ثانيا:طبيعة التحالفات: لقد شكلت التحالفات في التاريخ السياسي المغربي أهم مظهر لعدم الثبات والاستمرارية، وهذا الواقع استمر الى الفترة المعاصرة وهو ما أوضحه الكاتب الأمريكي جون واتربوري في منتصف الستينات من القرن الماضي ضمن كتابه «أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية» حيث لاحظ بأن السمة العامة للتحالفات مابين القوى الاجتماعية والسياسية والمخزن أي السلطة المركزية، هي التغير المستمر والتناقض الواضح وهو ما يكرس فعليا مقولة أنه في السياسة ليست هناك عداوات ولا صداقات دائمة بل فقط هناك مصالح دائمة،والمولى إسماعيل تمثل مضمون هذه المقولة جيدا هو الذي قضى جزءا من حكمه يطارد خصومه والقبائل الثائرة عليه بل دهب بعيدا في هذا التمثل حينما شكل جيشا من العبيد لا علاقة لهم بالمغرب ولا عصبية لهم على رأي ابن خلدون سوى الولاء المطلق للسلطان وقد بلغ عددهم فيما يذكر الناصري 150000 جنديا موزعين على جميع أرجاء المغرب. أول من عارض المولى اسماعيل هو ابن أخيه المولى العباس أحمد بن محرز ابن السلطان المولى الرشيد وقد استمرت هذه المعرضة لمدة اثنتي عشر سنة قضاها الطرفان في مواجهات دامية حول الحكم، وقد أنضاف لهذه المعارضة سنة 1678 ثلاثة من إخوة المولى إسماعيل هم المولى الحران،المولى هاشم والمولى أحمد بن الشريف بن علي مع ثلاثة آخرين من يني عمهم متحالفين مع قبائل ايت عطا من القبائل الأمازيغية، وقد كان العنف هو الجواب الوحيد لكل التمردات التي واجهها السلطان بل أكثر من ذلك لقد تعمد المولى إسماعيل التغيير القصري لبعض البنيات الاجتماعية ونقل بعض القبائل من مواقعها الأصلية الى مواقع أخرى وتوظيفها في الرهانات الجديدة ويسوق الناصري مثالا حيا عن هذا الواقع من خلال ما قام به المولى إسماعيل سنة 1679 حيث أمر بنقل عرب زرارة والشبانات من الحوز إلى وجدة لما كانوا عليه من الظلم والفساد في تلك البلاد فأنزلهم بوجدة ثغر المغرب، للتضييق على بني يزناسن إذ كانوا يومئذ منحرفين عن الدولة ومتمسكين بدعوة الترك، فكان زرارة والشبانات يغيرون عليهم ويمنعونهم من الحرث في سهل انكاد. تعد هذه الواقعة والتي تكررت مع ملوك اخرين ولازالت نتائجها بارزة الى الان من خلال تزاوج العنصرين الأمازيغي والعربي في البنية القبلية الواحدة نتيجة عمليات الترحيل القصري التي لجألها عدد من السلاطين من مختلف الدول التي حكمت المغرب، ويعبر هذا السلوك على نسبية العداء والتحالف مابين السلكان وبعض المجموعات القبلية، ويعبر أيضا هذا الواقع على قدرة السلطان المغربي على التلاعب برهانات خصومهم وقدرة هؤولاء من جهة أخرى على توظيف رهان السلطان عليهم لتحقيق مكاسب كان سيكون تحصيلها يمر وجوبا عبرمواجهة مباشرة مع جيش السلطان،هذا مايؤشر على برغماتية مغربية موغلة في التاريخ تتعامل مع التحالفات من منظور واقع ميزان القوة وليس من زاوية العاطفة فقط. ومن بين صور تقلب التحالفات والرهانات عند المولى اسماعيل أنه في فترة ولى أبنائه على الأقاليم والمناطق ليعود بعد ذلك الى عزلهم،كما عرف عهده مواجهات مع القبائل الأمازيغية التي اعترض بعضها على الدخول في طاعته وكان أشدها قبائل فازاز التي تضم ايت امالو وايت يفلمان وايت يسرى حيث جمع لمواجهتهم ما يملك من الجيش في سنة 1692 أي بعد عشرين سنة من وصوله الى الحكم في معركة قطع فيها جيش السلطان على ما يذكر الناصري في الاستقصاء اثني عشر ألف رأس من جنود قبائل فازاز، وبعد هذه المعركة الحاسمة أحكم المولى اسماعيل سيطرته المطلقة على المغرب الأقصى ومنع القبائل من امتلاك السلاح والخيل وهي وسائل القوة الممكنة في تلك المرحلة، وهو ما يشكل ملمحا من ملامح الدولة المركزية التي تبلورت في سياق النهضة الأوربية، حيث ارتكزت الدولة على احتكار وسائل العنف وتحصيل الضرائب من القبائل ،الأمر الذي جلب للمولى اسماعيل انتقادات كبيرة خاصة من الشيخ اليوسي الذي اعتبر حرمان القبائل من الخيل والسلاح تهديدا للثغور المغربية وتخليا على وظيفة الجهاد ضد النصارى، غير أن المولى اسماعيل واصل تنفيد قناعاته في تسيير الدولة والتي إذا قارناها مع ما وصل إليه الفكر السياسي في تلك الفترة وما تلاها، نجده يجسد بحق الدولة المركزية ذات الجيش الموحد الذي يدين بالولاء للقائد الأعلى ويتعالى على الانتماءات القبلية والعرقية، غير أن وفاة المولى اسماعيل سيخلق صراعات لا حد لها من أجل الاستفراد بالسلطة أو الحصول على جزء منها أو في الحد الأدنى تأمين المجال الزراعي ومصادر المياه، هذا نتيجة الطابع الشخصي الذي وسم به جيش البخاري الذي تمرد بعد وفاة قائده. إن ما يمكن أن نرصده من خلال هذه الوقائع هو العقلية البرغماتية للتحالفات القائمة والوعي بالرهانات المتبادلة، سواء كان هذا الوعي مدروسا أم كان نتيجة طبيعية لطبيعة التحالفات القائمة، كما أن تعامل المولى اسماعيل مع وجهات النظر المختلفة معه لا تتسم بالوحدة والتطابق بل على النقيض من ذلك فإن السلطان يحسن تطبيق لكل مقام مقال، هكذا لاحظنا ردة فعله العنيفة على الفقيه جسوس الذي اعترض على العبودية ورفض تزكيتها من منطلق ديني، وكيف تعامل بتسامح ولا مبالات مع دعوة الشيخ اليوسي الى تمكين القبائل من وسائل الدفاع عن الثغور والصرف الأمثل لأموال بيت المال، وإقامة العدل والإنصاف حيث عات العمال فسادا وظلما في عهد المولى إسماعيل. يبقى مؤلف العلامة الناصري في حاجة إلى قراءة متجددة للاستثمار الايجابي لما حفل به من فروع المعرفة، إذ إضافة إلى كونه كتاب للتأريخ، فإنه في ذات الوقت كتاب في الفكر السياسي والثقافة والأدب والأنتربولوجية وعلم الاجتماع والجغرافية وعلم الأنساب، لهذا فإننا نقر أننا لم نوفي الكتاب ما يستحق من دراسة على أن نقوم بذلك في مناسبات أخرى. النسخة المعتمدة: أحمد بن خالد الناصري:كتاب «الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى» منشورات وزارة الثقافة والاتصال.