من الأفكار الرئيسية في كتاب «أورشليم» لموسى مانديلسون ما يراه من أن جوهر الدين هو دين الفطرة، وأن الدين، بذلك، مَظهرٌ من مظاهر فطرة العقل الطبيعي التي فُطِر الناسُ عليها والتي لا يمكن أن تكون إلا خيّرة تتنافى على الخصوص مع أي وجه من أوجه القهر المؤسَّسي للضمير. فالرسالات إنما تؤكد الفطرة الخيّرة، وليست هي التي تُخرجها بالكشف الإعجازي الخارق من العدم إلى عالم الوعي والبصيرة. فالإنسان في جوهره حسب تصور مانديلسون ومن تأثر بهم من التنويريين كائن مدني بالطبع، كما قال ابن خلدون، وليس بمقتضى تدخّل قوةِ سلطةٍ خارجية؛ ومن خلال ملكته المدنية تلك يشتق عقلُه الطبيعي المفاهيمَ الأخلاقية الأساسية من حق وواجب، خير وشر، فيُكامل بين الأولَين، ويميز بين الأخيرين. فإذا كان هناك من فرق بين الدين والعقل الطبيعي، فهو فرقٌ بين ما هو معقول مما هو في متناول العقل (Reasonableness) وبين ما ليس في متناول العقل (Supra-rational)، وليس فرقا بين مطابقة العقل (rational) ومناقضة العقل (irrational). فلا شيء في دين الفطرة بممكن أن يناقض العقل في المطلق. أما الخلاف على مستوى الممارسة في شأن تصوُّر ما هو مطابق للعقل وما ليس كذلك في ميدان الأخلاق بصفة عامة، مما له تعلق بقدرات الأشخاص على التصور والتصديق، فإنما هو مسألة تأثير التدافع من جهة، ومسألة تأهيل بيداغوجي وتربوي مستمر من جهة أخرى كما هو الشأن في التفاوت في قدرات استعمال الرياضيات مثلا، وليس دليلا على عجز مطلق للعقل في إدراك المقولات صورةً ومادةً. وقد ترتب عن ذلك التصور في نظرية مانديلسون، الذي تأثر كثيرا في هذا الباب ب»سبينوزا» مع وجود فارق جوهري بين فكريهما، أن الشريعة بصيغتها الفقهية، أي الهالاخا (????) لا تمثل جوهر الدين، وإنما هي وصايا عمَلية لجعل السلوك ينسجم مع مبادئ تلك الفطرة الخيّرة؛ وبذلك يكون التشريع في جوهرية مقاصده مفتوحا على ما يقتضيه المحيط من اجتهادات لإدامة ذلك الانسجام. فالتشريع بمفهومه الفقهي، كتأطير صوري للتدين في ظروف معينة - وعلى العكس من المبادئ العامة لما يعرَف ب»شرع نوح» (Lois Noachides) الممثّل للفطرة (1 )- تشريعٌ لم يُقُم في اليهودية الأولى، من إبراهيم إلى يعقوب، إلا مع وصايا موسى عليه السلام وتفصيلِها في التوراة، موسى هذا الذي اجتمعت في شخصه تاريخيا وظيفتا الدين والدولة، أي ما يسمى بالثيوقراطية، التي هي معطىً تاريخي مرتبط بظرفياته، ولا تمثل لا جوهر الدين ولا جوهر السياسة والدولة حسب مانديلسون. فالتشريع بالمفهوم الفقهي صياغة شكلية معينة لروح المبادئ والمقاصد قصد تنزيلها في السلوكين الفردي والجماعي في ظل معطيات تاريخية معينة، فيكون أساسه بناء على ذلك هو النسخ كما يتم حتى داخل الرسالة المعينة في ظرف سنوات معدودة. أما المبادئ والمقاصد فلا تنسخ ومنها المبادئ النوحية، خلافا لما ذهب إليه الحبر الحكيم السموءل بن يحيى بن عباس المغربي في كتابه القيم «بذل المجهود في إفحام اليهود» حينما أسلم وأراد التدليل على نسخ الإسلام لليهودية والمسيحية بالإشارة إلى أن الشريعة الموسوية نفسها كانت قد نسخت المبادئ النوحية. فشريعة النبي موسى، وهو يقود شعب بني إسرايل من أرض مصر إلى أرض كنعان عبر سيناء، بكل مصاعب تلك القيادة على أرض الواقع، «لم تكن تُمثل نظاما لسلطة الدين في جوهره. لقد كانت سلطةً سياسية-دينية» على حد تعبير مانديلسون؛ «لقد كانت حُكما ثيوقراطيا في أخلص تجلياته، أو ما يمكن أن نسميه ب»مدينة لله»، تُستمَد فيها السلطة ليس من الدين كدين بل من الدين باعتباره في خدمة الدولة»، أي ما يسمى اليوم: أيديولوجية حُكم. وبما أن الاجتهادات التاريخية في باب الشريعة بهذا الاعتبار مرتبطة بالممارسة والتدافع، فإن احتمال الصواب والخطإ فيها وارد؛ وهذا ما يفسر ما تحفل به الفقهيات الهلاخية من أوجه التعارض والتناقض أحيانا، سواء على مستويات تزامن الاجتهادات أم بالنظر إلى تلاحقها عبر الأجيال، أو توزعها في المكان؛ وهو ما يفرض في نظر مانديلسون نوعا من الحيطة العقلية الدائمة في التعامل مع الرصيد الكلي لتلك الفقهيات بما أنها اجتهادات حول تنزيل الدين على أرض الواقع ولا تمثل في حد ذاتها ومن حيث صورها وأشكالها جوهر الدين. وهو يرى أن جوهر دين الفطرة، في مقابل الشريعة والصياغات اللاهوتية، لا يحتاج إلى الكشوفات الإعجازية («كل مولود يولد على الفطرة»؛ حديث نبوي). ولقد تأثر مانديلسون في هذه النقطة بالذات بالسؤال المحرج الكبير الذي كان قد طرحه الفيلسوف الإنجليزي «جون لوك» (John Loke) على الشكل الآتي: «تُرى ما عسى أن يكون مصير سائر البشرية من الذين لم يسمعوا قط لا عن وعد [بني إسرائيل] (Promise) ولا عن [بشارة المسيح] المُنِقذ (Massiah) الذي يُنتظر [في نظر اليهودية] أن يبعث، أو الذي بُعِث منذ زمن [في نظر المسيحية]، أولئك والذين ليس لهم أيّ فكرة لا عن ذلك المنقذ ولا عن الإيمان به؟». 1 - 1 الأمر بالعدل المدني، 2 النهي عن كل أوجه التجديف (ومنها شهادة الزور)، 3 وعن عبادة الأصنام، 4 وزنى المحارم، 5 وقتل النفس، 6 والسرقة، 7 وكل أوجه الوحشية (مما رُمز إليه بتحريم أكل جزء مقتطع من حيوان حي). {شرع لكم من الدين ما أوصى به نوحا، والذي أوحينا إليك، وما أوصينا به إبراهيم وموسى وعيسى}ق.ك فبما أن كشف الأنبياء والمرسلين ينحصر بلوغه، بالضرورة العملية، في مجموعة بشرية بعينها، في زمن بعينه، وبلغة بعينها، فإنه يكون، بمقتضى طابعه ذاك، كشفا حصريا ومحصورا لفائدة مخاطَبين معيّنين حصلَ لهم، مكاناً وزماناً، حقُّ الامتياز دون غيرهم من العالَمِين على سبيل الاصطفاء المطلق. وبسبب ذلك الطابع، يكون كل فهْمٍ يجعل إمكانيات إدراك دين الفطرة متوقفة على الكشف الإعجازي الخارق فهماً للاصطفاء غيرَ جدير بالعدل الإلهي وبمحبته المتكافئة إزاء كافة البشر في سائر الدهور. يقول مانديلسون بهذا الصدد في كتاب «أورشليم» ما يلي: ((ولذلك فإني لا أومن بأن قوة العقل البشري قاصرة عن إقناع الإنسان بالحقائق الأزلية التي هي ضرورية لتحقيق خلاص البشر وسعادته، وبأن حصول ذلك متوقف بالضرورة على كشفه تعالى لتلك الحقائق بشكل إعجازي على يد المرسلين. إن مَن يذهبون ذلك المذهب ينتقصون من كمال الطيبوبة الإلهية من جانبٍ، بما يعتقدون أنهم يضيفونه إليها من جانبٍ آخر. فهو، تعالى، في نظرهم، من الطيبوبة بحيث إنه قد كشف للناس تلك الحقائق التي فيها خلاصُهم، ولكنه [في ظل ذلك التصور] ليس من القدرة والإرادة أو من الطيبوبة بما يجعله يهَبهم من القوى الإدراكية ما يتأهلون به لاكتشاف تلك الحقائق بأنفسهم [كما ألهمهم من الذكاء ما يتعاملون به مع الطبيعة]. وزيادة على هذا، فإن ذلك الزعم يجعل شمولية الرسالة الإعجازية مكانياً وزمانياً أمرا ضروريا أكثرَ من ضرورة مبدإ الرسالة في حد ذاته. فإذا كان النوع البشري سيبقى فاسدا في حالة انعدام رسالة إعجازية حقا [أي مشهودٍ إعجازُها في الجيل]، فما الحكمة من إبقاء الأغلبية الساحقة من البشر بدون رسالة إعجازية عبر العصور؟ لماذا يتعين [مثلا] على الناس في القارة الهندية أن ينتظروا حتى يطيب للأوروبيين ويحلوَ لهم أن يبعثوا إليهم نفرا من «المُواسين» لينقلوا إليهم كلمةَ [خلاصٍ] لا يستطيعون بدونها، حسب ذلك الرأي، أن يكونوا لا صالحين ولا سعداء؟ تلك الكلمة التي لن تمكّنهم ظرفياتُهم الخاصة ونوعيةُ ثقافاتهم [ولغاتهم] لا من فهمها فهما صحيحا ولا من العمل بها كما ينبغي. وبالمقابل، وبناء على مفاهيم اليهودية الحقة، يبقى أهل المعمور أجمعون مهيئين للصلاح والخلاص؛ وسبُل الوصول إلى ذلك متعددة ومتنوعة بتعدّد وتنوعَ البشر أنفسهم، وهي موهوبةٌ لهم بنفس نوعية الفضل والجود الإلهيين اللذين بفضلهما أُلهِموا [بالطبع] كيف يُشبعون جوعَهم [بالسعي في الأرض])). وبسبب نفس تلك الاختلافات الثقافية واللغوية والمعرفية، يقول الإمام المخفي في «الرسالة الجامعة» لإخوان الصفا، بعد توضيحه لمزايا الاختلاف في قيام الصلاح وتمامِه: ((إن المُعلم والمُرشد والمُنبه لكل أمة من الأمم لا يكون إلا منهم، ولا يدعوهم إلا بلسانهم، ولا يأمرهم إلا بقدر ما في وسعهم وطاقتهم؛ ذلك من عدل الباري سبحانه، لا إله إلا هو، الرؤوف بخلقه، فجعل لكل قوم هاديا منهم؛ وقال عز من قائل {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}،2)). وفي نفس السياق يقول المفكر اليهودي المغربي-الإيطالي، إيلي بن أمازيغ (وُلِد: 1823) في كتابه «إسرائيل والبشرية» (Israël et l?Humanité): ((ذلك أنه إذا أمكننا أن نتصور مفهوما محليا أوجهويا للإله، يتخذ مع الزمن مظهرا كونيا في نظر أصحابه بعد غلبته على التصورات المنافسة، فإنه من المحال تصورُ إله واحدٍ أحدٍ تقتصر عنايتُه على أمة واحدة على سبيل الحصر، دون سائر الأمم)). ففكر ماندليسون يبتعد هنا عن حَرفية الاصطفائية الجوهرية المطلقة بمفهومها في الهاكَادا (???? ?? ???) والتي انحرفت في مغالاةٍ عن الفكرة التي ترى بأن اصطفاء بني إسرائيل إنما هو تاريخي، من حيث تكريمُهم لسبق قبولهم بحمل أمانة التعاليم الإلهية حين أعرض عنها الأميون (Everryman?s Talmud, p:61)؛ أي أن ذلك الاصطفاءَ اصطفاءٌ للانسان المبادر إلى مغامرة تحمّل المسؤولية {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبَينَ أن يحملنَها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إن الإنسان كان ظالما جهولا}ق.ك ، وأن التفضيلَ حاصل بذلك لبني آدم كافةً من حيث قبول الإنسان لرسالة الاستخلاف {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا}ق.ك. -------------------------------- 2 {إنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروحُ الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبِين}ق.ك. {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا: لولا فُصِّلت آياتُه، أعجمي وعربي}ق.ك (قراءة الحسن البصري).