أ- يردد العروضيون ما يلي: الوزن أهم عنصر يميز الشعر عن النثر. ونحن، في هذا المبحث، نستعير منهم هذه العبارة الصحيحة مع تحوير لا يؤثر في معناها، فنقول: البيت هو أهم عنصر يميز الشعر عن النثر. ذلك بأن النثر يتألف من أسطر، والسطر قد يطول وقد يقصر، بحسب طبيعة الصحيفة التي تحتضنه؛ لهذا، فإن العين قادرة على التعرف عليه. أما البيت، فله، على الصفحة، شكل محدد تدركه العين. فإذا اتخذ شكلا مخالفا، كانت الأذن قادرة على التعرف عليه. فإذن، البيت يدرك بالعين وبالأذن. والبيت في الشعر العربي عرف تطورا من حيث شكله؛ فهو في سجع الكهان، والأراجيز، مكون من شطر واحد. ومن علاماته، انتهاؤه بقافية. وهو في القصيدة، مكون من شطرين متساويين، ومن بحر واحد، وينتهي بقافية، والشطران قد يكتبان منفصلين أو متصلين. لكن، مع ظهور الموشح، اعتبرت مجموعة من الأشطار بيتا عند مؤرخي الأدب ودارسي الموشحات. ونحن في هذه الدراسة اعتبرنا البيتَ جزءا واحدا مكونا من شطر كالأرجوزة وسجع الكهان، ومن علاماته أيضا، انتهاؤه بقافية. والعامل المشترك بين البيت في الأشكال الشعرية المذكورة هو: - الاستقلال العروضي: أي إن البيت لا يحتاج، لإتمام دورته الوزنية، إلى بيت سابق أو بيت لاحق. - أن يكون من بحر واحد. - أن ينتهي بقافية يجد رويها صدى في النص الشعري الذي ينتمي إليه هذا البيت. لكن مع ظهور القصيدة الحرة، ظهرت صعوبة في تحديد البيت، خاصة وأن القصيدة الحرة تُكتب كما يُكتب الشعر الغربي المترجم إلى العربية، ويُكتب كما تُكتب قصيدة النثر. يضاف إلى هذا أن الشعراء ما عادوا يوزعون أبياتهم على الورق وَفقا لأوزانها. لكل هذا، ظهر من يتحدث عن الشطر، وعن السطر الشعري، وعن الجملة الشعرية، وعن الدَّوْرة، وعن البيت دون أن يتفقوا على اسم واحد. اختارت نازك الملائكة، من خلال كتابها "قضايا الشعر المعاصر"، مصطلح الشطر. وكأنها بهذا المصطلح تربط القصيدة الحرة بالأرجوزة. ولعل هذا ما جعلها تفرض طولا معينا لهذا الشطر. بحيث كانت تريده أن يبقى مرتبطا بالشَّطْر في الرجز أو بطول البيت في القصيدة. لكن الدكتور عز الدين إسماعيل آثر مصطلح السطر أولا، ثم مصطلح الجملة الشعرية ثانيا، معلنا رفضه صراحة مصطلح البيت. يقول: »كان للبيت الشعري التقليدي شكل ثابت، لأنه يتبع نظاما ثابتا (...) ألا يحدث كثيرا أن يبدأ أحدنا بالبيت التقليدي، فما يكاد ينتهي من صورة حتى يُتم له شخص آخر عَجُزَه؟ إننا نستطيع، على أقل تقدير، أن نتصور عجزه. ولا سبب لهذا، إلا أننا نعرف من مصدر البيت النظام الذي يتحتم أن يتبعه كل بيت. وهو نظام لا يمتلكه الشاعر وحده صاحب البيت. وإنما هو نظام نمتلكه جميعا (...) وفي الإطار الجديد للقصيدة، لم يعد للبيت التقليدي وجود أو لنقل إنه لم يعد للنظام التقليدي للبيت تحكم، بعد أن كسر هذا الإطارَ(1) المسمطُ، وترك مفتوحا لاحتمالات كثيرة أغنى لأشكال مختلفة من النظام، لا نعرف على وجه التحديد أي شكل منها سيأخذ البيت. ومن هنا، لم نعد نسمي البيت بيتا، بل صرنا نسميه "سطرا" من الشعر(2) ولهذا، يرى عز الدين إسماعيل أن أشكال التجديد والتطور في موسيقا شعرنا المعاصر عرفت ثلاث مراحل: - مرحلة البيت الشعري ذي الشطرين المتوازيين عروضيا الذي ينتهي بقافية مطردة في الأبيات الأخرى، - مرحلة السطر الشعري، وهي مرحلة ما يسمى بشعر التفعيلة، - ثم أخيرا مرحلة الجملة الشعرية(3). ويبدو مما تقدم أن الدارس قد أهمل طورا قد يكون سابقا القصيدةَ، أو متزامنا معها من خلال الأراجيز خاصة. وقد رد على الباحث باحثٌ آخر ردا نراه مقنعا، ونعني به قول الدكتور محمد حماسة عبداللطيف التالي: »والتسمية بالسطر الشعري تسمية غير دقيقة (...) لأنها لا تخص الشعر الحر. فالبيت في الشعر القديم سطر شعري أيضا وليس هناك مسوغ لأن يسمى أحدهما بيتا أو يسمى الآخر سطرا شعريا«(4). ثم يضيف قائلا: »إن التسمية بالسطر غير دقيقة؛ لأن السطر وحدة كتابية، فقد تطلق على ما يشغل سطرا في النثر أو الشعر. والقصيدة الحرة قد يشغل كل جزء منها سطرا أو بعض سطر، فلا يكون السطر في حالة نقصانه معبرا عما يشغله من الشعر تعبيرا دقيقا، فهو ليس وحدة شعرية في هذه الحال«(5). ونضيف إلى هذا الاعتراض ما يلي: كيف نحدد السطر حين يتخذ الشعر في الكتابة شكل النثر؟ وقد انتبه الدكتور عز الدين إسماعيل إلى شيء قريب من هذا، فاستحدث مصطلح الجملة الشعرية. فما الجملة الشعرية؟ يقول الدكتور عزالدين إسماعيل: »إذا كان الشطر الشعري بنية موسيقية تشغل من حيث الحيز سطرا من القصيدة يصل امتداده الزمني في بعض الأحيان، وفي أقصى الحالات، إلى تسع (...). فإن الجملة الشعرية بنية موسيقية أكبر من السطر وإن ظلت محتفظة بكل خصائصه. فالجملة تشغل أكثر من سطر، وقد تمتد أحيانا إلى »خمسة أسطر أو أكثر(6) (...) الجملة الشعرية نَفَسٌ واحد ممتد يشغل أكثر من سطر...« (7). لم يحدد الباحث شكل هذ الأسطر التي تُكوِّن الجملة الشعرية. أهي أسطر متساوية الطول، بحيث توحي بصريا بأنها سطر من نص نثري. ولكن، من خلال النماذج التي قدمها الباحث، ومن خلال معرفتنا للمرحلة التي ظهر فيها كتابُه، يتبين أن الجملة الشعرية عنده هي أسطر متفاوتة الطول تجمع بينها فكرة واحدة، وقد تنتهي الأسطر مع ذلك، إما بقافية، وإما بعلل أخرى. وهذا مخالف لمصطلح التدوير. يقول بدر شاكر السياب: وَكُلُّ شَبَابِهَا كَانَ انْتِظَاراً لِي عَلَى شَطٍّ يُهَوِّمُ فَوْقَهُ الْقَمَرُ وَتَنْعَسُ فِي حِمَاهَا الطَّيْرُ رَشَّ نُعَاسَهَا الْمَطَرُ فَنَبَّهَهَا فَطَارَتْ تَمْلأ ُالآفَاقَ بِالأَصْدَاءِ نَاعِسَةً تَؤُجُّ النُّورَ مُرْتَعِشاً قَوَادِمُهَا وَتَخْفِقُ فِي خَوَافِيهَا ظِلاَلُ اللَّيْلِ. أَيْنَ أَصِيلُنَا الصَّيْفِيُّ فِي جِيكُورْ؟(8) يقول عزالدين إسماعيل معلقا على هذه الأبيات: »السطر الأول قائم موسيقيا بذاته. وقد أوردناه هنا لكي يتضح السياق المعنوي فحسب. أما الأسطر الأربعة التالية، فجملة واحدة متصلة تتكون من خمس عشرة تفعيلة إذا نحن توقفنا عند كلمة "الليل" في السطر الأخير، ومن ثماني عشرة تفعيلة إذا نحن امتددنا إلى نهاية السطر. والواقع أننا لا نستطيع إلا أن نمتد بالقراءة إلى نهاية السطر (...) وليس في وسعنا أن نتمثل في هذه الجملة كل سطر على أنه وحدة موسيقية يمكن التوقف عند نهايتها. بل نجد هذه السطور تتدفق فتلتحم نهاياتها ببداياتها التحاما قويا«(9). إذن، فالمهم في الجملة الشعرية هو الاتصال المعنوي لا العروضي؛ لأن هذا الأخير هو الذي يعطي القصيدة ظاهرة التدوير. وبهذا، فالجملة الشعرية ليست من خصائص القصيدة الحرة. ففي الموشح، قد يكون التدوير كله جملة شعرية. كما أننا قد نجد هذه الجملة في الأرجوزة، وحتى في القصيدة. فحين يقول امرؤ القيس: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ ألا يشكل هذان البيتان جملة شعرية تبدأ بمخاطبة الشاعر صاحبيه، وبذكر الأماكن التي لها علاقة وجدانية بذات الشاعر. على أن المثال الذي قدمه الباحث غير مقنع، إذ يمكن أن يكون أكثر من جملة، فالبيت/ السطر الثاني الذي ينتهي ب "المطر" يمكن أن يكون جملة شعرية مستقلة مرتبطة بجملة شعرية موالية بأداة العطف. ومع ذلك لم يَرُق مصطلح الجملة الشعرية الدكتور السعيد الورقي، إذ فضل مصطلح الدَّوْرَة النغمية. وهي عنده البيت الطويل الموزع على عدة أسطر. فإذ اتسعت هذه الدورة سماها الموجة(10). وهي قريبة من مصطلح الجملة الاستغراقية التي عرفها المجاطي بقوله: »هي الجملة التي تستغرق القصيدة كلها إيقاعيا، فلا يبقى ثمة مجال لمساهمة أي من السطر الشعري، ولا الجملتين القصيرة والطويلة«(11). على أن ثمة فرقا بين مصطلح عز الدين إسماعيل، وما اقترحه غيره. فأساس الجملة الشعرية الاتصال المعنوي. أما أساس الدورة النغمية، أو الموجة، أو الجملة الاستغرافية، فهو الاتصال العروضي. لكن ثمة من فضل مصطلح البيت. يقول الدكتور محمد حماسة عبداللطيف: »في القصيدة الحرة، نجد أنها مكونة من "مجموعات من التفعيلات"، كل منها تنتهي بقافية، كما أن القصيدة القديمة كذلك. ولكن مجموعة التفعيلات(12) في القصيدة القديمة متساوية تماما، وهي ليست كذلك في القصيدة الحرة. نحن نسمي هذه المجموعة المتساوية من التفعيلات في القصيدة القديمة بيتا، ولا أجد غضاضة في تسمية نظيرتها في القصيدة الحرة بيتا كذلك برغم عدم دقة التسمية. فالبيت في القصيدة الحرة هو مجموعة التفعيلات التي تنتهي بقافية أيا كان عدد التفعيلات، وأيا كان نوع القافية، وسواء أكتب على سطر واحد أم على عدة أسطر«(13). لكن لماذا اعتبر الباحث التسمية غير دقيقة؟ يقول: »لأن البيت مصطلح محدد الدلالة في الشعر القديم، وهو يُعد وحدة القصيدة. ولذلك تساوى جميع الأبيات في القصيدة. وكل بيت مكون من شطرين في الوزن التام، وفي المجزوء. وللبيت عروض وضرب لهما مواصفات خاصة. ومن خلال تنوعهما يتنوع إيقاع البحر الواحد، وتتعدد صوره. وكل بيت ينتهي بقافية موحدة مع جميع أبيات القصيدة في القصائد ذات القافية الموحدة، أو تتفق مع أبيات المجموعة، سواء أكانت ثنائية أم ثلاثية، أم رباعية في القصائد التي تنوع في القافية في العصر الحديث. وكل هذه الخصائص والسمات لا تتوافر في مقابل البيت في الشعر الحر. ولذلك قلت: إن هذه التسمية غير دقيقة«(14). هذا الكلام لا يعير أي اهتمام للتطور الذي يلحق الفنون. فالبيت في الأرجوزة مختلف عن البيت في القصيدة، فلما تطور شكل البيت ظهر مع تطوره شكل شعري جديد. وهذا واضح في الموشحات، وفي القصيدة الحرة. وفي الشعر الغربي، وخاصة الفرنسي، يُتحدث مثلا عن L?alexandrin، وهو نظم قديم عندهم، وما يزال حاضرا، لكنهم يميزون بين L?alexandrin classique وبين L?alexandrin romantique وبين l?alexandrin libéré وبين L?alexandrin désarticulé وL?alexandrin symboliste(15). وكل هذه الأشكال لها عدد ثابت من المقاطع، لكن بنية كل شكل تختلف عن بنيات باقي الأشكال. فالأول يقوم على le tétramètre: 3-3-3-3. أي على أربعة أجزاء. ويقوم الثاني على Le trimètre: 4-4-4. أي على ثلاثة أجزاء. إلخ. فإذن، يمكن في الشعر العربي الحديثُ عن البيت في سجع الكهان، والبيت في الأرجوزة، والبيت في القصيدة، والبيت في الموشح، والبيت في المسمط، والبيت في الأشكال الشعرية المستحدثة في العصر الحديث. إننا نفضل مصطلح البيت مادام الشعر خاضعا للوزن، لأن باقي المصطلحات مستمدة من حقول غير الشعر: فالسطر من النثر، والجملة من علم اللغة، والدورة، أو الموجة، من حقل آخر. أما "الشطر" المستعمل من قبل نازك، فهو وحده المرتبط بحقل الشعر. ولكنه مع ذلك لا يصلح في القصيدة الحرة، لأن فيه معنى الجزء المأخوذ من البيت. ب- إن التعرف على البيت في القصيدة أمر سهل؛ لأن له شكلا خطيا واضحا، وشكلا صوتيا يسهل على الأذن، حتى وإن كانت غير مدربة، التعرفُ عليه؛ لأن هذا البيت، إلى جانب بنيته الزمانية، يشتمل على علامات أخرى، أبرزها القافية، والوقفة في العروضة. لكن البيت في القصيدة الحرة، صار التعرف عليه أمرا محفوفا بصعوبات، لعدة أسباب أبرزها: - أن الشاعر صار يوزع أبياته على عدة أسطر توزيعا غير خاضع للوزن، - تخلي الشاعر في كثير من الأحيان عن القافية بجميع أشكالها. وقد حاول الأستاذ مصطفى حركات حل هذه الصعوبة بالتمييز بين البيت الخطي، والبيت الصوتي. يقول: »إن هناك نوعين من الأبيات. البيت المكتوب والبيت المنطوق. وهاتان الوحدتان مندمجتان في الشعر العمودي. ولكنهما منفصلتان في الشعر الحر. وانفصالهما أدى إلى فقدان جزء من هويتهما. فتسبب ذلك في صعوبة تعريفهما.. وكل الضعف في الأبحاث الخاصة بأوازن الشعر الحر ناتجة في رأينا عن هذه الصعوبة في تحديد البيت«(16). وملاحظة الباحث الأخيرة صحيحة. فهذه نازك الملائكة التي لم يكن البيت واضحا في ذهنها، نراها، وهي تتحدث عن رفضها جمع الشاعر بين تشكيلتين في النص الواحد، تقدم نموذجا من شعر خليل حاوي على الرجز، وهو التالي: دَارِي الَّتِي أَبْحَرْتِ غَرَّبْتِ مَعِي (مستعلن) وَكُنْتِ خَيْرَ دَارْ (فعولْ) فِي دَوْخَةِ الْبِحَارْ (فعولْ) (17) فِي غُرْبَتِي وَغُرْفَتِي (متفعلن) يَنْمُو عَلَى عَتْبَتِهَا الْغُبَارْ (فعولْ) (18) فهذا النص تعتبره نازك مؤلفا من خمسة أبيات على النظام القافوي التالي: أ ب ب ج ب. وواضح من هذا أن بهذا النص بيتين جاءا مرسلين علما أن جيل الرواد بالمشرق، وخاصة خليل حاوي، حافظ على القافية. ففي ديوان خليل حاوي، لا نجد إلا أبياتا قليلة لا يتعدى عددها عدد أصابع اليد الواحدة، جاءت مرسلة. والحق أن هذا النص مكون من ثلاثة أبيات على النظام القافوي التالي: أ أ أ، وبأضرب موحدة الشكل (فعولْ)، وخليل حاوي، كجل الرواد، يحترم وحدة الضرب في قصائده الحرة. لقد عدت نازك أبيات هذا الشاعر خارجة عن الذوق العربي، لكونها جمعت بين ضربين هما: مستفعلن وفعولْ. ومرد هذه الملاحظة أن الباحثة لم يكن مفهوم البيت واضحا في ذهنها. ويقدم الأستاذ علي يونس لصلاح عبدالصبور: يَا رَبَّنَا الْعَظِيمَ يَا مُعَذِّبِي ضربه: متفعلن يَا نَاسِجَ الأَحْلاَمِ فِي الْعُيُونْ ضربه: فعولْ يَا زَارِعَ الْيَقِينِ وَالظُنُونْ ضربه: فعولْ اِخْتَرْتَ لِي لَشَدَّ مَا أَوْجَعْتَنِي ضربه: مستفعلن أَلَمْ أُخَلِّصْ بَعْدُ أَمْ تُرَى نَسِيَتنِي ضربه: فعو اَلْوَيْلُ لِي نَسِيتَنِي ضربه: متفعلن نَسِيتَنِي ضربه: متفعلن نسيتَنِي ضربه: متفعلن(19) والملاحظ أن السطر الرابع مكتوب في الطبعة الرابعة من الديوان الصادر عن دار العودة سنة 1989، وفي مجموعة "أحلام الفارس القديم" الصادرة عن دار الآداب في طبعتها الثانية في يناير 1969 على الشكل التالي: اِخْتَرْتَ لِي لَشَدَّ مَا أَوْجَعْتَنِي والسطر الخامس مكتوب في الديوان نفسه على الشكل التالي: أَلَمْ أُخَلِّصْ بَعْدُ أَم تُرَى نَسِيتَنِي فلماذا جمع بين السطرين، وجعلهما بيتا/ سطرا واحدا؟ ولماذا لم يقم بالعمل نفسه مع السطر الأول والثاني؟ كل هذا يدل على أن الباحث لم ينجح في تحديد البيت في القصيدة الحرة. ويقول الدكتور كمال خير بك، وهو يتحدث عن يوسف الخال: »إن عملية النظم تبدو أكثر مرونة في قصائد الشاعر المكتوبة في أبيات مرسلة (...) ما يشهد عليه هذا المقطع: (20) وَأَدَرْنَا وُجُوهَنَا.. كَانَتِ الشمَّسُ غبُاَراً عَلَى السَّنَابِكِ، وَالأُفْقُ شِرَاعا مُحَطَّماً، كَانَ تَمُّوزُ جِرَاحاً عَلَى الْعُيُونِ وَعِيسَى سُورَةً فِي الْكتَابِ وَاهاً لِدُنْيَا مِنْ بَخُورٍ، مِنْ خَمْرَةٍ، مِنْ رُخَامٍ تَخْتَفِي تَخْتَفِي عَلَى وَهْجِِ دُنْيَا مِنْ نَخِيلٍ بُرُوقُهَا وَهِجِيرٍ وَحُرُوفٍ مَحْفُورَةٍ فِي السَّمَاءِ(21). لقد عد الباحث هذه الأسطر أبياتا تُكَوِّن مقطعا. والحق أنها كلُّها بيت واحد من بحر الخفيف. ومصدر "الخطإ" أن الباحث لم يُوفق في تقديم مفهوم واضح للبيت في القصيدة الحرة. فما البيت الخطي؟. وما البيت الصوتي؟ سنقتصر أولا على تقديم ما اقترحه في هذا الأستاذ مصطفى حركات. يقول عن البيت الخطي بأنه "وحدة تخضع لعدد من القواعد رعاها الشعراء"(22) دون أ، يبوحوا بها أو يَهتم بها المنظرون: أ. البيت الخطي ذو شطر واحد، ب. البيت الخطي يبتدئ ببداية كلمة، وينتهي بنهاية كلمة، ج. كل علة ممنوعة خارج نطاق نهاية البيت، د. كل وقف ممنوع خارج نطاق نهاية البيت، ه. عدد التفاعيل في البيت ليست له دلالة Pertinence؛ أي: يمكن أن يكون في البيت تفعيلة أو اثنتان أو مائة، و. لا ينتهي البيت حتما بنهاية تفعيلة. ولا يبتدئ حتما ببدايتها، ز. إذا انتهى البيت بجزء من تفعيلة فإن البيت الذي يتلوه يبتدئ بما تبقى من التفعيلة، (...) وتصنيف الأبيات الخطية إلى أصناف متعددة، - فهناك ما ينتهي بنهاية تفعيلة دون أن يحمل علامة خاصة، - وهناك ما ينتهي بنهاية تفعيلة وعلامة خاصة: قافية، وقف، علة، - وهناك ما ينتهي بجزء من تفعيلة، ويسمى بالمدور، - وكل بيت انتهى بنهاية تفعيلة يسمى صحيح النهاية. وكل بيت ابتدئ ببداية تفعيلة يسمى صحيح البداية(23). كل هذه الأوصاف التي قدمها الباحث تجعلنا نقول إن البيت الخطي عند حركات هو تقريبا نفسه السطر الشعري عند عزالدين إسماعيل. والفرق بينهما أن السطر عند من ينادي به هو وحدة صوتية. أما البيت الخطي فهو مثلا حين ينتهي بجزء من تفعيلة تمتد إلى البيت المجاوز لا يعد وحدة صوتية، وإنما هو مستوى من امستويات العروض(24). أما البيت الصوتي، فهو كل وحدة تنتهي بإحدى العلامات: أ. علة التفعيلة الأخيرة ب. القافية. ج. الوقف(...) قاعدة: يشترط في البيت الصوتي أن ينتهي بنهاية كلمة ونهاية تفعيلة. وهذه القاعدة تمكننا من تعريف البيت الصوتي تعريفا ضيقا(25). والتعريف الضيق للبيت الصوتي هو كل وحدة تنتهي بنهاية كلمة، ونهاية تفعيلة. مثال: قَدْ قُلْتُمُ الظَّلاَمَ فَاسْتَحْلَنَ لَيْلاً كَالِحاً وَقُلْتُمُ السِّجْنَ فَصِرْنَ أَجْنِحَهْ مُكَسَّرَهْ وَقُلْتُمُ الطَّاعَةَ فَاسْتَحْلَنَ صَمْتاً وَسكُونْ (...) فبالمعنى الواسع، تجزأ هذه الفقرة إلى أبيات ثلاثة: - قَدْ قُلْتُمُ الظَّلاَمَ فَاسْتَحْلَنَ لَيْلاً كَالِحاً وَقُلْتُمُ السِّجْنَ فَصِرْنَ أَجْنِحَهْ. - مُكَسَّرَهْ - وَقُلْتُمُ الطَّاعَةَ فَاسْتَحْلَنَ صَمْتاً وَسُكُونْ. تنتهي كلها بالوقف. أما بالمغنى الضيق، فإن الفقرة تجزأ إلى أربعة أبيات: - قَدْ قُلْتُمُ الظَّلاَمَ فَاسْتَحْلَنَ لَيْلاً كَالِحَا - وَقُلْتُمُ السِّجْنَ فَصِرْنَ أَجْنِحَهْ - مُكَسَّرَهْ - وَقُلْتُمُ الطَّاعَةَ فَاسْتَحْلَنَ صَمْتاً وَسُكُونْ تنتهي بنهاية كلمة ونهاية تفعيلة«(26). الحق أن الفقرة الشعرية المستشهد بها تشتمل على أربعة أبيات سواء بالمعنى الواسع أو بالمعنى الضيق. والباحث جعلها تارة أربعة أبيات، وتارة أخرى ثلاثة. والسبب أنه يطبق، على قافية القصيدة الحرة، قواعد علم القافية في تراثنا. وكان ينبغي أن نعلم أن هذه القصيدة الحرة التي حطمت بنية البيت، كما قدمه تراثنا الشعري، لابد أن تحطم كذلك كثيرا من قوانين القافية ف "كالحة" أرادها الشاعر في الفقرة السابقة قافية تتجاوب مع كلمة "أجنحة". ومثل هذا كثير في الشعر المعاصر. يقول أحمد المجاطي: سَحَائِبٌ مِنْ نَشْوَةِ الْغُبَارِ فِي السَّاحَهْ تَصْفَعُ وَجْهَ الْغَيْمِ أَوْ تَصُوغُ أَشْبَاحَا مِنْ خَبَبٍ بَطِيءْ وَالْخَيْلُ تَعْلُكُ الْمَدَى تَدُكُّ أَلْوَاحَهْ(27) فقد جعل: الساحة، أشباحا، الواحه كلمات ذات روي واحد. ويقول عبدالمعطي حجازي: -أَخْتَارُ وَجْهَهَا الْبَرِيءَ هَلْ يَشِي بِخَوْفِهَا؟ أَمْ يَا تُرَى يَنْطِقُ بِاعْتِرَافِهَا(28) -كُنْتُ أَمْشِي وَرَاءَ دَمِي فَأَرَى مُدُناً تَتَلأْلأُ مِثْلَ الْبَرَاعِمِ(29) فالشاعر يجمع بين القافية المؤسسة وغير المؤسسة. على أن هذه الظاهرة تعرف انتشارا كبيرا في الشعر العربي الحديث الذي أنجزه شعراء الحركة الوطنية بالمغرب. ونحن نرى أن المغربي، بعمله هذا، يكون منسجما مع ظاهرة أخرى تعم شعره وهي اختلاس الحركات. وبهذا، فالقافية المؤسسة عنده، حين تأتي في سياق القوافي غير المؤسسة، ينطقها نطقا عاميا، فلا يظهر صوت الفتحة الطويلة. ونظن أن هذه الملاحظة لم تكن حاضرة في ذهن الباحث وهو يقدم مثاله السابق. ونفضل ألا نتحدث عن البيت الخطي، والبيت الصوتي. لأن هذا التقسيم لا يحل المشكل. لهذا، نفضل أن نتحدث عن البيت باعتباره كتلة إيقاعية تلتقطها الأذن قبل العين. مراجع (1) الشعر العربي المعاصر. د. عز الدين إسماعيل. ص: 82. (2) ن.م. ص: 83. (3) ن.م. ص: 79. (4) الجملة في الشعر العربي. د. محمد حماسة عبداللطيف. مكتبة الخانجي. القاهرة. ط1: 1410/1990. ص :161. (5) ن.م. ص: 160. (6) الشعر العربي المعاصر. ص: 108. (7) الشعر العربي المعاصر. ص: 110. (8) ن.م. ص: 111. وانظر شناشيل ابنة الجلبي. ص: 40. (9) الشعر العربي المعاصر. ص: 111. (10) لغة الشعر العربي. ص: 205 وما بعدها. (11) البنية الإيقاعية الجديدة للشعر العربي. أحمد المعداوي. مجلة الوحدة. ع82/83. ص: 72. (12) الجملة في الشعر العربي. ص: 165. (13) ن.م. ص: 166. (14) ن.م. ص: 162. (15) Dictionnaire de poétique et de rhétorique. P. 43, 49, 51, 55. (16) كتاب العروض. حركات. ص: 14 وما بعدها. (17) قضايا الشعر المعاصر. نازك. ص: 77. (18) ن.م. ص: 78. (19) النقد الأدبي وقضايا الشكل. علي يونس. ص: 44. (20) حركة الحداثة ،ص :279 (21) حركة الحداثة. ص: 279. والنص من ديوانه. ص: 227. (22) كتاب العروض. حركات. ص: 100. (23) ن.م. ص: 101. (24) قواعد الشعر لحركات. ص: 167. (25) كتاب العروض لحركات. ص: 98. (26) ن.م .ص: 94. (27) الفروسية. المجاطي. منشورات المجلس القومي للثقافة العربية. ط1: 1987. ص: 25. (28) لم يبق إلا الاعتراف. حجازي. دار العرودة. ط: 1973. ص: 19. (29) مرثية العمر الجميلز حجازي. دار العودة. بيروت. ط: 1973. ص: 91. (1) الشعر العربي المعاصر. د. عز الدين إسماعيل. ص: 82. (2) ن.م. ص: 83. (3) ن.م. ص: 79. (4) الجملة في الشعر العربي. د. محمد حماسة عبداللطيف. مكتبة الخانجي. القاهرة. ط1: 1410/1990. ص :161. (5) ن.م. ص: 160. (6) الشعر العربي المعاصر. ص: 108. (7) الشعر العربي المعاصر. ص: 110. (8) ن.م. ص: 111. وانظر شناشيل ابنة الجلبي. ص: 40. (9) الشعر العربي المعاصر. ص: 111. (10) لغة الشعر العربي. ص: 205 وما بعدها. (11) البنية الإيقاعية الجديدة للشعر العربي. أحمد المعداوي. مجلة الوحدة. ع82/83. ص: 72. (12) الجملة في الشعر العربي. ص: 165. (13) ن.م. ص: 166. (14) ن.م. ص: 162. (15) Dictionnaire de poétique et de rhétorique. P. 43, 49, 51, 55. (16) كتاب العروض. حركات. ص: 14 وما بعدها. (17) قضايا الشعر المعاصر. نازك. ص: 77. (18) ن.م. ص: 78. (19) النقد الأدبي وقضايا الشكل. علي يونس. ص: 44. (20) حركة الحداثة ،ص :279 (21) حركة الحداثة. ص: 279. والنص من ديوانه. ص: 227. (22) كتاب العروض. حركات. ص: 100. (23) ن.م. ص: 101. (24) قواعد الشعر لحركات. ص: 167. (25) كتاب العروض لحركات. ص: 98. (26) ن.م .ص: 94. (27) الفروسية. المجاطي. منشورات المجلس القومي للثقافة العربية. ط1: 1987. ص: 25. (28) لم يبق إلا الاعتراف. حجازي. دار العرودة. ط: 1973. ص: 19. (29) مرثية العمر الجميلز حجازي. دار العودة. بيروت. ط: 1973. ص: 91.