التوافق قد يكون السبيل الأكثر أمانا بالنسبة لبلد يمر بمرحلة الانتقال والتحول السياسي ،وفي التجارب المقارنة فإن البلدان التي ذهبت بعيدا في إعتماد التوافق هي تلك التي قادت التغيير سلميا ودون إراقة الدماء ، لكن في المقابل لم يشهد العالم تجربة تسير بالتوافق لأكثر من 12 سنة..المغرب نستطيع أن نقول بأنه كلما طرحت فيه قضايا مصيرية إلا وتم تمييعها بمنطق التوافق ، حيث تصبح المفاهيم ملتبسة فلا المعارضة معارضة ولا الأغلبية أغلبية ، وغالبا ما يكون مطلوبا التوافق في قضايا من طبيعتها أن تكون مختلفة وأحيانا حد التناقض ،وهو ما يستدعي بشكل طبيعي وبدون اعتراض استعمال الأغلبية للتفويض الشعبي ، وتوضيح موقفها وموقف المعارضة للرأي العام الذي يمكن أن يكافئ أو يعاقب في إنتخابات دورية ونزيهة . يقول المغاربة « يدي ويد القابلة كتخرج الصبي عور» ، وهو ما جرى ويجري بالنسبة لعدد من النصوص القانونية أهمها الدستور ، فعدد من القوانين وبكثرة البحث عن التوافق ، الذي هو في النهاية إرضاء عدد كبير من الأطراف..تحتمل كل التفسيرات والتأويلات وتضيق بنفسها ، وهو ما يجعلها عند التنفيذ تفتقد إلى الكثير من مقومات القوانين وتحفل بالكثير من الثغرات ،وهي نتيجة طبيعية وتحصيل حاصل لتوظيف سياسوي لمبدأ التوافق النبيل . تاريخ التعددية الحزبية في المغرب ، يعرفها القاصي والداني ، والجميع يعرف وبنفس القدر كيف يميز بين أحزاب سياسية حقيقية بتاريخ وتنظيمات وقواعد عمل ومشروع مجتمعي ومنظومة فكرية وتراكم في التجارب وتأطير لفئات واسعة من المواطنين باختلاف توزيعهم السوسيومهني وعلى امتداد التراب الوطني وبعلاقات دولية وازنة ، وبين أحزاب وهي الأكثرية العظمى إما صنعت في مكاتب وزراء الداخلية السابقين كتجسيد لإرادة الدولة في تمييع الحياة الحزبية والسياسية وتسييج العمل الحزبي والبرلماني ببنيات حزبية هجينة فلاهي بإدارة ولا هي بحزب ، وأحزاب أخرى منبثقة عنها أو منبثقة عن الأحزاب الوطنية في إطار الوفاء للظاهرة الانشقاقية ، لكن غالب هذه الإنشقاقات في السنوات الأخيرة لم تفرز أحزابا بالمعنى المتعارف عليه عالميا ، بل بأحزاب أشخاص إما أنهم ذووا نرجسية مفرطة أو طموحات أكبر من إمكانياتهم وتمردهم على القواعد الناظمة والمؤطرة لتحمل المسؤوليات داخل الحزب أو بإسم الحزب داخل الدولة ، وهذه التجارب الحزبية ظلت وإلى اليوم مرتبطة بالمسؤول الأول على الحزب ، وغالبا ما يكون رجلا « مهضارا « أي كثير الكلام وخاصة الكلام الكبير الذي لا يملك « أكتافا « لتحقيقه. فكيف يمكن أن نقبل بطرح قضايا مصيرية للتوافق وسط بنية حزبية مشوهة بهذا الشكل ؟ وكيف يمكن إعمال التوافق في قضايا من أجلها خلقت الانتخابات والمؤسسات والتصويت الذي يميز بين الأغلبية والأقلية ؟ وكيف يمكن بناء التوافق خاصة حول قضايا الانتخابات التي ترتكز إلى رؤية سياسية ولحجم كل حزب وموقعه في الساحة السياسية ، وهو ما يجعل الموقع والحجم يحددان طبيعة الموقف من القضايا المطروحة ، فالأحزاب المبنية على الوجهاء وبعض المتحولين الحزبيين الدائمين وعلى إفتقاد بنية تنظيمية وهيئات موازية ، تميل بصفة تلقائية على مستوى التقطيع للدوائر الصغيرة لمنح الفرصة للفساد المالي وتمكين مرشحيها من حظوظ الفوز، وعلى العكس من ذلك عندما يتعلق الأمر بحزب منظم فإنه يسعى إلى دوائر كبيرة لاستثمار انتشاره التنظيمي ولقطع الطريق على إستعمال المال..وبالنسبة للعتبة فإنه من الطبيعي أن عددا من الأحزاب الصغرى والتي في غالبها عبارة عن دكاكين حزبية لبيع التزكيات ، سوف تبحث عن تخفيض العتبة ولما لا إلغاءها بصفة نهائية وذلك لتتمكن من الحصول على بعض المقاعد ، وطبيعي أن تذهب الأحزاب الكبرى إلى التشدد في مسألة العتبة ، وذلك لإفراز مشهد سياسي أقل بلقنة ويتيح إمكانيات حقيقية لقيام حكومات منسجمة بعدد قليل من الأحزاب ومن الوزراء...وغيرها من القضايا التي هي من صميم الحياة السياسية والأكثر إثارة للخلافات. الخوف اليوم هو أن يتحول منطق التوافق إلى بديل عن المؤسسات بأغلبيتها وأقليتها ، وهنا لا بد أن نقول بأن عددا من مواقف بعض الأحزاب لا تستند على أي منطق خارج منطق مصالحها الخاصة ، والدليل أن مواقف متناقضة توجد في كلا الضفتين ، فمن داخل الأغلبية هناك من يعترض على رفع العتبة ومن داخل المعارضة هناك من ينادي برفعها، وهو ما يعني أن حجم الحزب لا علاقة له بالوجود في المعارضة أو الأغلبية ، لذا ليس من حق جلسات الداخلية المملة أن تسلب البرلمان حقه في الحسم ، وأن ندمن التوافق إلى حد التورط في جرعة قاتلة تشل البلد ككل...