قد يكون الرجل الوحيد، الذي لا يريد أن يرتبط اسمه بوزارة، قدر ارتباطه بالفكر والأدب والصحافة، هو عبد الكريم غلاب، الذي ربما كان يفكر في أي شيء إلا أن يصبح يوما ما وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول، يقلب ملفات الإصلاح الإداري. إذ كان مفهوما أن يتربع على عرش وزارة الثقافة، هو الرجل الذي مكث طويلا يقود اتحاد كتاب المغرب في فترات أشد حرجا وصعوبة، في سياق صراع الثقافة والسلطة. كان منطقيا كذلك أن يتم تعيينه وزيرا للإعلام، بحكم أنه لم يمارس مهنة غير الصحافة، مع أنه كان أقرب إلى صديقه في الطفولة، الكاتب المبدع عبد المجيد بنجلون، كما الشاعر عبد الكريم بن ثابت. وقد استطاع، في غضون تطورات تلك الممارسة، التي اتسمت بالحرص الشديد على المهنية والموضوعية، ولو أنها كانت ترجح المنطلقات الحزبية، أن يفرض مدرسة في الصحافة المغربية، يصح نعتها ب»مدرسة العلم»، يوم كانت المنبر الوحيد الذي يستقطب الكفاءات والأصوات، في انفتاح يعود الفضل في جانبه الثقافي إلى عبد الكريم غلاب، على الرغم مما عرف عنه من تغليب النزعة الحزبية، باعتباره قياديا بارزا في حزب الاستقلال وأحد رموزه الفكرية، بعد الراحل علال الفاسي وعبد العزيز بن إدريس وعبد الخالق الطريس. هل كان خطأ أنه استسلم للانتماء الحزبي يوم اقتضت ضرورات سياسية أن ينتقل حزب الاستقلال إلى الواجهة الحكومية بعد انتخابات 1977، وقبِل في غضون ذلك بمنصب الوزير المنتدب؟ أم أنه كان يطلب ذلك المنصب الاعتباري ليسجل ضمن مساره السياسي والثقافي، مع أنه لم يكن في حاجة لأن يركب سيارة الوزارة أو يقبع في مكتبها أو يدير ملفاتها. لقد كان غلاب أكبر من كل الوزراء، إذ سطر من مكتبه في الطابق الثاني في مقر «العلم» في شارع علال بن عبد الله افتتاحية نارية تهدد بإسقاط حكومات وتتوق إلى فرض الخيار الذي كان يتبنى الدفاع عنه، أي الديمقراطية والتعادلية، غير أنه رغب في إضافة صفة إلى سجله الحافل بالعطاءات الفكرية والإبداعية والإعلامية، والتي يشهد بها حتى خصومه السياسيون، فالرجل كان منسجما مع نفسه وقناعاته، وظل صوتا خالصا للالتزامات التي ندر نفسه للدفاع عنها. غضب الملك الحسن الثاني، يوما، جراء افتتاحيات «العلم» وأقسم بأغلظ الأيمان أنه سيأتي يوم تكسر فيه الأقلام ويجف فيه الحبر، فقد كان أكثر ما يزعجه في تلك الفترة أن يجاري حزب الاستقلال، الذي صوت لفائدة دستور 1962، طروحات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي كان قد انشق من رحمه، وكان يعتبر وجود علال الفاسي في زعامة الاستقلال تجسيدا لصوت الحكمة، إلا أن عبد الكريم غلاب كان، إلى جانب محمد الدويري، يعكس ميولا في التصعيد، ويتحدث بلغة أكثر انتقادا. لكنه حين يواجه خيارا بين صدور «العلم» أو حجبها نتيجة قرار الرقيب، كان يهتم بعدم حرمان القراء، الذين ينتظرون صدور الصحيفة في اليوم الموالي. أحيانا كان غلاب يعمد إلى تغليف كلماته النارية بتوابل تساعد في هضم نبراته شديدة المرارة، وأحيانا يفضل الإقرار بأن عدد أمس حجزته الرقابة، ولم يكن من حق الصحافة في تلك الأيام أن تكشف شيئا مما أزعج الرقيب، الذي كان يحتمي داخل مكتب في وزارة الأنباء. حكى الراحل بوعزة الحافر، الموظف السابق في وزارة الأنباء، أن أشد ما كان يؤثر في نفسه أن يرفع تقريرا شفويا في غالب الأحيان يفيد بأن عددي «العلم» أو «لوبنيون» غير قابلين للصدور، غير أنه كان مضطرا للقيام بذلك، وكان يردد أحيانا «أفضل أن أضع شارة الرقيب من أن أترك قوات الأمن تفعل ذلك بغلظة». غير أن عبد الكريم غلاب عاين بأم عينيه كيف أن قوات الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية اقتحمت مبنى مطبعة الرسالة وكسرت آلات الطبع من أجل ألا تعاود الاشتغال مرة أخرى، وقد تطلب الأمر القيام بإصلاح آلة السحب في وقت احتجبت فيه صحافة حزب الاستقلال عن الصدور شهرا كاملا أو ما يقارب ذلك. غير أن صاحب «الأبواب السبعة»، روايته الشهيرة، سيجد نفسه يوما رفقة مدير «لوبنيون»، المحامي محمد برادة، يدلف أبواب سبعة من نوع آخر، تختلف عن أبواب وأقواس مدينة فاس، فقد اقتيد الرجلان إلى سجن لعلو في أكتوبر 1969، بتهمة نشر أنباء مخلة بالأمن العام. كان الراحل علال الفاسي هو من كتب افتتاحية بعنوان «سيادة الشعب لا يتصرف فيها» تنتقد نتائج مفاوضات جرت مع الجزائر في موضوع ترسيم الحدود، غير أن غلاب تمسك بأن الموقف يعكس التزامات حزب الاستقلال، ولم يمض أكثر من عام على ذلك الحدث حتى غيب الموت الزعيم عبد الخالق الطريس. وقتذاك، تأثر علال الفاسي كثيرا وقال ما يفيد إن الأقدار الإلهية اختارت الطريس إلى جوارها كي لا يعاني مما يحدث في قضايا تطال الحدود المغربية الجزائرية، لذلك سارع الجنرال أوفقير إلى المطالبة برأس علال الفاسي وشنقه في ساحة عمومية، غير أن المفاجأة ستكون إسناد منصب أول سفير مغربي في نواكشط إلى قاسم الزهير، المدير السابق لجريدة «العلم»، إذ كان الحسن الثاني يتحدث في كثير من الأحيان بلغة الإشارات. عندما كان عبد الكريم غلاب يقيم في القاهرة، كان من بين القلائل الذين يتحلقون حول الدائرة الصغيرة التي يجمعها الزعيم عبد الكريم الخطابي تحت لواء مكتب تحرير المغرب العربي. وقد أثرت هذه التجربة في مسار حياته، إلى جانب الدور الذي اضطلع به صاحب «نداء القاهرة»، علال الفاسي، لذلك وجد غلاب نفسه ينجذب أكثر إلى التاريخ، فكتب عن الحركة الوطنية، فكرا وتاريخا، وسخر قلمه لشرح سيادة حزب الاستقلال، تماما كما حول الرواية المغربية إلى حلقات متواصلة في رصد الواقع المغربي، خصوصا مدينة فاس التي عاش بها طفولته، كما كتب في القصة القصيرة والنقد، وربما أن العالم الوحيد الذي لم يطرقه يوما هو الشعر، بالرغم من أنه كتب في نقد الشعر والإبداع. وقد كان حين تتعبه الكتابة الجادة في الافتتاحيات والسجالات الفكرية والأدبية وفنون الإبداع ينحو في اتجاه السخرية التي كانت تجد مجالاتها في عمود يومي أطلق عليه اسم «مع الشعب» يعرض فيه مشاكل المواطنين وقضاياهم. لكن تلك الكتابات ستجلب عليه المزيد من المتاعب، خصوصا حين كتب يوما ينتقد استفحال ظاهرة الإجرام والسرقة التي تفشت كثيرا. فالرجل الذي كان يعيش «مع الشعب» في رصد مشاكله وطموحاته، كانت له حياة أخرى أقل مدعاة للقلق، لكنه كان يفرق بين التزامه الفكري والسياسي وبين حياته الخاصة، إذ كان يمارس هوايته المفضلة في مسالك الغولف أو يسافر بعيدا عن هموم الشعب، أو يقتطع من وقته بعضا منه للانشغال بأمور أخرى، مع أنه كان شبه زاهد في مسائل عديدة. لم يهزم غلاب على رأس اتحاد كتاب المغرب، الذي قاده خلال ولايات عدة، سوى نزعة الاصطفاف السياسي، فقد كان رئيسا للجميع، واستطاع بعد الدكتور محمد عزيز الحبابي، الذي كان يراهن على البعد الإقليمي للاتحاد، عندما كان ينعت باتحاد كتاب المغرب العربي، أن يجعل منه إطارا ثقافيا فوق الاعتبارات الحزبية، لكن تطورات سياسية وثقافية حتمت انتقال المسؤولية إلى الدكتور محمد برادة، الذي لم يكن يخفي ولاءه للاتحاد الاشتراكي. كانت صحيفة «المحرر» قد بدأت في منافسة الوجود الكاسح لصحافة حزب الاستقلال، وتراجع نفوذ الملحق الثقافي الذي كانت تصدره «العلم»، برعاية الكاتب الصحفي عبد الجبار السحيمي، فأصبح ل»المحرر» ملحقها الثقافي، الذي استقطب كذلك الكثير من الأقلام والأسماء. غير أن عبد الكريم غلاب سيكون له الدور المؤثر في النقابة الوطنية للصحافة، التي حاربت على واجهات عدة لتكريس حرية الرأي والتعبير وإلغاء الرقابة المسبقة على الصحافة. وحين انتقلت هذه الأخيرة إلى طبعة جديدة جمعت بين مدراء الصحف والمحررين، كان غلاب يكتفي بموقعه، خصوصا حين تولى المسؤولية خلفه في «العلم» محمد العربي المساري، الذي عمل من أجل انفتاح أكبر لصحيفة الحزب، ولم يكن يتجاوز الإطار العام الذي رسمه غلاب بقلمه وإدارته وسلطته المعنوية. لعل الأمين العام لحزب الاستقلال محمد بوستة كان أكثر حماسا لإسناد منصب وزاري إلى عبد الكريم غلاب، وقد تردد، وقتذاك، أن الملك الراحل الحسن الثاني كان وراء فكرة تولي الدكتور سعيد بلبشير وزارة الثقافة، خلفا لوزير الدولة الحاج محمد اباحنيني، وبالتالي فإن تعيين غلاب وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول كان يراد من ورائه نوع من الإرضاء، أكثر مما كان يهم تدبير القطاع الذي أسند إليه. سيأتي لاحقا وزير استقلالي آخر إلى قطاع الوظيفة العمومية، في شخص القيادي البارز في الحزب محمد الخليفة، وسيكون من بين مهامه أن ينفض الغبار عن الخلاصات التي كان قد أقرها الوزير غلاب، الذي اضطر إلى العودة إلى مسقط وجوده «العلم»، بعد خروج الاستقلال إلى المعارضة. وبالرغم من أن غلاب كثيرا ما صنفه خصومه بأنه كان يدعم تيار محمد الدويري داخل حزب علال الفاسي، فإنه أقفل الباب وانسحب حين واجه ممارسات لم يقبلها من طرف الزعيم النقابي عبد الرزاق أفيلال. كان ذلك بمثابة عودة الضمير المهني والأخلاقي، لكن غلاب على امتداد ولايات تشريعية، خاض فيها منافسات انتخابية محتشمة في الدارالبيضاءوسلا، لم يكن يحبذ المواجهات داخل البرلمان، فقد كان رجل فكر وليس رجل ميدان، ولم يحدث أن رفع صوته في مواجهة أي قضية، باستثناء كتاباته التي كان يعتبرها صوتا آخر لبرلمان دائم. في المرة الأولى، ترشح غلاب للبرلمان تحت مبرر أن سكان دائرة انتخابية في الدارالبيضاء تمنوا عليه ذلك، مع أنه لم يقطن الدارالبيضاء أبدا، على عكس شقيقه الطاهر، الذي عرف بأسطوله في النقل الذي جاء منه شاب اسمه كريم غلاب، ليصبح مسؤولا عن شبكة الطريق السيار ثم وزيرا للنقل والتجهيز. وفي مرة لاحقة، اختار غلاب الذهاب إلى مدينة سلا لتجريب حظه، غير أنه ترك لخطباء الحزب أمثال محمد الخليفة ومحمد الوفا وعبد الحق التازي، وقبلهم عبد الخالق الطريس، أن يكونوا رؤساء الفريق التعادلي، واكتفى دائما بدوره منظرا وصاحب تحليل، إذ كان يدبج البيانات ويشرح المواقف ويصارع عبر القلم وحده. مثل توفيق الحكيم وطه حسين، كان غلاب يغلق عليه مكتبه في «العلم» ويقتطع من وقته ما بين مراجعة المواضيع وكتابة الافتتاحية، زمنا آخر يخصه للإبداع، ذلك أن غالبية رواياته وقصصه تولدت من داخل مكتبه في «العلم»، وإن كان الراجح أنه كان يعيد قراءة الأحداث والإبداعات في مكتب آخر في إقامته، ثم يسرح بنظره في نهاية الأسبوع في مسالك الغولف. وحين لم يعد لاعبا تردد أنه كان يتقن هوايته أصبح يفضل المشي ويتأمل في صورة بلد منحه الشيء الكثير. وقد اضطر إلى اعتزال السياسة، لكن لم يتخل أبدا عن الكتابة، لأنه لا يقدر على تغيير هويته كاتبا قبل أن يكون سياسيا أو وزيرا.