أنظمة حكم عربية تشكل بلدانها العمود الفقري لمحطات التلفزة العربية. الصين وإسرائيل أطلقت الصِّين أخيرا قناة فضائية باللغة العربية لتنضَمّ إلى البلدان الكبرى، الغربية منها والشرقية على السواء، التي تسعى لإقامة جسور تفاهُم مع البلدان العربية واستطرادا العالم الإسلامي. والظاهر أن إسرائيل نفسها انضمّت إلى حلبة السِّباق من أجل التودّد للرأي العام العربي، فهي تستعِدّ أيضا لإطلاق قناة إخبارية تبُث برامجها على مدار اليوم وتُنافس القنوات الإخبارية الأوروبية والأمريكية والروسية. وكلفت المخرج العالمي ستيفن سبيلبرغ بإعداد خطّة لإطلاق القناة. قبل الصين والدولة العِبرية، تتابعت القنوات الناطقة بالعربية للتّواصل مع الجمهور في اثنين وعشرين بلدا عربيا (وفي شتى بقاع الأرض) من دون وسطاء. فالولاياتالمتحدة أدركت في ظِل الإدارة السابقة أن حربها المدمّرة على العراق وانحيازها المُطلق لإسرائيل، سدّدا ضربة قاصمة لصورتها لدى العرب والمسلمين، فعمِلت على رأب الشرخ العميق، ليس بمراجعة سياساتها، وإنما بتشكيل إدارة جديدة متخصّصة بالعلاقات العامة، أي بتحسين صورة الولاياتالمتحدة في العالم العربي وتسويق مشروع "الشرق الأوسط الجديد". وفي مقدم الأدوات التي اهتدى لها الفريق العامل مع السفيرة كارين هيوز، التي كلّفت بإدارة العملية إطلاق قناة "الحرّة" الفضائية الناطقة بالعربية واستبدال إذاعة "صوت أمريكا" ب "إذاعة سوا"، بالإضافة لإطلاق مجلة "HI"، التي سُرعان ما تقرر توقيف إصدارها لإفلاسها، تجاريا وسياسيا. حوار أم تهمة؟ وكان حسين جرادي، الصحفي في "الحرة"، دافع عن أداء القناة خلال ندوة أقِيمت على هامش اللقاء السنوي لنادي دُبي للصحافة في 12 مايو 2009، مؤكِّدا أنها "منصّة للحوار تعرض كافة التوجهات وتعمَل على رفع سَقف الحريات في وطن افتقَر إعلامه لأبسط حقوق الحرية الإعلامية"، في إشارة إلى العالم العربي، مثلما أشار إلى ذلك جرادي نفسه، غير أن الثابت هو أن محطَّتيْ "الحرة" و"سوا" عرفتا مقاطعة واسعة من النّخب العربية، حتى بات الظهور في إحداهما شُبهة ومصدر اتِّهام بالتواطُؤ مع السياسة الأمريكية، ووصل الأمر إلى أن بعض الضيوف صاروا يدفعون التّهمة بشنّ هجوم على الإدارة الأمريكية أثناء مُداخلاتهم في البرامج الحوارية التي تبُثها القناة. و رغم إخفاق "الحرة" و"سوا" اللّتين ورثتهما إدارة أوباما ولم تعرِف (بعدُ) كيف تتخلّص منهما، حَذَت فرنسا حِذو الولاياتالمتحدة، وهي التي تعتبِر نفسها أقدر على فهم العالم العربي، فأطلقت القناة الإخبارية "فرانس 24"، التي تبُث برامجها أيضا على مدار ساعات اليوم، مثلما يدلّ عليه إسمها وبلغات ثلاث، هي الإنجليزية والعربية والفرنسية. وسرعان ما اقتفت ألمانيا، غريمة فرنسا التقليدية، خُطى جارتها اللّدودة، فأطلقت قناة "دويتش فيله" (صوت ألمانيا) بالعربية لمدّة أربع ساعات في اليوم في البداية، ثم زادت ساعات البث تدريجيا إلى الضعف حاليا. __ولم يكن من المنطقي أن تبقى بريطانيا، وارثة الإمبراطورية التي لم تكُن الشمس تغرب عن مستعمراتها، وخاصة في المشرق العربي من العراق إلى جنوب اليمن، خارج حلَبة السِّباق، فأطلقت بدورها أخيرا قناة "بي بي سي" العربية، مستثمِرة الإسم التِّجاري الناجح للإذاعة، التي تحمل الإسم نفسه والتي كان المستمعون العرب يعتبِرونها أصدق من محطّاتهم الإذاعية وصُحفهم المحلية.__وقبل البريطانيين، نسج الرّوس على مِنوال الأمريكيين والفرنسيين، فأطلقوا قناة "روسيا اليوم" بالعربية، مستفيدين من طواقِم المستعربين الذين تخرّجوا من معهد الدِّراسات الشرقية العريق في موسكو، ومستثمرين في الوقت نفسه، علاقاتهم القديمة مع كثير من البلدان العربية. وتستعدّ تركيا بدورها لإطلاق قناة فضائية باللغة العربية في سِياق الإنفتاح السياسي والثقافي والإقتصادي على جيرانها العرب، الذي تقوده بإصرار حكومة أردوغان والذي أفضى إلى مُصالحة تاريخية مع سوريا وتحسين شعبية تركيا لدى الرأي العام العربي، خصوصا خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزّة. وقال مصدر إعلامي على علاقة بالمشروع ل swissinfo.ch، إن مدير القناة لم يُعيّن بعدُ، إلا أن هناك طاقما يعمل بوتيرة متسارعة لوضع القناة على السكّة من دون تحديد مِيقات لإطلاق البث الفعلي.__ويمكن القول أن الأتراك تأثّروا بتجربة الإيرانيين الذين أنشأوا قناة "العالم" الناطقة بالعربية منذ بضع سنوات، كي تكون أداةً للتّواصل مع العالم العربي، والتي شكّل مكتبها في بيروت الذي يُديره إعلاميون عرب، حجر الزاوية في عملها الإعلامي. وفي المُحصِّلة، هناك حاليا أكثر من 2500 قناة فضائية في العالم أجمع، وهو عدد قابِل للإرتفاع في كل حين، بينها نحو 490 قناة عربية، ما يجعل المشاهد الذي يفهم اللغة العربية مُهدّدا بتُخمة من الفضائيات التي تنبُت كل يوم كالفقاقيع، لكن هذا التعدّد بات يشكِّل في ذاته عقَبة أمام إقبال المشاهدين العرب على هذه القنوات الفضائية الأجنبية.__فبالإضافة إلى كونها تُنافس بعضها البعض، لم تستطِع أيٌّ منها تحقيق اختِراق يضعها في موقع يقتَرب من مُنافسة قناة "الجزيرة" القطرية، التي تتصدّر القنوات الإخبارية الناطقة بالعربية، من دون منازع. نجاح محدود تبدو قناة "بي بي سي" الأوفر حظوظا للنّجاح في تجربة البث باللغة العربية، وتحقيق اختراق للكعكة التي استحوذت عليها "الجزيرة"، بحُكم أنها تتَّكِئ على خِبرة إذاعة "بي بي سي" العريقة. وما يُعزّز هذه الحظوظ، أن غالبية الطاقم الإعلامي الذي أطلق "الجزيرة"، عمِل قبل ذلك في قناة "بي بي سي" العربية في لندن، التي لم تُعمِّر طويلا، غير أن القناة الجديدة لم تستطِع، على ما يبدو، لفت أنظار المشاهدين في البيوت العربية، التي ما زالت مشدودة إلى القناة القطرية وغريمتها "العربية" التي تبث من دُبي، و"المنار" و"دريم" و"المستقبل"... مع ذلك اعتبر رئيس القناة حُسام السكري أن موقع "بي بي سي" لدى المشاهد والمستمع العربي، لا يُمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بباقي النّسخ العربية للفضائيات الأجنبية، معتَمِدا في حديثه على تغلغُل "بي بي سي" في عُمق المشهد الإعلامي العربي منذ عام 1938 عبْر الإذاعة الناطقة بالعربية، التي قال إنها "لعِبت دورا مِحوريا في الإعلام العربي الحديث، بالنّظر إلى أن الكفاءات والمهارات التي أدارات أغلَب القنوات الفضائية الحديثة، هم من خرِّيجي مدرسة بي بي سي". وأضاف السكري أن "بي بي سي" لا تُحابي أحداً ولا تتبنّى وجهة نظر على حِساب أخرى، وليس من مهمّتها أن تشكِّل الرأي العام العربي تُجاه قضية معيّنة، كحرية الإنسان أو زواج القُصّر أو خلاف سياسي معيّن، وإنما واجبها أن تكون منصّة إعلامية تعرض من خلالها الآراء والتوجّهات المتبايِنة بمِهنية وحِياد، وإعطاء الحرية للمشاهد لبناء رأيه الخاص، الذي يتماشى مع معتقداته وثوابِته".__إلا أن هذا الرأي يتغافَل عن التّفاوت بين السُّمعة التي كانت تتمتّع بها الإذاعة، وتلك التي تحملها القناة الفضائية التي تحمِل اسمها، فالأخيرة لم تعرف كيف تستثمِر أحداثا مهمّة، مثل حرب غزة أو تطوّرات الحرب في العراق أو النّقلة التي رافقت مجِيء أوباما إلى سدّة الرئاسة، لكي توسِّع دائرة مشاهديها وتكسِب ثقة الرأي العام العربي. ولم تُبصر قناة "فرانس 24" الناطقة بالعربية مصيرا أفضل من زميلتها البريطانية، فهي لم تُحقِّق - بعدُ - اختراقا في شمال إفريقيا القريبة ثقافيا وجغرافيا، من فرنسا. لكن ناهدة نكد، نائبة رئيس التحرير في القناة أكّدت أن الإعلام الفرنسي باللّغة العربية، ليس بالجديد على الجمهور العربي فهو قديم، إذ يعود إلى زمن إذاعة "مونتي كارلو" الناطقة بالعربية، أما الإعلام المَرْئي، فكان مُقتصرا على الدول الناطقة بالفرنسية، وتحديدا في شمال إفريقيا. واعتبرت أن قناة "فرانس 24" تشكِّل اليوم الخُطوة الأولى نحو الإعلام المرئي الفرنسي الناطق بالعربية الموجّه لكافة الشعوب العربية. وقالت نكد: "لم نتساءل حين أطلقنا القناة عن الموضوعية التي ستتمتّع بها المحطة، بل حرِصنا على أن تكون محطّة صادِقة وأن تعكِس صورة المجتمع للحكومات، وليس العكس، أي عرض وجهات النظر الحكومية للشعوب".__ونفى نائب رئيس قناة "روسيا اليوم" حيدر أغانين بدروه تبنّي القناة الموقف السياسي الروسي، موضِّحا أنها "تعبر عن روسيا كدولة وحضارة وتاريخ وثقافة، وليس عن أعضاء حكومة أو توجّهات سياسية، مُستدِلاّ بأن "روسيا اليوم" تعرض وجهات النّظر السياسية الحكومية منها والمعارضة، على ما قال. مواقف حكومات؟ ويعود السؤال المزمن: هل أن هذه القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية تفرِض وجهات نظر حكومية على الشعوب العربية، أم أنها مِنصّة للحوار تعرِض وجهات النظر المُختلفة وتعمَل على رفع سقف الحريات في العالم العربي، الذي ما زال إعلامه يفتقِر إلى الحرية والتعدُّدية والمِهنية؟ هناك من يعتبِر أن فوائد العولمة، وخاصة مساهمتها في تطوير الوعْي العام في المجتمعات العربية، شكّلت حجَر عثرة أمام تغلغُل الفضائيات الأجنبية في المشهد المحلي، لأن الرأي العام صار يُدرِك المَرامي السياسية وراء الخطاب الإعلامي الوافد الذي عادة ما يُعطي الإنطباع بكونه خاليا من "النيات الخفِية". على العكس من ذلك، هناك فريق آخر من المثّقفين العرب يُعارض تضخيم خطَر الفضائيات الأجنبية، مُحاولا إبراز دورها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، نافيا في الوقت نفسه، فكرة الغزو الثقافي، مُعتبرا إياها "وهْما في العقول العربية المتحجِّرة فقط"، مثلما كتب وزير الإعلام الكويتي السابق محمد السنعوسي، الذي أكّد على أن "هذه القنوات بمُحتواها الإعلامي والإخباري المتنوِّع، تُعدّ إضافة إيجابية للإعلام العربي وللمشاهد حرية الاستفاده منها".__وفي هذا السياق، لم يتردد البعض في الثناء على أهمية "الدّور الحيوي الذي تلعَبه هذه القنوات بتوسيع الطّيف الإعلامي العربي، كمّاً ونوعا".