وللبيت، عدة علامات استقيناها مما أنجزه الشعراء، ويجوز أن تكون هناك علامات أخرى لم نذكرها، لأننا لم نعثر عليها في المتن الكبير الذي جعلناه مادة لهذه الدراسة. وهذه العلامات تظهر في تفعيلته الأولى والأخيرة. 1-لابد أن يبتدئ البيت بتفعيلة تامة، أو مخرومة شريطة ألا يعالج هذا الخرم بربط البيت ببيت سابق. 2-أما التفعيلة الأخيرة، فلها ثلاث حالات: أ.أن يلحق بها الترفيل أو التذييل أو التسبيغ أو أي زيادة، ب.أن يلحق بها الحذف، أو القطف أو القصر أو القطع أو الحذذ أو الصلم أو الوقف أو البتر أو أي نقص، ويشترط ألا تزول هذه العلل [أ-ب] بربط البيت بالبيت الموالي. ج.أن تكون تامة. وفي هذه الحالة لابد للبيت من علامات أخرى، وهي: - أن ينتهي البيت بقافية لرويها صدى في البيت التالي، أو في أحد الأبيات السابقة، أو في البيت الموالي، أو في أحد الأبيات الموالية، - أن يوقف على الضرب بالسكون وجوبا، - وجوب إشباع حركة الضرب، - أن يكون الجزء الأول من البيت الموالي مخروما خرما لا يجبر، - أن يكون البيت الموالي من بحر آخر. وأن هذا البحر يبقى حاضرا حتى وإن ربطت بين البيتين، - أن يكون هذا البيت إما نهاية فقرة أو نهاية القصيدة. والبيت، بعد كل هذا، قد يكون من تفعيلة واحدة تامة أو ناقصة أو مذيلة أو مرفلة. وقد يكون من تفعيلتين أو أكثر. وقد يكتب على سطر واحد، أو على عدة أسطر. وهذه نماذج توضيحية: يقول المجاطي: كَانَ حِينَ يَزُورُ الْمَدِينَةَ يَطْرُقُ بَابِي أُعِدُّ لَهُ قَهْوَةَ الْعَصْرِ يَكْتُمُ سَعْلَتَهُ أَتَسَوَّرُ بِالنَّظَرِ الشَّزْرِ قَامَتَهُ الْمَارِدَهْ(1) ويقول الخمار الكنوني: خُطَى امْرَأَةٍ يُعَرْبِدُ نَقْرُهَا الْوَثَنِيُّ بَعْدَ النَّفْيِ يَرْتَفِعُ وَصَوْتُ سَفَائِنِ الْمِينَاءِ تُفْرِغُ قَمْحَهَا - مِنْ يَدِهَا الْعُلْيَا؟-(2) ويقول: إِذْ صَارَ النَّاسُ بِطَاقَاتٍ، أَرْقَاماً وَصفُوفاً وَقْتَ اجْتَاَح الْجُذَرِيُّ الأَوْجُهَ وَالأَنْفُسْ(3) ويقول: إِنَّهُ زَمَنٌ أَطْفَأَتْهُ السَّرِيرَهْ فَأَطْفَأَهَا وَاسْتَحَالَ رَمَاداً وَمَا أَشْعَلَتْهُ الْعَشِيرَهْ(4) ويقول الفيتوري: غَضَبِي يَا مَوْلاَتِي لَوْ أَقْدِرُ كُنْتُ مَلأْتُ حَدِيقَتَنَا الْجَرْدَاءْ بِالزَّنْبَقِ وَالدِّفْلَي وَكُنْتُ غَسَلْتُ كَآبَاتِ الْفُقَرَاءْ(5) النموذج الأول مكون من ستة أسطر. فهل كل سطر بيت؟ لنطبق القواعد التي سقناها للتعرف على البيت في القصيدة الحرة. وبهذا، نقول إن السطر الأول يمكن عده بيتا. لماذا؟ لأنه من بحر المتدارك، أوله تفعيلة سالمة، وآخره تفعيلة بها علة الترفيل. يضاف إلى هذا أن البيت الموالي أوله تفعيلة مخرومة وهو من المتقارب. لكن هذا الخرم، وهذا البحر الجديد يمكن التخلص منهما بربط السطر الأول بالسطر الثاني. وبهذا، يصبح السطر الأول والثاني بيتا واحدا من بحر واحد. لكن هذا البيت الجديد ينتهي بتفعيلة مرفلة. إذن، فهو بيت مستقل، خاصة وأن ما يليه من بحر جديد هو المتقارب. فهل يمكن الربط بينهما؟ إن هذا الربط سيجعل المتقارب يختفي، ولهذا، فالربط واجب، لأن الأصل في الشعر العربي أن يكون من بحر واحد. وبهذا، يصير السطر الأول والثاني، والثالث بيتا واحدا ينتهي بكلمة "العصر" التي يجب أن نقف عليها بالسكون، وهذا الوجوب من علامات البيت. لكن السطر الموالي يحتاج إلى كلمة "العصر" ليزول ما به من خرم. وهكذا، يصير السطر الأول والثاني والثالث والرابع بيتا واحدا منتهيا بتفعيلة تامة. لكن قافيته لا تجد لها صدى، لا في ما سبق، ولا في ما يلحق. فلهذا، لابد من ربط البيت بما يليه. وهكذا، يصبح ما قاله الشاعر في ستة أسطر بيتا وحدا. النموذج الثاني: من الوافر. فالسطر الأول يمكن عده بيتا، لكونه يبتدئ بتفعيلة تامة، وينتهي بتفعيلة تامة. وتمام التفعيلة الأخيرة يقتضي شرطا آخر، وهو هنا خرم البيت الموالي. لكن هذا الخرم يمكن التخلص منه بالربط بين السطرين وجعلهما معا بيتا واحدا ينتهي بتفعيلة تامة كذلك. لكنها معززة بأحد شروطها، وهو هنا ضرورة إشباع حركة العين، لأن من شروط الضرب أن ينتهي بساكن. السطر الثالث يمكن ان يكون بيتا، لأن تفعيلته الأولى سالمة، والأخيرة معتلة بالزيادة، لكن يمكن ربطه بالسطر الرابع، ليزول ما بهذا السطر من خرم. وبهذا، يكون النموذج الثاني مؤلفا من بيتين موزعين على أربعة أسطر. النموذج الثالث: يتألف من سطرين. الأول، يبتدئ بتفعيلة تامة، وينتهي بتفعيلة تامة كذلك، ولكنها تفتقر إلى أحد شروطها؛ لهذا، يُربط هذا السطر بالسطر الموالي ليكونا معا بيتا واحدا ينتهي بكلمة "الأنفس" التي يجب أن نقف عليها بالسكون، لأن الضرب لا ينتهي بمتحرك، وإذا أشبعنا الحركة، صار الضرب من (فاعلن). وهذا غير مقبول في الخبب. النموذج الرابع: القافية هنا عامل مساعد على تحديد البيت. لكن الأحسن أن نفترض أنها غير موجودة، فيكون السطر الأول، وجوبا، بيتا، لأنه من بَحْر المتدارك، والثاني من المتقارب، وأن الربط بينهما يُبقي على هذين البحرين. فإذن، هذا النموذج، سواء اعتبرنا القافية أو لم نعتبرها يتألف من بيتين. النموذج الخامس: يتكون من ثلاثة أبيات موزعة على أربعة أسطر. السطر الأول والثاني بيت واحد ينتهي بضربٍ لقافيته صدى في بيت لاحق. السطر الثالث ينتهي بتفعيلة تامة. وبما أن أحد شروط هذا التمام حاضر، فإن هذا السطر بيت. ج* لكن لماذا وجب تحديد البيت؟ إن لهذا العمل أهمية كبرى. ذلك بأن البيت في القصيدة الحرة لم يعد يكتب وَفْق وزنه. ولم يعد يهتم بالقوافي باعتبارها أبرز علامات البيت. يضاف إلى هذا أن القصيدة الحرة صارت توزع، بصريا، توزيعا يوحي بأنها حرة. لهذا، وجب تحديد البيت، لنستطيع التعرف على شكل النص الشعري. وللتوضيح نقدم النماذج التالية: يقول أدونيس: حَوْلِي عَلَى وَجْهِ الضُّحَى، صَدَأٌ يَغْفُو كَحِرْبَاءٍ عَلَى بَابِي وَيَدُورُ مَسْعُوراً، وَيَكْمُنُ لِي فِي شَكْلِ أَظْفَارٍ وَأَنْيابِ أَرْنُو لَهُ بِغَدِي وَأَغْسِلُهُ بِدَمِي وَأَعْصَابِي(6) يقول المعداوي: هَذِهِ الدَّقِيقَةُ بَيْنَ أَسْرَابِ الرِّفَاقِ أُنْشُودَةٌ زَهْرَاءُ تَرْقُصُ فِي انْطِلاَقِ وَيُرَى بِالدَّرْبِ الْمُسَالِمِ لِلْحَيَاةِ خَيَالُ سَاقِ عَبَثَتْ أَصَابِعُهُ الْحِسَانُ بِكُلِّ كُوبٍ فِي الرِّوَاقِ مَا أَنْتَ بِالشُّحْرُورِ غَيْرُ صَدىً لأَحْلاَمِ الطُّفُولَهْ اَلضَّيْعَةُ الْخَضْرَاءُ وَالنَّغَمُ الْمُرَفْرِفُ فِي أَصَائِلِهَا الْجَمِيلَهْ وَالرِّيحُ تَقْتَلِعُ الْجُذُورَ عَلَى انْتِفَاضَاتِ الْخَمِيلَهْ هَذِي الْمَعَانِي وَغَيْرُهَا جَعَلَتْكَ تَحْيَا لِلْبُطُولَهْ(7) ويقول الفيتوري: قُلْهَا. لاَ تَجْبُنْ.. لاَ تَجْبُنْ قُلْهَا فِي وَجْهِ الْبَشَرِيهْ.. أَنَا زِنْجِي.. وَأَبِي زِنْجِيُّ الْجَدِّ وَأُمِّي زِنْجِيهْ.. أَنَا أَسْوَدْ، أَسْوَدُ لَكِنِّي حُرٌّ أَمْتَلِكُ الْحُرِّيه أَرْضِي إِفْرِيقِيه.. عَاشَتْ أَرْضِي.. عَاشَتْ إِفْرِيقِيه ! (8) قبل أن نعلق على هذه النماذج، نود أن نلفت النظر إلى أن من القصائد الحرة ما جاء مرسلا، ومنه ما جاء بقواف منوعة، ومنه ما جاء على وحدة الروي كبعض قصائد البياتي(9)، وحجازي(10)(...)، وحين تحضر القافية، فإنها قد تضلل الباحث الذي يريد تحديد البيت. لننظر الآن إلى النماذج السابقة: النموذج الأول: مكتوب، بصريا، كما تكتب القصيدة. ويعزز هذا أن النص يقوم على وحدة الروي. لكن حين نعرض الأبيات على السمع، يتضح أن لكل بيت مدى زمنيا خاصا. وهذا يسمح بأن نحكم على النموذج بأنه قصيدة حرة موزونة تفعيليا على الشكل التالي: 3-3-3-3-3-2. فلو جاء البيت الأخير بثلاثة أجزاء، لما كنا أمام قصيدة حرة. النموذج الثاني مكتوب، بصريا، كالشعر المقطوعي الذي يشبه بناؤه بناء القصيدة؛ إذ لكل دَوْرٍ قافيته الموحدة الروي. ولكن الأبيات هنا غير متساوية في مداها الزمني. وبهذا، فنحن أمام قصيدة حرة. أما النموذج الثالث، فهو النموذج المشكل المرتبط أكثر بموضوعنا. فهل هو قصيدة؟ أم هل هو قصيدة حرة؟ إنه نص مكون من عشرة أسطر. السطر الأول والثاني يشكلان بيتا واحدا. السطر الثالث والرابع، يمكن اعتبارهما بيتا واحدا بقافية لرويها صدى في أحد الأبيات الموالية. السطر الخامس، بيت مستقل؛ لأن آخره ينتهي بروي هو صدى لروي سابق ولروي لاحق، وفي الوقت ذاته نقول إن هذا البيت لا يمكن ربطه بغيره عروضيا. السطر السادس بيت مستقل عروضيا كذلك؛ لأنه ينتهي بقافية لرويها صدى في البيت الرابع. السطر السابع بيت مستقل عروضيا ينتهي بقافية. وكذلك الأمر بالنسبة للسطر الثامن. أما السطران التاسع والعاشر، فهما معا بيت واحد مستقل عروضيا مذيل بقافية. إذن، بهذا الوصف، فنحن أمام نص من سبعة أبيات موزعة حسب عدد تفاعيل كل بيت على الشكل التالي: 9-5-3 [مخروم] 2-7-3-3. وهذا يعني أن النص يقوم على وحدة التفعيلة؛ أي: إننا أمام مقطع من قصيدة حرة. والحق أن النص قصيدة من أربعة أبيات، بحيث نربط السطر الأول والثاني، فنحصل على البيت الأول؛ ونربط السطر الثالث بالرابع وبالخامس، فنحصل على البيت الثاني. السطر السادس والسطر السابع يشكلان البيت الثالث؛ وباقي الأسطر تقدم البيت الرابع. أما الكلمتان [الجد] و [الأسود]، فهما قافيتان داخليتان. قد يتساءل القارئ: لماذا نتعب أنفسنا في البحث عن الشكل العروضي للنص الشعري، مادام جوهره لا يتغير، سواء أصنفناه ضمن القصيدة أم ضمن القصيدة الحرة؟ إن هذا التساؤل وجيه. لكن نقول مع ذلك إن أدوات تحليل القصيدة لابد أن تكون مختلفة عن أدوات تحليل القصيدة الحرة. يضاف إلى هذا أن بعض الباحثين في الشعر، وفي إيقاعه خاصة، عندما لا ينطلقون من تحديد الشكل العروضي للنص، يخطئون في نتائج أبحاثهم. فقد ذكر الأستاذ محمد بنيس أن مجموعة من الشعراء يكتبون قصائدهم بالشكل التقليدي، ثم يفتتون الأبيات بصريا ومكانيا بطريقة تخدع القارئ. وذكر منهم بنسالم الدمناتي، ومحمد السرغيني، ومحمد الميموني. وقدم نماذج شعرية لهم يثبت من خلالها صحة كلامه. أولا كيف علم الباحث أن نصوص هؤلاء الشعراء تمثل القصيدة التراثية؟ الجواب: إنه وضع في ذهنه مفهوم البيت. وفي ضوء هذا المفهوم، أخذ يفحص قصائدهم، فاكتشف أنها خاضعة لخصائص القصيدة العربية، ولكن حين فحصنا نحن النماذج التي استشهد بها، وجدنا فعلا أن نموذجي الدمناتي والسرغيني ينتميان إلى القصيدة. أما نموذج الميموني، فقد أخطأ الباحث في وصفه. إذ الصواب، أنه قصيدة حرة. وهو كالآتي: سَتَأْتِي فَهَذِهِ عُصْفُورَةُ الصُّبْحِ تُعْلِنُ أَنْ حَانَ مَوْعِدُهُ وَهَذَا الشَّذَى الْمُتَدَفِّقُ عَبْرَ الطَّرِيقِ رَسُولُ الْهَوَى هِي تُوفِدُهُ فَمَوْعِدُهَا مَوْعِدُ الشَّمْسِ كُلَّ صَبَاحٍ تُجَدِّدُهُ حَتَّى وَإِنْ حَاصَرَتْهَا الشِّبَاكُ عَلَى الدَّرْبِ تُوصِدُهُ كَمَا تَخْرُجُ الأُقْحُوَانَةُ بَيْنَ رُكَامٍ مِنَ الصَّخْرِ تُبْعِدُهُ فَفَاتِنَتِي تَحْفَظُ الْوَعْدَ كَالصُّبْحِ.. كُلَّ مَسَاءٍ لَهُ غَدُهُ إن هذه الأبيات جاءت ضمن قصيدة حرة تحمل عنوان "كل مساء له غده"(11). وتشتمل على مقطعين: الأول على بحر الطويل، والثاني على بحر المتقارب. الأول قصيدة، والثاني قصيدة حرة. ومنه، أخذ هذا المقطع الذي يتألف من ستة أبيات موحدة الروي، لكنها، على مستوى كَمِّ التفاعيل، موزعة على الشكل التالي: 8-9-7-7-8-8. وبهذا، فنحن أمام شعر التفعيلة. وإن ما أوهم بنيس بأن هذا النص قصيدة تقليدية حفاظه على وحدة الروي، ووجوده ضمن أبيات من الطويل ! وحين نقوم بالعمل نفسه مع "الكوليرا" لنازك الملائكة، نكتشف أنها ليست قصيدة حرة وإنما هي شعر دَوْري. وقد سبقنا إلى هذه الملاحظة أكثر من دارس. مراجع (1) الفروسية. ص: 45. (2) رماد هسبريس. الخمار الكنوني. دار توبقال. البيضاء. ط1: 1987. ص: 13-14. (3) ن.م. ص: 48. (4) ن.م. ص: 57. (5) ديوان الفيتوري. دار العودة. ط3: 1979. 1/469. (6) أوراق في الريح. أدونيس. دار العودة. بيروت.. ط.3: 1971. ص: 10. (7) ديوان المعداوي. دار الكتاب. الدارالبيضاء. ص: 45. (8) ديوان الفيتوري: 1/80 وما بعدها. (9) انظر قصائده: إلى القتيل رقم 8 (نونية) 1/453- برلين في الفجر (ميمية)459- إلى هانسن كروتسبرغ (همزية): 1/461 ? إلى العامل بيتر بابرتز (همزية): 1/465إلخ، والظاهرة كثيرة في شعره. (10) انظر قصائده على سبيل المثال في مجموعته كائنات مملكة الليل التالية: -بطاله (همزية). ص: 17- ثلج (فائية). ص: 27- ثلاث أغنيات للحرب 1-الحديد والجسد (رائية). ص: 31. 2- علم القنطرة شرق (ميمية). ص: 33 إلخ. (11) آخر أعوام العقم. دار النشر. البيضاء.. ص: 75.