للعشب الطري القادم من بين أناملك، لحكاياتك المتألقة ، الساكنة فيما بعد «الطفولة الستون»، اشتقت كما يشتاق مريد لشيخ مبجل في مملكة الكلمة، اشتقت فتدثرت وعدت أسألك: ماذا فعلت يا سيدي يأيها الطفل بعد الستين؟.. وقبل الستين؟ ماذا كتبت من أرواح، وسكبت من أمداح لروحك في ألواح التاريخ.. وعجبت حين تَصدر بداية الكتاب، قول يبشر برغبتك الآسرة في ملك لجام الكلمة، حين قلت:» سأغيب عن الحياة، دون أن أقول كلمتي ذلك أشد ما يؤلمني في حياتي»( 1) وعجبت أكثر حين مددتُ يدي وجندت روحي للقطف من دنانك، وسألت عن بعض ثمارك، وكان الجواب دائما وكما المعتاد، زهر مقطر أصيل من كل حي في أحياء البلاغة والمجاز ،في الشعر والنثر وكل ما تجود به جنان الكلمة الصادقة من وهج وألق، ونفيس حكمةٍ، وثريات فكر .. وعلمت أن شباكك تُغمسها في بحر المستحيل لتنعم كل صباح بغنيمتك من جواهر قيعان البحر، فصدقتك حين قلت:» ألقي شبكتي صبيحة كل يوم في بحر مدادي الأشهل، منتظرا صيدي من مستحيلات الأعماق التي لا ترى، ولا تمس، بل من بعيد تحس «...(2) غَنِمتْ شباكُك من ثمار ومحار وجواهر البحر ومائها وعشبها فقرأتها سيدي ،تاريخا سطَّرتَ رقاياه من صدى مدينتك تطوان أوتطاون، رقايا زمَّلتَ بعضا من جداولها زمنَ برتوشي وهو «يجول في المدينة باحثا عن مظاهرها، ومعالمها ومآثرها العتيقة هنا وهناك» (3) لم يكن برتوشي تاريخذاك مباليا ، لم يكن يعلم أن الطفل الواقف أمامه في ساحة» الوسعة» رسام ماهر، فرشاته تسع الكون وأصباغه مقطرة من أشهى كروم المعارف والمدارك .. وأنه تجند منذ الصغر منذ طفولة ما قبل الستين لأن يكون شاعرا تستغلق أشعاره أمام غير العارفين بسلطة الكلام ومدائن الشعر البهيجة.. عدتُ مرة أخرى وفتحت الكتاب «الطفولة الستون» وأنا أتابع خطو طفل يشذبُ شجرات العمر ، ويحاول رسم الملامح والأصوات والصور المنبعثة من الأزقة والدروب ، من عطر النساء المحتشمات ، رأيته يتبع «خطوات «الحاجة مزواقة» نحو زنقة «القايبد أحمد» من حومة»الطرانكاتّ الممتدة في «الربض الأعلى» من المدينة(4) رايته طفلا مميزا في مدرسته وهو مازال يتعلم أبجديات الكتابة .. رايته بصحبة صديقه عبد اللطيف الخطيب وهو في «مالقا» يجوب مسارحها ويكتشف عبق الثقافة الإسبانية .. رايته يرفع راسه مليا وهو يراقب تمثال دون كيخوطي في شارع من شوارع مدريد.. رايته وهو قابع في مقهى قرب «جامعة برشلونة» بمعية الدكتورة ليونور وهما يترجمان أو يضعان برنامجا يوميا لترجمة قصائد لشعراء عرب إلى اللغة القشتالية كجبران خليل جبران وإليا أبو ماضي، وشفيق معلوف وخليل مطران، ومحمد المهدي الجواهري، وغيرهم رايته وهو مبتهج برسائل ميخائيل نعيمة وما تعبر عنه من عواطف وتقدير، واستنهاض للهمم.. هكذا جلتُ في في طفولة محمد الصباغ الستون ولي في كل جولة فيء ظليل ، وفي كل فيء شلال من المعرفة والتاريخ ،كتاب يجمع بين إيقاع السير ، ولذة الإبداع، وتوثيق التأريخ، ولغة النقد . كتاب تتقاطع فيه بصمات مدينته تطاون، بصمات المغرب والأندلس ، المغرب والمشرق .. ورأيته في أعماله الكاملة يتحدث عن جغرافية بلاده ، جغرافية تتحد خطوط الطول والعرض فيها من عبق الجنان وشقائق النعمان، ومساحات تحدها الغدران ، ومناخ « مشبع بنسمات النخيل، والدوالي، ولهاث الغزلان، والأرز وفواكه الثلج،(5) جغرافة محب صادق لمغربه، مترنم بعشقه لهذا الوطن.. ورأيت محمد الصباغ وهو يحاول بمعية غيورين ومحبين تأسيس منابر لصحافة الثقافة ، إيمانا منه بأهميتها ودروها في الإشعاع والتحسيس والتعريف بالثقافة المغربية ، والمغرب آنذاك يضمد جراحه .. ويحبو حبوا تعيقه عوائق كثيرة ..فرعى مجلة «كتامة»، و ساهم بالرأي والتحرير والكتابة في « الثقافة العربية»، و»الباحث» و»المعتمد» رايته ..ورأيت معه عبيرَه الملتهب، عبير ليس كالعبير،يلهب حرارة الكلمة الرومانسية في بدايات الخمسينيات ويؤسس لكتابة حداثية تطفو معها ومن خلالها نسمات الروح ،شعر يجعل للمغرب صداه وحضوره المتألق بجانب المشرق، وأسمائه التي يهتز لها عرش الإبداع .. هكذا امتطى محمد الصباغ مركبا نورانيا وكان ربانا يبحر و بوصلته عشقُه للحياة وزيته دفق من دمه ، ومجادفه حبه لوطنه ووولهه بحقيقة الإنسان.. وتوالت عناقيد الإبداع إلى أن سحَر محمد الصباغ الكلمة، وسحرته بلا استيحاء، أو ممناعة فاقتحما معا» اللجة، واللوعة، والشبح، والموقف، والعصِيَّ، والمحرم، والمذهل، والسُّعالى ، وكل ما هو أضغاث، وهمزات ورعب، وجلل»(6) رأيتك سيدي والرؤية كشف حجاب، وقرب دون الأبواب ،رأيتك منذ طفولتي حين قرأت بعض همساتك التي زرعت فيَ بعضا من قلق السكينة، وكثيرا من سكينة الجذب بعد عناء البسط .. رايتك سيدي تمسح الكتب، تقرا العناوين واحدا واحدا، وتشكو: أنتِ لي أيتها الكلمات في معبدي ، من لك بعدي ؟! ونسيتَ سيدي أن رائحة الكتب وعبق الصمغ يلف السؤال ، يحمله طيف التاريخ فلا تقلق سيدي، ولاتعاود كرة السؤال،لأننا نحب أن نراك وأنت تبارك الكلمات، وتبارك جنودها في الخفاء والعلن.. -------------------------- 1- الأعمال الكاملة. ج1 2- الأعمال الكاملة ج3 ص21. 3- الطفولة الستون، ج1 ص187 4- الطفولة الستون ج1 ص10 5- الأعمال الكاملة ج1 ص28 6- الأعمال الكاملة ج2 ص30