وكانت الحادثة التي نقلتني من حالة «القاصر» إلى الرشد. كان ذلك وقد اتقدت عواطفنا حماسا للوطن. وبدأنا - نحن الثلة الصغيرة التي كنا نجتمع في خلية وطنية - نفكر كما يفكر الكبار نقترب من أساتذتنا في الوطنية فيخرج بنا الأستاذ عبد العزيز بن ادريس مثلا من خلية الدرس إلى خلية التكوين الوطني. ونحضر درس الأستاذ أبى الشتاء الجامعي فيكون درسا في الوطنية إلى جانب درس الأدب أو المنطق، ويعدنا بأن يصلنا بالأستاذ علال الفاسي، الزعيم الذي لم أكن أعرف وجهه حتى إذا مررنا - أنا وزميل لي في طريقنا إلى درس في القرويين - بجانبه أسر إلى أننا مررنا بعلال الفاسي في طريق متقاطعة. عدت أدراجي وأنا أتتبع إشارة الزميل لأتطلع إلى وجه الشاب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ولم يكن بعد زعيما ولا أستاذا كبيرا ولا يزال الذين يقرؤون الشعر والذي لا يقرؤون يرددون من شعره: أبعد مرور الخمس عشرة ألعب وألهو بلدات الحياة وأطرب ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلا إلى العيش الذي تتطلب سبقته بخطوات وعدت أدراجي ليبهرني الوجه الشاب الصبوح في جمال قسماته وبريق عينيه الزرقاوين وخطواته المتباعدة الثابتة وجدية ملامحه. لست أدري كيف وقر في ذهني أني سأكون تلميذا لهذا الأستاذ الكبير، وأنى حينما أعد نفسي بذلك سأكون من الصادقين. وكان وعد أستاذنا أبي الشتاء الجامعي صادقا. فقد كان والأستاذ عبد العزيز يخاطبانه في هذه الثلة من التلاميذ الذين يعدانهم ليكونوا تلاميذه. وحل رمضان، من هذه الرمضانات العديدة التي مرت به فكان لقاؤنا مع علال في درس بين العصر والمغرب حول كتاب «الأخلاق والواجبات» للشيخ عبد القادر المغربي. كان الكتاب على عادة علال في دروسه مؤشرا للموضوعات السياسية والوطنية التي يطرقها في دروسه. أخذنا بمنطق الرجل الذي كنا نتحلق حوله فيتحدث في كل شيء يتعلق بالأخلاق والواجبات. الضريبة التي يجب أن يدفعها العزاب الذين بلغوا سن الزواج رغبة في تكثير النسل حتى لا يفكر المستوطنون في يوم ما أن يكونوا أكثرية هي أيضا أخلاق وهي من الواجبات وبدأ الذين يؤخذون بعلمه وفصاحته وحديثه الذي كان يتدفق كأنه خطاب جماهيري يتحلقون حولنا ولو لم يكونوا تلاميذ ولا هم في سن التلاميذ أو الطلبة. أخذنا بالمجاهده في الدرس والقراءة. وعلمنا كيف نكتب يختار موضوعا مما أشار إليه في درسه ليطلب إلينا أن نعالجه كتابة. وتجرأ بعضنا فكتبوا شعرا قدموه إليه ليوجههم فيه. بسرعة انتقلنا من الزاوية الفاسية إلى القرويين اقتصر الدرس الأول على طلبته. وكان الدرس الثاني لجماهير الوافدين. لا ندري كيف؟ توالت الدروس التي أصبحت حديث المجالس. ولكنها أصبحت أكثر من ذلك حديث الادارة الفرنسية التي رأت فيها مظاهرة وطنية يتحلق فيها المئات حول الرجل الذي يخطب كل يوم في السياسة وهو يلقي درسا في التاريخ. صارع علال من خلال درسه اليومي ذاك فأصبحت الجماهير تهتف باسمه صامتة. تروي ما به تحدث دون أن تعرف الادارة أن الفكر الوطني التمردي الثوري يخرج مرة أخرى من درس القرويين. ومرت الأيام، نفى علال من أجل درسه ذاك وعاد بعد ستة أشهر ليقعد مقعده من الآلاف بدلا عن المئات. وعزمت الادارة على مقاومته مرة أخرى فرصدت له عيونا تسجل كل ما قاله، حتى إذا ما تجاوز حقه في الحديث بالإسلام كانت التهمة وكانت المحاكمة. ولم يسجل الشهود (العدول) فيما يقول خروجا عن الدين ولا تمردا على الإسلام. واتجهت الادارة الفرنسية بعد ذلك إلى منطق السياسة بعد أن أعيتها الحيلة في الوصول إليه عن (طريق الإسلام). وكانت المناسبة التجمع الوطني الجماهيري «كتلة العمل الوطني» الذي قررت تنظيمه في الدارالبيضاء للتوعية بمطالب الشعب المغربي. فمنع الاجتماع واعتقل علال وصحبه. هكذا كانت الثلة من طلبته على موعد للتضامن معه وسارت المجموعة على رأس المظاهرة الوطنية. وكان مصيرنا جميعا السجن. كان السجن مفتاح الرشد بالنسبة إليّ أصبحت رجلا في نظر والدي، وفي نظر العائلة، وفي نظر الذين كانوا يعتبرونني فتى، إذا استمع إليه فلا يؤخذ له برأي، وإذا تحدث لا يحمل كلامه محمل الجد. وأن تعجب فعجب للمدينة المتقوقعة والعائلة المحافظة تغير نظرتها إلى السجن. كانت كلمة السجن نفسها جريمة. ولكني ما أحسست بحرارة الاستقبال بين أحضان والدي يرحمه الله كما أحسست بها وأنا عائد من السجن. وتغيرت لهجة الخطاب ولغة الحديث، قد رشدت. ومع الرشد بدأت مطالبي تعبرعن نفسها بدقة ووضوح، وفي غير خجل ولا استحياء مرت شهور قليلة هي التي تفصل بين الشتاء والصيف، وأطلقت الكلمة ليكون جوابها ابتسامة عذبة محايدة لا تعبر عن رضى ولا عن رفض. أرغب يا والدي، في أن أذهب إلى مصر لمواصلة دراستي طموح لا يمكن أن يقابله الوالد الحنون المشفق المتطلع إلى أن يرى ابنه عالما في القرويين أو أستاذا في مدرسة، ألا برضى صميمي. فمصر في الخاطر وفي القلب، وهو الذي مر منها كما مر ببلاد الشام يوم حج بيت الله. وهو الذي يذكر منها أهراماتها وأزهرها وصوت أم كلثوم يتردد في إذاعتها: شوارعها ومقاهيها وميادينها. وأجمل أصوات القارئين يرتلون القرآن في الشارع والمقهى والفندق والبيت والمسجد. وأذكر أن أحد أصدقائه تجرأ، وهو يحكي عن رحلته، فسأله، وإحدى عينيه تبتسم، فقد كان حوله واضحا: أهي جميلة أعمى الحاج؟ وأحرج الوالد بالسؤال في حضوري فأشار إليّ: أن أنسحب انسحبت وما أدري أجاب بالنفي أو بالإيجاب. كانت الابتسامة جوابا فسرته ايجابيا. ولكني كعادتي معه، أو كعادته معي، حين يترك الموضوع معلقا فإن الجانب الايجابي منه أقوى من الجانب السلبي. ولم أكن أحب أن ألح حتى لا يكون الالحاح مدعاة إلى عناد. كنت أعرف أن فكره شغل بالموضوع، وأنه سيتخذ قرارا يحتاج إلى بعض الوقت للإعلان عنه. فهو، ككل الآباء في المدينة المقفلة