تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أو من خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد. الأرجح أن العالِم الفقيه عبد الله كنون حين اقترح على الملك الراحل محمد الخامس خريجا من جامعة القرويين بفاس للتدريس في المعهد المولوي بالرباط، كان يتصور أن مهمة عبد الهادي بوطالب ستنحصر في التدريس في ذلك المعهد، دون الخوض في عالم السياسة، فقد كان الفقيه كنون، صاحب كتاب «النبوغ المغربي»، يعتبر أن دور رجال العلم والدين والثقافة ينحصر في نصح الحاكمين واستشارتهم وتقويم اعوجاجاتهم عندما تقع. غير أن بوطالب، الذي شرع في التدريس في المعهد المولوي، والذي لم تنقطع علاقته به بعد تخرج الملك الحسن الثاني، حيث سيعود إلى كرسيه في مرحلة لاحقة، بعدما تدرج في مناصب عديدة، مزج بين السياسة والنصيحة والصمت. ففي نوفمبر 1962، عين كاتب دولة في الأنباء، بتزامن مع نقل الوزير الأول أحمد العلوي من الأنباء إلى السياحة في الحكومة، التي شغل فيها زعيم حزب الشورى والاستقلال محمد بلحسن الوزاني منصب وزير دولة، وضمت شخصيات من الاستقلال والشورى والحركة الشعبية وغيرها، غير أن الوزاني قدم استقالته، واستمر بوطالب في مهمته، التي جمعت أيضا قطاع الشبيبة والرياضة، ثم أصبح في الحكومة الموالية التي ترأسها الحاج أحمد اباحنيني وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول، ثم وزيرا للعدل، قبل أن يتم تعيينه في عام 1967 وزيرا للتربية الوطنية. سيغادر بوطالب الحكومة ليترشح في الانتخابات التي قاطعتها غالبية أحزاب المعارضة، وكان ذلك بهدف «انتخابه» رئيسا لبرلمان الصوت الواحد، الذي لم يدم طويلا. فقد جرت انتخابات في صيف 1970، على خلفية تعديل الدستور، الذي ووجه بانتقادات شديدة من طرف أحزاب المعارضة، بل إن الحركة الشعبية الدستورية، بزعامة الدكتور عبد الكريم الخطيب، انحازت إلى مقاطعة الانتخابات بدورها. عندما كان عبد الهادي بوطالب وزيرا للعدل، تم اختطاف واغتيال المعارض المهدي بن بركة في التاسع والعشرين من أكتوبر، لكن بوطالب، الذي كان قد دعم قيادة الاتحاد الوطني في حركة الانشقاق الذي حدث داخل حزب الاستقلال، لم يفتح فمه للتعليق على القضية، ربما لأنها جرت في باريس وليس داخل التراب الوطني، أو ربما لأن الموضوع كان يتجاوز صلاحيات القيادي السابق في حزب الشورى والاستقلال.. والراجح أن النفوذ المتزايد للجنرال أوفقير، وزير الداخلية، كان يلقي بظلاله على تطورات الأحداث، إلى درجة أن عبد الهادي بوطالب سيعترف، يوما، بأن شكوكا بدأت تراوده حول دور محتمل للجنرال في الإعداد لشيء ما، لكنه لم يستطع أن يجهر برأيه، ربما خشية بطش أوفقير، أو يكون ذلك بدافع عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع الرجل القوي، خصوصا أن الملك الحسني الثاني حين كان تتناهى إلى علمه معطيات أو معلومات بصدد أي من الأشخاص المقربين إليه، يلجأ إلى مواجهتهم مع بعضهم في حضوره. سيكون عبد الهادي بوطالب، باعتباره رئيسا للبرلمان، من بين الشخصيات التي حضرت حادث المحاولة الانقلابية الفاشلة في العاشر من يوليوز 1971 في الصخيرات، وسيشاهد بأم عينيه الوقائع الكاملة لسقوط ضحايا برصاص العسكريين المتورطين، وقد صدقت مخاوفه بعد مرور سنة وبضعة أيام على انهيار تلك المحاولة، ليتورط الجنرال أوفقير مباشرة في محاولة إسقاط طائرة الملك الحسن الثاني القادمة من باريس. ستتغير وقائع على الأرض وفي الفكر، وسيكون تعديل دستور 1972 من أبرز محطاته، في ظل دعوة أحزاب المعارضة (الاستقلال والاتحاد الوطني) إلى المشاركة في حكومة وحدة وطنية للخروج من النفق. وسيكون لعبد الهادي بوطالب، وقد نزل من أعلى شجرة البرلمان المطعون في شرعيته، دور في الدفع في اتجاه الانفتاح على المعارضة، التي حافظ على علاقات ودية مع مكوناتها، بالرغم من أنه اختار السباحة في الاتجاه الآخر، إلا أن عقليات حالت دون ذلك، مما دفع الملك الحسن الثاني إلى استبدال الرهان السياسي بالانفتاح أكثر على حكومة تقنوقراطية، كان يراد من وراء تشكيلها عدم إقفال الباب نهائيا أمام أي إمكانات لمعاودة الحوار. غير أن هذا الرهان تطلب سنوات لإنضاج ظروفه، فقد بلورت المسيرة الخضراء ومشاركة أحزاب المعارضة في معركة الدفاع عن الوحدة الترابية تحولا في المواقف، أقلها أن خلافات المعارضة والنظام تلاشت إلى درجة الصفر في التعامل مع قضية الصحراء. لذلك، فإن حزب الاستقلال لم يجد مانعا من المشاركة في حكومة ما بعد انتخابات 1977، وستكون تلك الأجواء مناسبة يعود من خلالها عبد الهادي بوطالب إلى الحكومة. هفوة صدرت عن وزير الإعلام محمد العربي الخطابي في عام 1979، ستدفع عبد الهادي بوطالب إلى العودة إلى موقعه السابق في وزارة الإعلام، وخلال حفل تسليم السلط، الذي جرى في فندق بالعاصمة الرباط وليس في مقر الوزارة، وصف بوطالب الخطأ بأنه ممنوع على وزراء الإعلام، لكنه حين كان، يوما، بصدد نقل رسالة من الملك الحسن الثاني إلى قائد دولة خليجية، فوجئ لدى نزوله في المطار بأنه لم يعد وزيرا، ولعله ارتكب ما كان يحذر منه، وحين أصبح مستشارا متنفذا، بعد فترة إبعاد، وجد نفسه يوما ما يواجه المأزق ذاته، فقد صدرت أوامر بإخلاء مكتبه في الديوان الملكي، نتيجة خطأ صدر عنه، لم تفصح أي جهة وقتذاك عن نوعيته، لكن الذين يعرفون الملك الحسن الثاني رددوا بأنه ما كان ليقدم على إعفاء أستاذه السابق بتلك الطريقة لو لم تكن هناك مبررات كافية ومقنعة. بين توليه مناصب وزارية وازنة في الإعلام والتربية الوطنية والخارجية، وكذا الشبيبة والرياضة، يمكن ملاحظة أن مسار عبد الهادي بوطالب لم يكن مختلفا كثيرا عن باقي المستشارين والوزراء المتنفذين لدى الملك الحسن الثاني، فقد تنقل اكديرة، بدوره، بين الخارجية والتربية الوطنية والأنباء، وتدرج عبد اللطيف الفيلالي كذلك في مسار شمل الإعلام والخارجية والتعليم، ومر الدكتور محمد بنهيمة من نفس القنوات، التي اجتازت دهاليز الداخلية والخارجية والتعليم، إضافة إلى الأشغال العمومية. غير أن عبد الهادي بوطالب سيكون استثناء في تجربته، ولعله المستشار الوحيد الذي عين في منصبه أكثر من مرة وأبعد عنه أكثر من مرة، وحافظ، في غضون ذلك، على ارتباطات أهلته للقيام بكثير من المهام والأدوار، بعضها كان علنيا وبعضها اتسم بكثير من السرية، وحين كانت السبل تنقطع أمامه، كان يلوذ إلى عالم الفكر والثقافة والسياسة، يحاضر ويكتب ويحاور. وكما أن رجلا آخر اسمه عز الدين العراقي خرج من عالم السياسة ليصبح أمينا عاما لمنظمة المؤتمر الإسلامي، فإن عبد الهادي بوطالب سيلتحق بمنظمة الإيسيسكو للثقافة والتربية والعلوم، متفرغا لواجهة أخرى مكنته من الاطلاع عن كثب على أوضاع العالم الإسلامي في مجالات أخرى غير السياسة. كان عبد الهادي بوطالب رجل قانون، وقد كتب في السياسة والأدب، ولعل مسرحيته الشهيرة عن «وزير غرناطة» عكست ميوله نحو التعاطي مع القضايا العربية والإسلامية بمنطق معاصر، فقد كان المبعوث الأول للملك الراحل الحسن الثاني إلى العواصم الإسلامية ونسج علاقات مع قادتها، وفي كل مرة كانت فيها العلاقات بين المغرب وإيران تتطلب دفعة جديدة، كان الاختيار يرسو دائما على بوطالب، تماما كما كانت المهام التي يتكلف بها في الحوار مع الدول الخليجية تتسم في غالبيتها بالنجاعة، فقد كان يعرف العالم العربي والإسلامي جيدا. لعل ميزة الراحل بوطالب أنه كان مثل وزراء الأندلس، الذين يجمعون بين الثقافة والأدب والسلطة، لذلك فقد لاذ إلى عالم النشر والكتابة حين كان يضطر إلى الابتعاد عن أضواء السياسة، ولعل إعجابه الكبير بتجربة الزعيم التاريخي محمد بلحسن الوزاني، جعلت طالب جامعة القرويين ينفتح على الثقافة المعاصرة، دون أن ينسيه ذلك ولعه بالتاريخ. وإذا كان بوطالب قد استطاع أن يؤرخ لمسار تجربته عبر مذكرات عكست تعدد اهتماماته، فإن ما يعيب عليه البعض أنه كان يقرأ في كتاب الأحداث التي عاشها أو تناهت إلى علمه، استنادا إلى بعض الاعتبارات الذاتية في بعض الحالات، ويبقى أنه لم يترك الفرصة تمر دون أن يرافع دفاعا عن القضايا السياسية والقانونية والفكرية التي كان يؤمن بها، فهو لم يمسك عن الكتابة إلا أسابيع معدودة قبل أن يغيبه الموت. ولا يهم الآن أنه كان يغالي كثيرا في دوره في صنع الأحداث أو يقلل من ذلك الدور المشهود له، فالأهم أنه أرخ لما عاشه وعايشه، تاركا للتاريخ أن يحكم على مسار تجربة سياسية انطبعت بكثير من التحولات والتقلبات، مثل أحوال الطقس التي لا تصحو إلا لكي تمطر، أو لا تمطر إلا من أجل أن تصحو في الغد. كان عبد الهادي بوطالب يؤمن بأن الشعوب التي بلا ذاكرة لا يمكن أن تصنع مستقبلا يؤمن لها الانعطاف بعيدا عن الأخطاء، وإذا كانت ظروف قد ساقته لأن يصبح أستاذا للملك الحسن الثاني، واستطاع أن يتعايش معه تحت مظلة المستشار، فإن أستاذا آخر في علوم الرياضيات لم تسعفه الأقدار في ذلك التعايش. إنه المهدي بن بركة، الذي غاب يوما بينما كان عبد الهادي بوطالب يتربع على كرسي العدالة، وتلك مسألة أخرى.