لاسبيل إلى تحقيق الشّهود الحضاري للأمّة الإسلامية إلا بقوّة هويتها، ولغتها، واستنادها إلى القرآن الكريم والسنّة الشّريفة. فإذا أهملت لغتها، وابتعدت عن أصولِها المرجعية، صارت تابعةً، تدور في فلَك غيرها من المدنيات. ولايخفى أنّ ما أحدثه نزول القرآن الكريم وبيان السنة النبوية من تغييرات جذرية في بنية الألفاظ التي كانت سائدة من قبل، بتزويدها بالمضامين الشّرعية، قد خلق واقعاً لغوياً وعقدياً واجتماعياً وثقافياً وعلمياً وسلوكيا.. جديدا كان سمة الأمة المخرجة إلى الناس. وألفاظ القرآن الكريم ومصطلحاته لها كل خصائص القرآن باعتباره وحياً، من هيمنة وتصديق وشمول وإطلاقية مستوعبة للزمان والمكان. لكن التداول التاريخي لهذه الألفاظ عكس واقعا آخر مغايرا حيث عمد إلى إعادة بنائها وتعريفها من خلال خصوصيات فرقية أو طائفية أو مذهبية ضيقة، وجعْلها تحتل محل التعريف الشرعي لها. فحوّلها ذلك من الإطلاق المستوعب للزمان والمكان إلى الخصوصية والبنية التي يحددها الزمان والمكان. وكان هذا عاملا حاسما في تحوّل البناء الجديد الذي أخرج الأمة إلى مسار الانحدار على مستوى علومه وثقافته واجتماعه ولغته.. لسبب بسيط هوكون هذه القطاعات ارتهنت للتاريخ وخلافاته أكثر مما ارتهنت للشّرع الذي يوحّدها ويحرّرها من كل ارتهان وينظم خلافها وتنوّعها وتعدّدها في اتجاه التكامل لا التقابل. والحاجة ماسة، نهوضاً بالأمة من جديد، إلى إعادة بناء مصطلحاتها ومفاهيمها وصلا لها بالوحي وتعريف لها من خلاله، لأنه وحده الذي يمنحها قوّة البقاء والعطاء، ويفتح أمامها كذلك آفاق التدافع والتعارف الإنساني والكوني، عوض الزحف الذي مارسته قديما وتمارسه حديثا مصطلحات ومفاهيم وافدة تؤثر في ساحتنا الثقافية تأثيرات سلبية خطيرة، وتصوغ بشكل تدريجي واقعاً فكرياً وسلوكيا ولغوياً.. مغايراً ومخالفا في معظمه لاختياراتها وثوابتها. هذا ماحاول د.سعيد شبار - رئيس المجلس العلمي المحلي لإقليم بني ملال - مناقشته ولفت النظر والانتباه إلى خطورته ضمن كتابه «المصطلحات والمفاهيم في الثقافة الإسلامية بين البناء الشرعي والتّداول التاريخي» [منشورات المجلس العلمي الأعلى: الطبعة الأولى: 1431ه/2010م]. اللغة والأمة: قدّم د.محمد يسف الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى لهذا الكتاب بمقدّمة مركّزة عميقة جاء فيها: «اللغة في الواقع هي الأمة نفسها تحيا بحياتها، وتموت بموتها، ترقى برقي الأمة، وتنحط بانحطاطها. علاقة اللغة بالأمة قضية كبيرة لاتستطيع الوفاء بمعناها مجرد كلمة قصيرة كهذه، غايتها تنزيل موضوع متعدد الأبعاد: قومي، ديني حضاري و... انفعل له وجدان تواترت أشجانه، لرؤية موروثٍ عريق، ومجدٍ شامخ أثيل يسير بخطى متسارعة نحو الأفول، وقومه ينظرون إليه وهم لايبصرون. لغة كل قوم، هي صمام أمنهم الحضاري وقوام حياتهم، وعنوان شخصيتهم، ودليل استقلاليتهم، وخزان فكرهم، ومستودع نبوغهم، وآية تحضرهم. من أجل ذلك كانت الأمم ذات المجد التاريخي، والثراء الحضاري، تعمل على التمكين للغتها وثقافتها عن طريق السعي لها لتنتشر في آفاق الأرض، فحيثما وجدت لغة الإنسان فثم وجوده الفكري والحضاري. ومن ثم بات التنافس بين الكبار على بسط نفوذهم بواسطة اللغة وما تحمله من زادٍ ثقافي، أكثر من بسطه بوسائط أخرى، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله، وأصبحت مناطق النفوذ الحقيقي للدول العظمى لاتقاس بمدى حضورها العسكري، وهيمنتها الاقتصادية، وإنما تقاس بمدى اكتساح لغتها لأمم الأرض وشعوبها، فالسيطرة على ألسنة الناس، وعقولهم وأفكارهم، أقوى وأبقى من الاحتلال العسكري أو الهيمنة الاقتصادية على أسواقهم واحتكار تجارتهم. هذا عن سلطة اللغة عامة. أما عن لغة الإسلام ولسان القرآن التي اختارها الحق سبحانه وتعالى من بين لغات أهل الأرض جميعا لتكون لسان آخر وحي السماء إلى الأرض أنزله بعلمه على آخر أنبيائه وخاتم رسله، فقد ظلمها أهلها وهي التي وسعت آيات الكتاب المبين لفظا وحكمة، ولم يضق صدر بيانها الناصع، وتعبيرها البلاغي الرائع عن استيعاب مضامينه بعقائده وأحكامه وأخلاقه وعباداته ومعاملاته وكافة تشريعاته، مع قدرتها الفائقة على استقبال كل وافد جديد، ومبتكر مفيد في حياة الناس، ولم يسبق لها في قديم حياتها، وهي تستقبل ثقافات الأمم وحضارات بني الإنسان أن قصر بيانها أو تلعثم لسانها أو اشتكى معجمها من فقر في المادة اللغوية يعوقه عن نقل نفائس فكر السابقين، وتراث الأقدمين، بأوفى بيان، وأشرق تعبير، كل ذلك كان، لأن أهلها الناطقين والكاتبين بها كانوا رجالا لا كالرجال، كانت لهم قلوب يفقهون بها وأعين يبصرون بها وعقول ومواهب جعلت لسانهم أول لسان الناس في الأرض، ولغتهم أسمى لغات الدنيا، فخلف من بعدهم خلف، قصرت بهم الخطى عن مجاراة سلفهم، والمحافظة على رتبتهم، فتراجعوا إلى الخلف وكان ما كان مما لست أذكره، وهاهي لغة القرآن ولسان دين الحق تبحث عن أهلها وتنادي رجالها، أن يستيقظوا من سباتهم ويجمعوا أمرهم، وأن يعيدوا ما ضاع من موروثهم، وأن يبنوا كما كانت أوائلهم تشيد وتبني. هذه هي الرسالة النبيلة التي أراد الأستاذ الدكتور سعيد شبار أن يذكر بها قومه وأهل ملته في هذا البحث القيم الموسوم ب «المصطلحات والمفاهيم في الثقافة الإسلامية بين البناء الشرعي والتداول التاريخي» الذي يضع قارئه في عمق واقع هذه اللغة التي ضيعها أهلها. فعسى الله أن يأتي بمن يعيد لها اعتبارها ويرفع عنها الضيم الذي لحقها». محاور البحث قسم المؤلف هذا البحث إلى ثلاثة فصول، يتمحور الأول منها حول ضرورة العناية بالمصطلح الحامل للمفهوم، وذلك من خلال تقديمه صورة عن تجربة الأمة التاريخية، في المصادر الشرعية، ومن حيث التمييز بين المستويات اللغوية والشرعية والاصطلاحية، مع ذكر نماذج من تبدل الألفاظ وأثر ذلك في العلوم. أما الفصل الثاني فيتمحور حول موضوع الاستعارة أو النقل بين الإمكان والشروط، وذلك من خلال تقديم صورة أخرى عن التجربة التاريخية والمعاصرة، والتطرق لمسألة تجريد وحيادية المصطلح، وموضوع المصطلح العلمي التقني البحت. ويتمحور الفصل الثالث حول نماذج من التداول المعاصر وتعدد المرجعيات، من خلال تناول المؤلف لقضية المصطلح ومنطق التبرير، وقضية المصطلح الديني والتاريخي، التقابل الزائف ودعوى تجديد اللغة. قال المؤلف في خاتمة هذا البحث: «تمت الإشارة في مطلع هذه الدراسة إلى أن الغرض منها ليس الدفاع أو الإثبات، إنما معرفة واقع معاصر سائد في سياق تطور تاريخي للمصطلح والمفهوم. ونختمها بالتأكيد مرة أخرى على القدرة الذاتية لعموم اللغات في الصمود والاستجابة للتطورات والمستجدات إذا ما اعتنى بها أصحابها، واللغة العربية منها بصفة أخص لأنها أيضا لغة دين، تستجيب لا للمتطلبات المادية والدنيوية للإنسان فقط، بل لمتطلباته الروحية والنفسية والأخروية أيضا، ف «ليس هناك لغة مهما كانت ضعيفة لا تقدر على استيعاب العلوم والتقنيات. وقد أحيى الإسرائيليون لغة توراتية قديمة، لم يكن أحد يتحدثها، وصارت لغة علمية وتقنية» (برهان غليون: حوارات من عصر الحرب الأهلية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط 1995/1، ص 278)، و«ليس التهجم على العربية في بعض أقطارنا إلا وسيلة للتغطية على إخفاق السياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي اتبعت في العقود الماضية، والرغبة في التحلل من المسؤولية وتحميل التاريخ والأجداد والآخرين مسؤولية هذه السياسات السيئة التي قضت على الاقتصاد والمجتمع وتريد أن تقضي على اللغة» (برهان غليون: حوارات، ص 281). «إن السؤال الذي يجب طرحه ليس هل اللغة العربية ضعيفة بالمصطلحات العلمية والتقنية أم لا، بل ليس أيضا هل العربية تصلح لإنتاج المصطلحات العلمية أم لا؟ ولكن كيف نطور لغتنا لتصبح على مستوى التجربة العلمية والتقنية العالمية؟ بالطبع، هذا يفترض أن يكون لدينا شعور أدنى بأننا أمة، وأن لدينا لغة خاصة بنا. فإذا كان شعورنا أننا حشد من الناس لا رابط بينهم، ولا تجمعهم لا لغة ولا ثقافة ولا دين ولا تاريخ، ولا حضارة تربطهم ومنها يستمدون الروح والقوة والمعنى، فليس هناك أي مانع في أن نتداول فيما بيننا حول اللغة التي نختارها كما نتداول حول الملابس التي نلبسها» (نفس المرجع، ص 280 281). نعم، فالاهتمام باللغة ككائن حي لا يختلف في شيء عن الاهتمام بسائر الكائنات الحية، مما ينبغي توفيره لها من عناصر الرعاية والعناية والحماية طيلة مراحل النموّ والتطوّر، هذا عندما نعتبرها تعبيرا عن كيان وذات وهوية نعتز بالانتماء إليها كسائر الأمم الحية في عنايتها بلغاتها القومية على كثرتها وتعددها. ويكون هذا الأمر أكثر إلحاحاً إذا علمنا أن هذه اللغة لغة أمة ممتدة ولغة دين محفوظ وأن إمكانياتها في التوليد والعطاء وفيرة وكثيرة، والجيل السعيد ذاك الذي يتحقق بهذه المعاني ويحقق كسبه الإنساني والعمراني من خلال مقوّماته الدّينية واللغوية والثقافية في انفتاحها على سائر الخبرات البشرية». أهداف الدراسة إنّ الغرض من هذه الدراسة كما قال المؤلف هو محاولة في الفهم والنظر يبذله الإنسان إزاء هذه اللغة، وفي الوعي بمقتضياتها المرجعية والمنهجية في بناء التصوّرات والأفكار وتحديد نظم التربية والتكوين وإنشاء العلوم والمعارف، وفي علاقتها بسلوك وواقع الفرد والمجتمع ذلك أنه لما كانت هذه اللغة ألفاظا ومصطلحات تتركب لتدلّ على مفاهيم، وتحيل على مضامين، إذ «الألفاظ للمعاني أزمة وعليها أدلة وإليها موصلة، وعلى المراد منها محصلة» [ابن جني: الخصائص ج 3/ ص 312]، كانت المصطلحات والمفاهيم في سياق الفهم والنظر الذي يبذله الإنسان، وفي سياق الصيرورة التاريخية لهذا الكائن، عرضة لتغيرات وتقلبات عديدة تمليها ظروف وخصوصيات المرحلة التاريخية، مما يجعلها تنأى كثيرا أو قليلا عما أنزلت أو وضعت له أصلا، فيكون ذلك منشأ للخلاف والنزاع والفرقة والتعدد.. كما تدل على ذلك التجربة التاريخية للأمة في فرقها الكلامية ومذاهبها الفقهية وتياراتها السياسية.. وكما يدل على ذلك واقع اللغة المعاصر، استعمالا لمصطلحاتها وتداولا لمفاهيمها في العلوم الإسلامية وفي العلوم الإنسانية والطبيعية. إذ لم يبق لها نفس الدور البنائي والتّوحيدي كما كان، لما كانت لغة العلم والمعرفة والحضارة الإنسانية والكونية. إذ لما آلت هذه الكيانات إلى الضعف والضمور في الأمّة، كان أمراً طبيعيا أن يصيب شيء من ذلك الكيان اللغوي نفسه لانعدام المضامين المتجددة في علاقتها بالعلوم والمعارف والوقائع والصنائع والعمران.. وغير ذلك، باعتبار اللغة وعاء لها وتعبيرا عنها. ولما كان أمر الحركة العلمية والثقافية والاجتماعية من أهمّ عوامل صحّة الأمّة وعافيتها، أو مرضها وسقمها، أو قل هذا بمثابة الشريان والنسع الذي يدفع الدم الزكي الطيّب للجسم فيكون غذاء ينتفع به، أو يدفع الدم الخبيث العفن فيكون داء يتضرر منه. كما دلت على ذلك أطوار نموّ الأمّة وازدهارها وضعفها وانهيارها، كانت العناية بالمصطلح وبمفهومه أمرا بالغ الخطورة والأهمية لأنه مدخل ذلك كله تكويناً وإنشاء وتعبيرا وإبلاغا، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك تحديات العامل الخارجي المتمثلة في «السلطة المعرفية» التي تمارسها ثقافة الآخر وهي تعمل على توسيع مجال نفوذ لغتها، ومجال تداول مفاهيمها ومصطلحاتها المعبرة عن خصائص حضارتها وأنماط عيشها وحياتها واختياراتها، والتي ماتزال تزحف على المجال التداولي الأصلي للمفاهيم وتصوغ من خلال نماذجها واقعا فكرياً وسلوكيا ولغوياً قد يصل حدّ مصادمة اختيارات الأمة في ثوابتها ومقدساتها. هذه الدراسة إذن محاولة في رصد وتتبع عملية البناء والازدهار والأفول والانهيار في العلوم المشكلة لثقافة الأمة، من مدخل المصطلحات والمفاهيم المعبرة عنها، مقارنة بين بنائها الشرعي بخصائصه الكلية المستوعبة للزمان والمكان لأنها من الوحي المطلق الذي يمنحها قوّة البقاء والعطاء في ساحة التدافع والتعارف الكوني، وبين تداولها التاريخي النّسبي المتغير في الزمان والمكان والذي ينبغي أن يكون تعبيرا شفافا وكاشفا باستمرار وبشكل متجدد عن تلك المضامين والدلالات الشرعية البانية والموحدة، لا أن يحتل محلها فيتحول إلى عنصر مقيد لحركية وفعالية المفهوم، يعكس خلافات وصراعات التاريخ وينقلها إلى أعصر وأزمنة هي في غنى كامل عنها. فلا تختلف من زاوية النظر المعرفي عملية نقل نموذج أو كسب تاريخي ذاتي معين لم يعد قابلا للاستمرار ولا قادرا على العطاء، عن عملية نقل نموذج أو كسب غيري مخالف غير قابل للدمج والتكييف والاستيعاب، فكلاهما مضر بواقع وراهن ثقافة ولغة الأمة وحاجتها إلى التجدد الذاتي المنفتح والمستمر. فالأوّل يجعلها رهينة ماض جامد والثاني يجعلها رهينة واقع مغاير ومختلف، وكلاهما اغتراب عن هموم ومشكلات الأمة الراّهنة. يتألف هذا الكتاب من 96 صفحة.