لاأجد عبارة تؤشّر في رأيي على التجربة الشعرية الباذخة لبنطلحة وتجلو سرها وكيمياء لغتها أو «فيزياء عبارتها» حسب تعبير الشاعر مثل عبارة (فحولة حداثية). ذلك أن في شعر بنطلحة تراجيع وأصداء من شعر فحول الشعراء، وصِلات قُرْبى حميمة تربطه بهؤلاء الفحول، جزالة لغة ونصوع عبارة وقدرة فائقة على العزف الشعري وتنويع هذا العزف بما يأسر الأذن ويأسرالوجدان، إنه سليل ووريث عروة بن الورد وطرفة بن العبد والكميت والبحتري... وشعر بنطلحة إلى ذلك، معمد بماء الحداثة ومسكون بأشواقها، يَجْتذبه الطارف والجديد ويرهف السمع جيدا لإيقاع الوقت ونبضه، إنه سليل ووريث لوركا ورامبو وبودلير واندريه بريتون ونيرودا... وشعره لذلك، واقع في صميم الفحولة الحداثية صاهرا في بوتقة واحدة بين عتاقة الفحولة وعنفوانها، وجدة الحداثة وحريتها، محلِّقاً بجناح المبدع بين الأقصى التراثي والأقصى الحداثي. وكحُسن استهلال واسْتدلال لهذه المداخلة نقرأ المقطع التالي من مطولة (برج البطريق) من ديوانه الثاني (غيمة أو حجر) الصادر سنة 1990. [وصحنا على الذّئب فاضطربت مومياء مجهزة للزفاف، وألقت بما في يديها على الأرض: ريشَ الطواويس. واتّقت البرد بالبُرْنس المغربي. أحقاً بكى هانيبال على سور قرطاج إثر رجوع الرُّماة بصحبة أعدائهم؟ إننا لم نصدق، فأُبْنا إلى بار Gildla - Salut يامدام - «Salut أعطهم مايحبون يا «عبد» - أستاذ ماذا تحبون؟ - صهباء من عهد نوح، لها في اللسان مذاق شماريخ نجد، وتوحي بشعر صريع الغواني - على السمع أستاذ قلنا: ستقتص من خيلنا نجمة الغرب](1) أليست عبارة (الفحولة الحداثية) هي الأوْفى بالقصد والدلالة في مثل هذا المقام الشعري؟ بلى! فهاهنا لغةَ فحْلة، مُلْتحمة بلغة حداثية طلقة. وهاهنا ذاكرة مرجعية تراثية مُنْفتحة على الهُنَا والآن. وهاهنا أيضا يلْتحم الشعر بالسرد وبالحوار. كل ذلك مَصُوغ ومرسوم بلغة مشكولة شكلاً عربياً أميناً، وموقّعة إيقاعاً عذباً من خلال تفعيلتي (المتقارب فعولن) و(المتدارك فاعلن). ينتمي محمد بنطلحة شعرياً إلى جيل السبعينيات الباسل من القرن الفارط، ويعد أحد أبرز وأجود الرموز الشعرية لهذا الجيل، إلى جانب نظرائه ورُصفائه من أمثال/بنيس وراجع وبلبدوي وحميش وأخريف والحجام والشيخي وبنميمون والملياني وأحمد الطريبق وأية وارهام... تمثيلا لاحصرا. وقد واكبتُ وقَفَوْتُ تجربته منذ بدايتها إلى الآن، وكنت من السابقين إلى الكتابة عن هذه التجربة والاحتفاء بها والرهان عليها، على نحو ما هو مسطور في كتابي الأول (درجة الوعي في الكتابة). وكان أول ما لفتني في هذه التجربة عند انطلاقها أوائل السبعينيات، هي هذه الفحولة الشعرية في الشكل كما في المضمون، والتي ظلت لصيقة به كالوشم، مهما أوغل بعدئذ في مسالك الحداثة وشعابها. وعن فترة السبعينيات التي توهّْج في ضِرامها شعر بنطلحة وانْصَقلت عبارته وقافيته، أوّد أن نتأنّى قليلا لنستعيد بعضاً من وهج هذه الفترة، من خلال وهج الشعر الذي أبدعه الشاعر في هذه الفترة، وهو الشعر الذي يتضمن بعضَ أو جلَّ نصوصه، ديوانُه الأول (نشيد البجع)، الصادر سنة 1989. وعند الحديث عن التجربة الشعرية لبنطلحة، ليس أجمل وأبلغ من الإنصات إلى شعره فهو الناطق بلسان الحال، والدال على جمالية المقال. وسأفْتلذ في هذا المقام، شواهد من هذا الشعر، قبل أن نقْفو مسار هذا الشعر. - نقرأ من قصيدة (مواويل العزاء) هذا المقطع الأخير، عن سنوات الجمر والرصاص. [أشْلي نار الصَّبابات الدفينة بلِّغي عني الهوى (....)لاتلومي جسدي الملقى على أرض المطارات فإني يهرب العالم مني أسمع الآن صدى صوت بلادي صوتها مُر، فيا ويحي! أنار في دموعي؟ أم رصاص في حوانيت المدينة!(2) لايمكن للأذن المتلقية، إلا أن تغْتبط وتطرب لهذا النغم الشعري السبعيني الفاتن الساخن. ومن قصيدة (ديوان الحال)، نقرأ المقطع المدوّر التالي، الذي يستفيض فيه المشاعر وفق آلية التدوير، دلاليا وإيقاعيا. [أفي الوجه جرح؟ وفي القلب جرح؟ وفي الصدر جرح؟ وفي الرئتين شوارع تفتحها الريح والنار؟ قلبي على مدن الطين والزنك والأبجدية! إن القناديل لاتقتفي راية الغرباء، وها هو جيشُ الخليفة يكسر باب المحطة بين المحطة والقصر سيف وفخ. مراراً تحطُّ الطيور على كتفي غصن ليمونة وسنابل أو راية وقنابل، لا وقت للخوف يا أيها الزمن المغربي سلاماً ويا نهر أم الربيع لماذا تباطأت حتى تحول مجرى المصب؟](3) هذا شعر بنطلحةً يسْتعيدنا إلى سنوات السبعين الفارطة. وآهٍ من سنوات السبعين، وآهٍ عليها. ولا نريد أن نغادر فترة السبعينيات. دون أن نقرأ هذا المقطع من قصيدة (ديوان الشهادة) المهداة إلى عمر بن جلون. -[شققت غُبارهم. وأشرت بالسّبابة اليسرى: (يعيش الشعب). ها إن الصدى شيئا فشيئا يثقب الآجر، والورق المقوى آه! وجدة دمعة في الخد تحرق والدم الشعبي قنديل يضيء نوافذ الرؤيا وينطق قاب قوس أو أقل من الشهادة (يسقط العملاء يسقط حاملو الكرباج يسقط من رشَّ السمّ فوق موائد الفقراء يسقط...](4) كانت تلك أصداء وتراجيع من فترة السبعينيات التي طَلَع من نارها بنطلحة، ضوءاً شعرياً وهاجاً وفاتناً. وبعد السبعينيات، يسْكُن وطيس النّضال والنّزال، وتسكن معه جذوة الأمل والحلم تضع السبيعنيات أوْزارها، وينْحسر المدّ أو بالأحرى ستنحسر مدود. المَد الوطني الثوري، والمد القومي العربي، والمد الأُممي الاشتراكي، ويَرْتدُّ الطرف خاسئا وهو حسير. بعد السبعينيات يقع تحول في المسار الشعري لبنطلحة كما وقع لكثير من رُصَفائه. تحول من جمر الالتزام، إلى التفرس والتأمل في الذات والأشياء، تحول من القصيدة الملحمية الطويلة، إلى القصيدة الغنائية القصيرة، وأحيانا إلى القصيدة الشذرية، أو القصيدة الومضة. كما في المثالين التاليين: المثال الأول: من ديوان (سدوم) [رأفة بالمدائح جن الرماد] (5) المثال الثاني (اللازمة) من ديوان (بعكس الماء). [هذه الراقصة الحُبْلى من أي جنس هي] (6) .. كما وقع على مستوى الرؤية الشعرية والهاجس الشعري، تحول من ذروة الواقعية الشعرية والثورية الشعرية إلى ما يشبه السريالية أو الدادائية وهما الصفتان اللتان أجدهما معبرتين في رأيي، عن المنْحى الحداثي الجديد الذي نَحَتْه التجربة الشعرية لبنطلحة. لنقرأ على سبيل المثال، النموذجين التاليين: النموذج الأول (بيت التخلص) من ديوان (غيمة أو حجر). [أَيّهذا العَجَاج المعتق! نحن كشَطنا المرايا ونحن اقْتَرحنا الروي وبيت التخلص لكننا لم نكن غير سمَّار هذا الهواء المعلق من قدميه على سلمين وحبل غسيل كأن لم يكن في لَحاء القصائد غير الصَّراصير أو غير جمر برد] (7) النموذج الثاني (قيلولة الخرتيت) من ديوان (سُدوم): [أو كلما جفلت خيول الحدس بين يديك واتَّسخت قلنسوة المحاذير العديدة قلت لي: في حجرة الجد العتيدة قلت لي: في حجرة الجد العتيدة مجمر ومخذتان أثيرتان وناب فيل داجن؟ أو قلت: ما أبهى سناد الردف! واستشهدت بالخبيز والقرقوس والوعد، المقدد في فناء المنطق الصوري] (8) تلك بعضُ ملامح وأمائر العالم الشعري الجديد الذي يفْترعه بنطلحة بكثير من الجرأة والشغب الجميل، وذلك ما يتجلى بوجه عام في الدواوين الثلاثة التي تلت ديوانه الأول (نشيد البجع)، وهي: غيمة أو حجر سدوم بعكس الماء وهي الدواوين التي جمع الشاعر شَمْلها إضافة إلى الديوان الأول، في سِفْر شعري بعنوان (ليتني أعمى). ويلي هنا السفر ديوانه الأخير لا الآخر (قليلا أكثر). وقع إذن تحول من الملحمي إلى الذاتي والجزئي ، من التراجيدي إلى الكوميدي والساتيري، من الرؤية الشعرية البانورامية التي تستوعب (الوطن) إلى الرؤية الشعرية الميكروسكوبية التي تتلصص على (قيلولة الخرتيت). وحسبنا أن نتصفح بعض عناوين القصائد اللاحقة لاستشفاق هذا التحول واستشفاف العالم الشعري الذي يجوبه الشاعر. وهذه نظرة على بعض هذه العناوين: من ديون (غيمة أو حجر): إذن منازل من ورق قهوة الفجر مجرد تمرين نزوة الجنون الأرض الوقت الجرح العري الغبار ابتسامة في أسفل السلم قفل أول ليس للنشر زرقة ماكرة. من ديوان (سدوم) وهو عبارة عن مطولات ممقطعة أو مشذرة: رؤوس أقلام فيزياء العبارة هيهات ضربة مقص سهو سري جدا رتوش عمود شعر لامناص ماء لا يغمى عليه بعبارة أخرى، أكثر مما ينبغي ما الفائدة؟ أيهذا القليل قصة قصيرة غرغرة يابسة. من ديوان (بعكس الماء) ليتني أعمى من يقول العكس وراء الماء كدت أنسى وجدتها يا فرحة الرماد هؤلاء همسة الدن كذبني إذن اللازمة الصدى في لقطة أخرى... الخ. وكأني بالشاعر محمد بنطلحة قد تحول من مبدع جيد لباذخات النصوص الشعرية إلى مبدع جيد «للفصوص الشعرية»، تحول إلى لاعب جيد للنرد الشعري. لكني شخصيا أجد هواي ميالا إلى باذخات نصوصه، وعتاق نصوصه. في شعر بنطلحة نجد شعرا ووصفا وسردا وحوارا، فالقصيدة عنده إذن محفل إبداعي ثري وبهي، يلْتحم فيه البعد الغنائي بالبعد الدرامي بالبعد الحواري، كما يلْتحم فيه التراجيدي بالكوميدي في «فيزياء» شعرية خاصة بالشاعر. ومهما يكن من أمر التحول الذي إنتحته التجربة الشعرية لبنطلحة، والشعر صنو التحول وضد الثبات. وأنى نقل الشاعر شعره وكلمه تظل تلك الفحولة الشعرية لصيقة به وملازمة له، وإن أوغلت وشطت في حداثتها وجدتها. يظل الشاعر فينيقا شعريا متجددا، لا يكف عن الاحتراق. إحالات: 1 محمد بنطلحة: غيمة أو حجر. ط، 1 1992 منشورات 1992 توبقال ص: 67 68 2 محمد بنطلحة: نشيد البجع، ط. 1. 1989 منشورات اتحاد كتاب المغرب ص: 18 19 3 نشيد البجع: ص: 37 4 نشيد البجع: ص : 91 92 5 محمد بنطلحة: سدوم. ط. 1 . 1992دار توبقال، ص: 72 6 محمد بنطلحة: ليتني أعمى. ط. 1 . 2002 فضاءات مستقبلية، ص: 290 7 غيمة أو حجر: ص: 19 8 سدوم: ص :9