صدرت المجموعة القصصية "إنهم يرتدون الأقنعة" للكاتبة الكويتية هيفاء السنعوسي عن منشورات "مكتبة أم سلمى الثقافية" في مدينة تطوان المغربية، الواقعة بعيدا عن الكويت، والقابعة بين أحضان جبلي غرغيز ودرسة. ارتحلت المجموعة لتوقع اللقاء بين قراء مشرق العالم العربي ومغربه. تزخر المجموعة بالشخصيات النسائية، إلى حد يمكن معه القول إنها قصص المرأة بامتياز. وأغلب نساء المجموعة يشعرن بالفراغ، ويحتجن إلى الحب ولكنهن يمنعن أنفسهن منه، أو لنقل إن المجتمع يقف لهن بالمرصاد، ولكنهن لا يملكن الجرأة الكافية للتحدي. ففي قصة "البحث عن لا شيء" تحس الشخصية الرئيسة باللهب يشتعل في قلبها، والذي جاء بسبب وحدتها. كانت تحلم برجل يأتي لينتشلها من معاناتها" (ص. 27)، ومع ذلك لا تجد من حل سوى أن تضع"رأسها على مكتبها وتبدأ في البكاء" (ص.30). وفي قصة "قرار" تلفي امرأة نفسها أرملة، ورغم صغر سنها، فإنها تذعن لإرادة ابنتها التي ترفض زواجها. وأقصى ما تفعله أنها في حفل زفاف ابنتها تستسلم لرغبة عارمة في الرقص، لتجد نفسها في عالم آخر، في لقطة تذكرنا بزوربا الإغريقي ورقصه المحموم، حيث يغدو الرقص رديف الحياة وعلامة تمرد على شخصية " المرأة الصامتة التي تسكنها منذ مدة طويلة" (ص. 42)، وفي أقصوصة "أنثى على رصيف مكهرب" تحس الشخصية الرئيسة بالاختناق "يفتك بها...تهاجمها رغبة بالصراخ (في الصراخ؟)...تمسك ببعض الأشياء وتعمد إلى تكسيرها...تنادي الخادمة بصرخة تهز الجدران...(فنجان قهوة وعلبة سجائر)" (ص. 64). ولنلاحظ التعامل مع الخادمة، في إحالة إلى ثنائية تخترق نصوص المجموعة، لينصب الضوء على فئة المتعلمات والمنتميات إلى علية القوم، فهن المعنيات بهذه القصص، أما الفئة المقابلة فهن مغيبات، وإن حضرن ففي مواقف ومشاهد تكشف عن تأصل الخبث والتحايل في سلوكهن، أو بلغة المجموعة نزعة التسلق التي تحركهن، إلى حد القول إن الضمير المتضمَّن في العنوان، كان من الأجدر أن يعود على الغائب المؤنث، ليصبح "إنهن يرتدين الأقنعة". وسنعود لتحليل هذه النقطة مركزين أساسا على القصة الأولى في المجموعة. وفي "زمن الآخرين"، تتصرف البطلة بعجرفة غير مفهومة، وتجعل الجميع يكرهها ويغتابها، وفي الأخير "تقرر إغلاق باب مكتبها...ترفع صوت الموسيقى...ثم تدفن رأسها بين كفيها، وتنهار بالبكاء" (ص. 66). اختارت الكاتبة أن تقسم المجموعة إلى ثلاثة أقسام: قسم لا يحمل أي عنوان جامع، ويضم قصصا طويلة نسبيا، وقسم ثان منحته اسم أقصوصات، وقسم ثالث يضم ما تسميه ومضات قصصية. تطالعنا في الأقسام الثلاثة شخصيات متشابهة، تلتقي كلها في فعل المعاناة، ولكن الكاتبة تكتفي بملامسة مشاعرها، وتطلق العنان للغة مباشرة، تغلب عليها الهتافية والتصريح بالعاطفة. حتى تصوير الصراعات التي تعتمل في داخل الشخصيات يفتقر إلى العمق والصدق الفني، لتطغى الجمل التقريرية والصراخ وضجيج اللغة المباشرة، في عجز عن تحويل الأشخاص إلى شخصيات فنية. والومضات الفنية نفسها التي من المفروض أن تقوم على التكثيف والإيجاز الدال واللمحة الموحية، تعجز عن التقاط لحظات ومواقف دالة. كتب رولان بارث متحدثا عن درجة الصفر في الكتابة، مستشرفا أفقا بعيدا مترائيا كالحلم، تتلاشى فيه الذات الكاتبة بأحكامها وأخلاقياتها وإيديولوجيتها، مفسحة المجال للكتابة البيضاء الخالية من الأحكام والإملاءات، المحتكمة إلى ذاتها، المفتتنة بانغلاقها على قيمها الجمالية. إلى أي حد يمكن أن تتحقق هذه الكتابة المتجردة سوى من ذاتها؟ يتعلق الأمر في الحقيقة بحلم ثاو بين سطور الإبداع: أبدع دون أن أتدخل موجها، تاركا قيمي وأخلاقي تتراءى مستعدة للحوار والتلاقح، مفسحا المجال لقيم تتخلق مع الإبداع، مثل الطريق التي تحدث عنها ماشادو، تلك التي لا توجد إلا طردا متزامنة مع الخطو الذي يخلقها. نستعير العبارة تلك لننقلها إلى مجال الإبداع، متسائلين عن إمكانية وجود كتابة في درجة الصفر، أي كتابة إبداعية لا تسقط في المنبرية والهتافية والتقريرية والمباشرة. تستحضر القيم الكونية دون أن تصرح بها ولكنها تترجمها إلى صور ومواقف وشخصيات وأحداث ولغة وغيرها من كائنات الإيحاء والترميز والتلميح والإيماء. يتعلق الأمر برهان صعب هو أساس الكتابة وجوهرها، تتحدث في صمتها وتقول عن طريق الغياب، دون أن تستسلم لسهولة التصريح. إنها تخاطب ذكاء القارئ، من حيث تعده ذاتا مستمتعة نقدية قادرة على البناء والتفاعل الخلاق. تتحقق هذه الكتابة في حيز يتولد عن فعل الرفض. يرفض الكاتب المعنى الجاهز يباشر به المتلقي، ليعمل الذهن والخيال مبدعا كتابة لاهية عن خطاب النبوة والتوجيه، ولكنها تحفر عميقا في الوجدان والفكر، بحثا عن المتعة الباقية بعد أن يفنى الضجيج. لا تشفع النية الصادقة في "توجيه" المتلقي، فالأفكار مهما سمت لا تصنع الكتابة ولكنها قد تدغدغ الأخلاق في بعدها القريب الضيق. عنت لي هذه الملاحظات بعد قراءة مجموعة هيفاء السنعوسي القصصية التي تحمل عنوان "إنهم يرتدون الأقنعة". ولنحاول تبيان هذا الأمر متوقفين خاصة عند أول قصص المجموعة. ينفتح العمل بعتبة الإهداء، أو بالأحرى بإهداءيْن اثنين في صفحتين منفصلتين. تبدو المجموعة واعدة، عندما تختار اللعب منطلقا، سواء في شكل الإهداء المضاعف أو في مضمونهما معا. يكسر الإهداء أفق الانتظار إذ يختار بدءا التوجه إلى فئة لم نعتد أن نرى الكُتَّاب يهدونها نصوصهم. فقد جرت العادة أن نهدي بنات أقلامنا أناسا نحبهم، فالمحبة إذن هي قاعدة الإهداء ومنطلقه، لهذا غالبا ما تتصدر الأمهات هذه العتبة النصية. وإن شاع مؤخرا تقليد الإهداء إلى الزوجة أو الحبيبة عموما تعبيرا عن اتساع رقعة النجوى والحميمية في كتاباتنا، وتراجع مجال "الحشمة". ولكن هذا موضوع آخر وإن كان وطيد الصلة بسؤال القيم والكتابة الذي هو محور قراءتنا هذه. يوجه الإهداء الأول على غير المألوف إلى "المتسلقين الذين يشربون من نهر العطاء حتى تنتفخ أجسادهم..."، و"الأحياء الموتى الذين يتسولون في الظلمة..." و"إلى أصحاب الجلود الشوكية..."، وإلى "من يرتدون القناع..." و"الذين يخطفون البريق...". نحن إذن أمام فئة ترتبط بالسلب والقدح، ومع ذلك تأبى الكاتبة إلا أن تهديهم كتابتها؟ ولكن هل نحن أمام الكاتبة أم أن لعبة السرد ابتدأت مع عتبة الإهداء؟ سنرجئ الجواب على هذا التساؤل الذي له ما يبرره في مضمون أولى قصص المجموعة. ويأتي الإهداء الثاني في الصفحة الموالية خاضعا لمواضعات هذه العتبة، فهو موجه إلى المبدعين: "أنتم فقط تعرفون الإبداع بمعناه الحقيقي، وتعرفون أن الكاتب المبدع لا يعبأ بما يلفت انتباه الناس العاديين...". نقرأ القصة الأولى التي منحت المجموعة اسمها، فتطالعنا الإحالة إلى نص الإهداء الأول، في لعبة مرآوية حبلى بالالتباس. تذهب عزيزة إلى مكتبها، وتتذكر "الرواية الأخيرة التي كتبتها صديقتها وفاء، فتحت الصفحة الأولى، ثم وقفت طويلا عند الإهداء، قرأتها أكثر من مرة: (إلى هؤلاء المتسلقين الذين يشربون من نهر العطاء...). هكذا يغدو الإهداء جزءا من القصة، ويختلط الأمر على القارئ، وقد يذهب به الظن إلى أو وفاء هي الكاتبة نفسها. وتتناسل الأسئلة وينتقل الذهن بين النصين ليوسع دائرة الحكاية، ويولد الفرضيات، نتيجة الالتباس الخلاق بين شخصية وفاء وشخص الكاتبة. ولا يهم القارئ في شيء أن يكونا كيانا واحدا، تكفيه متعة الالتباس والحيرة والنظر في المرايا المتقابلة. غير أن النص يكدر على القارئ متعة هذا التفاعل والحوار، ويوقف سيل التساؤلات، ويأبى إلا أن يرتدي جبة المرشد، ويتلبس سحنة المربي، ليباشر القارئ بمضمون أخلاقي فريب المتناول، تتقابل فيه الشخصيات تقابلا مانويا، ضمن محوري الخير والشر. وتأتي أسماء الشخصيات نفسها لتؤكد هذا المنحى، فهناك من جانب وفاء بدلالات الإخلاص والصدق والتفاني والإيثار، وعزيزة بكل ما يوحي به الاسم من معان السمو، مقابل فوزية بإيحاءات الانتهازية والسعي إلى الربح والفوز القريب واستغلال الصداقة لتحقيق مآرب شخصية. وأصل الشخصيات الاجتماعي يخضع هو أيضا لهذا التقابل، فعزيزة تحس بالملل "في بيت كبير مملوء بالخدم"، والإشارة هنا واضحة إلى الانتماء الاجتماعي، ووفاء من فئة من "كثرت نعم الله عليه، [و] كثرت حاجات الناس إليه" (ص. 14)، أما فوزية فإنها تنتمي إلى أولئك الذين "يطلبون المساعدة ثم يديرون ظهورهم"، لهذا تستغرب عزيزة كيف أن يدي وفاء الناعمتين لم تلمسا جلودهم الشوكية، في استحضار للعبارة الواصفة المتضمنة في نص الإهداء الأول. وفوزية وجدت "الملاذ في الشاب فهد قريب وفاء" و"سال لعابها لبريق العائلة" (ص. 16)،. يحيل اللعاب إلى الفم والشراهة. والمثير أن الفم يحضر من جديد في لعبة تقابل صارخة بين الفئتين الممثلتين لمحوري الخير والشر. ففي حفل الزفاف، كانت عينا عزيزة تتجولان "بين وجوه المدعوات، رأت وجه وفاء مشرقا بابتسامة الحب والعطاء، ثم توقفت فجأة عند فوزية التي كانت تمضغ علكا بطريقة غريبة! فرأت ابتسامة غريبة غير عادية تفترش وجهها!" (ص. 18). يحيل الفم هنا إلى الوضاعة والخبث. هو أحد مداخل الجسد وفتحاته، وهو رمزيا هنا مدخل لاستشفاف علامات المؤامرة، فعزيزة وهي تنظر إلى فوزية خلال حفل الزفاف "كانت تلمح شيئا مريبا خلف الابتسامة، كانت هناك قصة مروعة تنسج في الخفاء" (ص. 18). لا يهتم النص بإقناعنا كيف اهتدت عزيزة إلى هذه الحقيقة، وما هو سبب توجسها من الناس الذين يرتبطون بعلاقة ما مع وفاء. فسوء الظن متأصل في الشخصية تجاه أناس من غير طينتها، لهذا تتحول إلى واعظ مرشد يكيل النصائح ويختزل الناس في أوصاف خلقية جاهزة. وبذلك ينبني النص على تقابل حاد غير قابل للتجسير بين فئتين وخطابين. ويتحول السرد إلى مجموعة من الإرشادات والتوصيات والتوصيفات والتصنيفات، ويغيب إمكان الإيحاء، ويحس القارئ أنه أمام خطاب يستعجل التبليغ ولا يتروى في بناء الشخصيات والتنبه للتداخلات والالتباسات، بعيدا عن ثنائية البياض والسواد في إحالتهما القريبة إلى الخير والشر، بينما مجال التلوين أعقد بكثير من هذه الثنائية، إلى حد إقرار أحد الباحثين باستحالة استيفاء اللغة إمكانات تسمية الألوان وأطيافها. الانتصار للطيف والظلال هو إذن تحيز للكتابة في اعترافها بالعجز عن الإحاطة والجزم. لا غرو أن تنتهي قصة "إنهم يرتدون الأقنعة" على هذا النحو: "ستستمر القافلة في العطاء يا عزيزة، وستسقط الأقنعة من وجوه المتسلقين..." (ص. 22). والسؤال، ما هي دلالة التسلق هنا؟ ما علاقته بسؤال الأخلاق؟ أليس فعل التسلق وهو يعبر عن فعل الانتقال من أسفل إلى أعلى، دال على الإدانة المسبقة لأولئك الذين يأتون من "الحضيض" ويستغلون كرم الموجودين في الأعلى لتحقيق مآربهم الخسيسة؟ تؤشر قصة "إنهم يرتدون الأقنعة" على وجود حتمية اجتماعية وأخلاقية ترسم الحدود بين الفئات، وتمنع "التسلق" وقد تتيح للبعض أن "يفوز" ويغنم بعض المكاسب، ولكنه لا ينال من "وفاء" أصحاب الأيادي الناعمة لقيم الكرم والجود على أصحاب "الجلود الشوكية". قد نتفق أو نختلف مع أطروحة النص الفكرية الضمنية، ليس هذا هو مربط الفرس، ولكن القصة أبت إلا أن تباشرنا بهذه الدلالة، بدءا من العنوان حيث يحيل الضمير على الغائب الجمع، القابع هناك في الظلام، يتحين الفرصة للانقضاض، ويحيك المؤامرات لأن الشر متأصل فيه، يأتيه من محتده الوضيع، مقابل ضمير نحن وعزيزة الناطقة باسمه ويضم وفاء وفئة أصحاب النعم. يبدو رهان القيم في العمل الأدبي صعب التحقق، لأنه يتطلب الأناة وعدم الاستسلام لإغراء الوعظ والتوجيه المباشر، وتقسيم العالم شطرين لا يلتقيان، حيث تنتفي الألوان والظلال والأطياف. والظاهر أن مجموعة هيفاء السنعوسي تعجلت الإدانة، ولم تنصت جيدا لإيحاءات القناع ولم تصنع منه لعبة فنية قائمة على جدلية التجلي والخفاء. 1- منشورات أم سلمى الثقافية، سلسلة إبداعات، 2007.