فتح الصبي عينيه على عالم غير واضح الضياء، الشمس مشرقة - في غبش -لم تخالف مشرقها. الأشجار مخضرة في .ذبول لم تتساقط اغصانها ، لم تصفر أوراقها، الناس يختلفون إلى منازلهم في الزقاق الضيق من مدينة الرباط، تعلو وجوههم قترة، تختفي الابتسامة من شفافهم من ثقل البؤس يجتم على رؤوسهم ظهورهم راكعة في مسيرتها البطيئة الثقيلة، شيء ما في الأفق يثقل كاهل العارفين ويطوق شفاههم بالصمت. خارج بوابات المدينة الصغيرة يحكم الكفر المسلمين ويقفل أبواب الرحمة في وجوه المحتاجين... هكذا قال الشيخ بلسان متلعتم وعينين كابيتين ذلك ماسمعه الصبي وهو يخطو خطوات بطيئة، يتجنب طريق الرجال الكبار، ويتشرب من بؤس وجوههم وضراعة نظراتهم مزيدا من حزن كاف غذاءه في البيت الفقير الحزين، وقد رحل رائده، وتركها هي، الأم تجتر كل بؤس الحياة مع أطفال ينطلق أصغرهم للمدرسة القرآنية - وهي والمسيد مأوى صغار الحي - فلن يجد له مكانا في البيت الصغير يتسع لحركته ولعبه وسباقه مع إخوانه. الفقيه المدور (هذا هو اسمه إذا لم تخني الذاكرة) يرعى الأطفال كأنهم أبناؤه بالتعليم والتربية. فهو بقية من سلف فقهاء صالحين يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين ويحفظهم المتن الفقهية ويلقن كبارهم مبادئ اللغة ويكتفي صغارهم بتهجية الكلمات وحفظ الآيات. عندما تهب أعاصير المطر وزمهرير البرد يشفق الفقيه على أطفاله ترتعد أطرافهم من فقر الملبس والغداء. ويذهب إلى السوق أو إلى الخياط، ويلبس كل طفل جلبابا يقيه برد الشتاء إذا لم يقه خصاصة الجوع. ويفرح الصبي وهو يلبس لأول مرة جلبابا ساخنا يحرر حجمه الصغير من قشعريرة الشتاء، وتنجلي عن عينيه بعض غشاوة نور الضياء فتكشف ظلال بؤس البرد إذا لم يكشف ظلال بؤس الزمان العصامي يشق طريقه في مدرسة الفقيه المدور وتقول له المدرسة دونك مدرسة أخرى هي الكتاب. ويمسك بالكتاب الأول لا يدري كيف وقع في يده - ويتغلب على التهيب والخوف من الكتاب فيقرأ ويقرأ بتعثراته، ثم يتعثر فيستقيم وتستريح الأم من متاعبه. فقد أخذ يدفن متاعبه في القراءة. ومع المدرسة التي يتعلم فيها بعض ما يفتح طريقه إلى الكتاب ويمنحه أزهر ساعات يومه. ويبقى مع ذلك مدينا لكتاب آخر ينتظر دوره. لا يكاد يذكر اليوم الذي خطا فيه قوس البوابة الصغيرة التي تحاصر المدينة. المدينة الأخرى ليست ملكا للكفار الذين يحكمون. لم يغادر المدينة القديمة بجسمه فحسب، لكن غادرها بفكره أيضا، اكتشفت عصاميته باب صغيرة يدلف إليها الكبار. تابع طريقه بين أشجار الحديقة الصغيرة في يده كتاب. نسي موعد المدرسة وهو يقرأ الكتاب. جائع أنت قال لنفسه أطفال وشباب يتجولون في الحديقة. أجابته وجوههم الكالحة: نحن أيضا جائعون. أضاف إلى الكتاب الذي يقرأه في الحديقة الصغيرة أو وهو يمشي في الشارع، قراءة وجوه فتيان يتسكعون وقع في يده قلم وورقة. وكما كان يكتب الدرس في المدرسة، وكما كان يقرأ في هذا الكتاب وذاك أخذ يكتب مختليا إلى نفسه في كرسي من الحديقة لم يعتصر ذاكرته، ولم يرهق فكره، ولا اجتر كثيرا مما قرأ في الكتب، وإنما فتح عينيه على الآخرين. على الفتيان الذين يملأون الشارع بخطواتهم البطيئة المتهاوية، ووجوه بعضهم الشاحبة، ويد شيخ معروفة تمتد وسيدة عجوز ملغمة تتمسح بالجدار بيد ممتدة، وطفل يستر جسمه بأسمال حالت ألوانها ذي عيون براقة وذكاء فطري ووجه طاغ بالبؤس بالجوع، بالخوف من شرطي المرور، فهو يسير ويمد يده بصندوق صغيرة اختلطت ألوانه تطلع عيناه إلى أحذية الذين يسيرون بحذاء، في الجزء الحرم من المدينة التي يحكمها النصراني رجال يسيرون بحذاء من هذا أو هذه وذاك وتلك أخذ عبد الجبار النموذج. هؤلاء وآخرون رسموا لوحاتهم على فضاء حياتنا قلبي وضميري يعيش معهم. فلم لا يتحرك القلم بين أصابعي يرسم النموذج الذي رأته عيناي وسكن ضميري؟ قال عبد الجبار لنفسه وبدأ يكتب... كانت مصادره الأولى دائرة معارف في سعة ما بين السماء والأرض على صغر ما طالته قدماه وهو يتحسس طريقه خوفا من أن يتيه في شوارع يسير فيها لأول مرة النموذج البشري فيها يفسح المجال للنماذج الفكرية .. والنمودج الفكري يوحي بالنموذج المتخيل. الخيال عنده لا يسبح في الفراغ لا يسبح في فضاء مريض يبل مرضه الجنس، وما وراء الستارة.. المجتمع أمامه مفضوح عار إلا من أسمال لا تستر العورة. وقد أصبح كله عورة لا يسترها السكوت عنها أو التخلي للكتابة عن العاشقين كما يفعل بعض المراهقين من الكتاب. كان عالمه واسعا براعته كانت في اختيار النموذج. وعلى كثرة ما اختار من نماذج لم يخطئه الحدس في أن يقدم لقرائه العديدين الصورة المجتمعية التي تمس ضميرهم وفكرهم وعاطفتهم جميعا فيرتبطون بما يكتب في العَلَم وما ينشر من كتب، ما يختار لما يكتب من لوحة نثرية شاعرية أو قصة هادفة. ما ينص به قلمه في لغة لا تستجيب لكل الأقلام. وعبد الجبار بأسلوبه متفرد به كان من الذين يمنحون قلمهم قداسة، يكتبون بلغتهم هي لغة الناس، ولكن لها امتيازا لا يوفره لها إلا هم. كبار الكتاب في كل اللغات قدموا انتاجا عمقه في اللغة التي كتب بها عبدالجبار كان الفكر معه فهو يختار جواهره بين الملايين، ويختار لغته العربية، يتفرد باختيار الكلمة. يعرف أين يضعها في الجملة التي لا يملكها إلا هو، في خاطراته التي ترفع رأسها عاليا بين الخطرات، في القصة التي ترتفع في سموها بين القصص. حينما دخل باب العلم كان متهيبا لا يعرف كيف يفتح الكتاب ويشرع القلم،ولكن العلم كانت أمّاً رؤوما تفتح شفتيها بالابتسامة لأبنائها. ثم تربت على اكتافهم ثم تفتح ذراعيها لاحتضانهم. ولم يجد عبد الجبار صعوبة في أن يفرض بنوته. كان إبنا بارا يكتب ويكتب وفي صباح اليوم التالي يقرأ ويقرأ. ويخرج الى الشارع الى الذين يقرأون في المقهى ويتحدثون عما قرأوا. فنجد اسمه بين الأسماء التي تتحدث بها ألسنة القارئين ، وكان الرقيب ربما يكتب رحيما، فهو يقرأ الكلمات ولايفهم المضمون ولذلك قليلا ما ازاح مقالا أو عمودا أو خاطرة أو تعليقا لعبد الجبار. كان يقول كل ما يريد، وكانت لغته الفنية الرائقة ستارا لما نكتب من مضامين . الموضوع الذي كان يختاره عبد الجبار لم يكن يفد إليه على جناح طائر.. كانت الدروس التي تلقاها من الحياة منذ جلابة الفقيه «المدور» ومايزال يتلقاها في الشارع في طريقه إلى المنزل إلى إدارة العلم، في المقهى ، في الحديقة... ثم الدروس التي يتلقاها من المواطنين الذين يفدون على العَلَم فيبثونه قضايا الناس وأحزانهم ومشاكلهم ومظالمهم وما أكثر ما كان الناس يظلمون وما أكثر المشاكل التي يتخبطون فيها فيبثون أحزانهم الى العلم، وكان من وراء التخفيف عن الأحزان قلم عبد الجبار يفجر عمق المشكلة والمظلمة والأذى يصيب المرأة والرجل والشاب والطفل والعائلة. وكان وراء كل ذلك درس جديد يتلقاه في بلورة موضوع عموده أو مقاله أو خاطرته ، ويعد وهو يقرأ في غده ما كتب في أمسه . كان سياسيا حتى النخاع، ولكنه لايشتغل بالسياسة إلا بالرأي، لو عرضت عليه أن يرشح نفسه لبرلمان أولمنصب حكومي لابتسم وهو يسخر من العرض والمنصب معا لأنه يكره الزائف من العمل أو ما يعتبره زائفا، ولو كان يعرف أن تلك طريق المستقيم من العمل. .. ولو خيرته بين مراكز يؤدي فيها واجبه الوطني أو يكتب، ولو خيرته بين منابر يعمل فيها لما اختار غير العلَم.. أصبح يعتبر العلم جزءا من كيانه كما كانت تعتبره جزءاً من كيانها يمنحها كل إمكانياته بهوس الصادقين ؛ كما يعتبرها رسالة للذين يقرأون الرسالات. ساهم في أن يجعل من العلم مدرسة للشبان الذين يثقون فيما تلقى وما تعلم . كان يثق في المواهب ويرشحهم للتجربة وليكونوا من أهل الدار... عملنا يدا في يد عقودا من السنين لا أذكر أننا اختلفنا في موضوع للنشر أو لرفض النشر ولا اختلفنا فيما يرفع من مكانة العلم ويتيح لها أن تؤدى رسالتها، ولا حول شخصية مرت بالعلم، أو أخذت مكانها ضمن أسرتها. ويوم تركت العلم مكرها تأكدت أن الأمانة التي تحملتها خمسة عقود من السنين ستبقى بين أيدي أمينة. وما كنت أظن أن المرض سيغيبه بعد سنوات قليلة ولن يتركه إلا على حافة القبر. رحمك الله يا أخي عبد الجبار