من مسرح محمد الخامس وجدتني أدلف إلى مكاتب "العلم" في شارع علال بن عبد الله في الرباط ذات يوم من ربيع 1971.لا مكان هنا للتمثيل أو الصراخ. مكتب يتسع لأوراق عبد الجبار السحيمي التي كان يرصعها كل صباح ب"خواطر طائرة" وإلى جانبه الأيسر شاب نحيف يرغب لو تمكن من اقتفاء أثر تلك الأوراق التي تمزج بين الإيحاء والدهاء وشعر النثر. لا بأس إذن من التسلل خفية,وإلقاء نظرة على الأوراق البيضاء ,فمن يتعلم المشي لابد أن يلاحظ وقع خطوات الذين سبقوه.لكن الأب المعلم والمدرسة كان يضع عنوان ركنه اليومي,ويكرر رسمه مرات عدة,وكأنه يتلمس الطريق التي تؤدي نحو قرائه الشغوفين بإبداعاته.وفي كل مرة تستعصي فيها الفكرة يرمي بالورقة البيضاء إلى سلة المهملات. فجأة تلوح الخاطرة,قادمة من عالم لا يحجبه الخيال ومتعة الكتابة التي تضاهي ألم وأمل الولادة والحياة.يا له من مشهد رائع,فالكاتب الكبير يتحول إلى طفل ينتشي فرحا,كما لو أنه يهز أوراق الأشجار غير الدانية فتهطل الثمار والمطر وأنماط التحدي. ابن الصورة,حتى تكتمل توازنات أضلاع الصفحة الثامنة.حسناء من بلاد عربية أو طفل يرقب علامات التعجب أو طبيعة تفوح منها رائحة الحياة.بيد أن التعليق المرافق للصورة سيستغرق من الرجل زمنا أكبر.بضعة كلمات من قبيل "أحلى الأوصاف" تتطلب جهدا أكبر.فهذه أيضا مدرسة المولعين بوضع العناوين الدالة. لم ينته اليوم بعد."الملحق الثقافي"ينتظر وأكوام القصص وقصائد الشعراء وفتوحات الكتابة النقدية تزين مكتب"القائد" الذي يخوض معارك نظيفة بسلاح الكلمة الثائرة.فقد ارتبط اسمه ب"الملحق الثقافي" كما ترتبط الورود برائحة الطيب. كم الساعة الآن؟نسائم هدير المطبعة بدأت تهب من بعيد,وبعد ساعة أو اثنين أو ثلاث سينزل الرجل المهذب جدا والذي كان اسمه عبد النبي إلى الطابق السفلي كي يحضر بروفات الصفحات.فقد دأب الأستاذ عبد الكريم غلاب أن يبدأ مساءاته بقراءة سطورها الملونة بالمداد الأسود والماء وأوراق الطبع. يضع عبد الجبار يده على قلبه.إنه يعرف أن الأستاذ سيقرأ خواطره,وقد وضع على عينيه نظارات تغوص في ما بعد السطور.لكن الشاوش عبد النبي الذي لم تكن تفارقه بسمته سيزف إليه النبأ.كان يكفيه القول إن الأستاذ شرع في كتابة الافتتاحية,ليدرك عبد الجبار أن كل شيء على ما يرام حتى اللحظة. فخلف بناية شارع علال بن عبد الله كان الرقيب يرصد"العلم" في انتظار أن يأذن وزير الإعلام أو الداخلية أو جهات أخرى بتوزيع الصحيفة أو الإعلام صراحة أن الرقابة منعتها من الصدور. يطمئننا عبد الجبار بأن الأمر لا يدعو إلى القلق.فقط هي ضريبة الحرية,بينما يكون العربي المساري منشغلا بمعاودة صنع الأضلاع السياسية للجريدة,ولا يحول ذلك الانشغال دون أن يدلف إلى مكتب الرفيق يحمل خبرا أو اكتشافا لموهبة أو التحاور حول موقف. كان الثلاثة يؤسسون لمدرسة إعلامية وطنية,غلاب والمساري والسحيمي. وكنا نتحملق حولهم,ونسأل من أين تأتيهم كل هذه القوة والصبر في مواجهة عناد الرقيب والسلطة,وصراعات الأحزاب.بيد أن الزعيم علال الفاسي كان يروق له أن يدلف إلى مكتب السحيمي يستفسر عن أوضاع الثقافة والأدب, قبل أن يستقر به المقام في مكتب المدير عبد الكريم غلاب. كلهم كانوا يأتون إلى"العلم",النقيب عباس الفاسي والمناضل محمد الدويري والطالب المشاكس محمد الوفا وغيرهم,قبل أن يأتي الدور ليصيح السياسي المحنك محمد بوستة خليفة علال الفاسي ويتخذ من زيارة الجريدة عادة نضالية.لكن السحيمي ظل في مكانه,قال لي يرحمه الله,مرة إنه لا يريد سوى أن يبقى على سليقته ووضعه الاعتباري صحفيا وكاتبا ومجنونا أسر بأنه طلب إليه الالتحاق بديوان علال الفاسي يوم كان وزير للأوقاف,لكنه رفض. وراوده مسؤولون كبار في أن يصبح إنسانا آخر غير أنه ظل يتمسك بقلمه وأوراقه البيضاء. في غمرة الحملات الانتخابية لعام 1977,جاء السفير السابق يحيى بن سليمان ليرافع عن"الحزب المظلوم" وسمعت كيف أن السحيمي لم يكن يرقه ذلك الوصف الذي حرص على استبداله بأن الاستقلال "حزب وطني مناضل".وعلى رغم أنه كان موزع الانشغالات بين ما هو حزبي وأدبي وإبداعي فقد كانت المساءات الرياضية تشده إليها في نهاية كل أسبوع,وكان يجد في الكاتب الرياضي عبد الله الوزاني نموذج الكتابة في الرياضة.فقد اكتشف مواهب أحمد صبري في الترجمة والشعر والمقالات الرياضية.وكم كان حرصه شديدا على عزف سمفونية"العلم"بأصوات لا تخلو من إيقاع نسائي, كما في تجارب خناتة بنونة ومليكة العاصمي ورفيقة الطبيعة وأخريات.ولم يكن يرتاح لأوصاف مثل الأدب النسائي أو صحافة نون النسوة.فقد كان عاشقا لذلك التلاحم الذي لا يفصل بين قوافي الإبداع. ضوء في الطابق الأول لجريدة"العلم"ينبعث في ساعة متأخرة من الليل,إنه علامة على أن السحيمي يختلي في محرابه.تروق له الكتابة حين يكون وحيدا.وفي الغد سنجد أن مذكرات الخميس أنجزت في غفلة من ضوضاء عمل اليوم المضني.فقد كانت تلك طريقته في البحث عن"الممكن من المستحيل"غير أن الشاب النحيل الذي كان يقطع أزقة فاس بحثا عن جريدة"العلم" سيأخذه السحيمي بيده ويقترح عليه الكتابة إلى جانب الكبار,عبد المجيد بن جلون وعبد الكريم غلاب والعربي السحيمي وخناتة بنونة وعبد الرؤوف الخنيسي وإدريس الخوري وآخرين. كلما توقف عابر في محطة الرباط,قادما إليها من أدغال رحلات بعيدة إلا وكان بيت السحيمي مأواه,هذه الجمعة سنأكل كسكسا مغربيا,وفي الأسبوع القادم سيغادر السحيمي إلى مولاي بوسلهام يحمل صنارة صيد الأسماك ومشاعر دفينة ويكشف مطلا على البحر عله ينبت بقصة أو قصيدة نثر.لكنه عندما كان يستوي على ضفاف العلم"كانت كشوفاته تفتح الأبواب والنوافذ, من لم يتعلم من مدرسة صبر الصياد لا يمكن أن يصبح صحفيا. عذر الراحل أنه ترك أبناءه الذين كبروا,غاب عنهم ولم تغب تقاسيم وجهه ونبرة صوته.غير أن خواطره الطائرة سبقته إلى الرحيل في مثل مرشد التائهين في الصحاري إلى حيث الواحات والأزهار التي لا تذبل.رحمه الله .