باحث مغربي مقيم بهولندا www.tijaniboulaouali.nl السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، ورمضان مبارك للجميع.. ولئن كانت هذه الورقة ترتبط بي شخصيا، باعتباري كاتب عمود بموقع أريفينو، فإنها قد تنطبق كذلك، بشكل أو بآخر، على زملائي من كتاب الأعمدة بهذا الموقع. ليس من طبيعتي أن أرد على التعقيبات التي تكتب حول مقالاتي وأوراقي التي أنشرها بموقع أريفينو، لأن أغلبها لا تستحق الرد! فهي عوض ما تتناول محتوى ما ينشر بموضوعية ونقد بناء، فإنها توجه سهامها إلى صاحبها، من خلال الكثير من العبارات المخلة بالأخلاق، والكلام المبطن بالحقد والبغض وعدم الاحترام..! حتى أن بعض قليلي الحياء من المعلقين لم يأخذوا بعين الاعتبار حرمة هذا الشهر المبارك وقدسيته عند الله سبحانه وتعالى. فسامحهم الله، وهداهم، وجنبهم طريق الفسق والغي والفحش. وفيما يتعلق بهذه الورقة الخاصة بنعمة الإسلام، استلفت نظري تعقيب من المعلق (ميس نتمورث)، وهو تعقيب يختلف عن غيره من التعليقات الانفعالية والعاطفية واللا موضوعية، وما أحوجنا إلى مثل هذا التعقيب، الذي يتبنى ولو أدنى نسبة من النقد الجاد والبناء، وكم يتملكني الفرح عندما أصادف من ينقد ما أكتب بهذه الطريقة، لأنني أؤمن في قرارة نفسي بأنني ليس معصوما من الخطأ، فأنا مجرد بشر يجتهد، فقد يصيب فله أجران، وقد يخطئ فله أجر واحد! فهو في كلا الحالتين فائز. ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث أخرجه الترمذي وابن ماجة: “كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”، كما أن الشاعر يقول، (وهذا كلام موجه إلى المتشبعين بالفكر الفلسفي الغربي اليوناني والليبرالي والماركسي على حساب الدين والعقيدة): قل لمن يدعي في العلم فلسفة /// حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ثم إن الفيلسوف اليوناني سقراط كان يردد دوما: “الشيء الوحيد الذي أعرفه، هو أنني لا أعرف شيئا”. على هذا الأساس، أخلص إلى ما يلي: 1- أنني غير معصوم، وأخطئ مثل غيري من البشر، وأحب التوبة دوما إلى بارئي، كما أحب تصحيح أفكاري وتجديدها بلا استحياء أو تكبر، فالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: “إثنان لا يتعلمان؛ المستحيي والمتكبر”! 2- أنني أفكر وأكتب حسب النوازل والظروف، فقد يحدث أنني أكتب شعرا، أو حكيا، أو نقدا أدبيا، أو فكرا سياسيا، أو مقالات في الإعلام، أو كتابات في الدين، فأنا أملك الحرية التامة فيما أقرر كتابته، ولا أنتظر أي إشارة من أحد، وأرى شخصيا، ويرى من هم أضلع وأوسع مني علما، أن ليس في ذلك أي تعارض أو شائبة، فالأصل هو أن يكتب الكاتب في كل الفنون والعلوم، أما ظاهرة التخصص، فهي مستحدثة وجديدة، لم تظهر إلا في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة من القرن العشرين المنصرم. وأنا أكتب لا أدعي أبدا أنني أحفظ كل شيء، وإنما أنظر دوما إلى من هم أرفع مني مكانة في العلم والمعرفة، وشعاري الأبدي هو: وقل ربي زدني علما. 3- ثم إنني كذلك عادة ما أتبنى مقولة أب الفلسفة اليونانية سقراط، التي هو: الشيء الوحيد الذي أعرفه، هو أنني لا أعرف شيئا. لأنني رغم كل ما أقرأه، ورغم كل ما أشاهده، ورغم كل ما أكتبه، أجد نفسي عاجزا أمام العلم الذي هو بحر لا ساحل له! وأنا أستحضر دوما أحد المفكرين الأمريكيين الذي دخل مكتبة عمومية، فتساءل حول كم يحتاجه من الوقت حتى يقرأ هذه الملايين من الكتب المتراصة، المختلفة الأشكال والعناوين والمحتويات، فعندما قام بعملية حسابية، أدرك أنه حقا عاجز أمام هذا الزخم من الأفكار والمعارف، وأن عدد سنين عمر الإنسان لا تؤهله لقراءة هذه الكتب كلها، بل وأنه عندما تأمل وقته وفيما يقضيه، وجد أنه يقضي ثلثه في النوم، بمعنى أن الإنسان، حسب اعتقاده، إذا عاش 60 سنة، فإن عشرين سنة كاملة يستغرقها في النوم؛ في اللا إنتاج! لذلك قام بتقليص ساعات نومه إلى خمس ساعات أو أقلها في اليوم، حتى يوظف تلك الساعات التي يوفرها في طلب العلم والقراءة والكتابة والبحث. هكذا فإن الإنسان كلما تقدم في العلم، كلما وجد نفسه عاجزا أمام ما يطرأ من ظواهر ومستجدات وحالات لا متوقعة! أمضي الآن إلى نقد الأخ ميس نتمورث لمقالي حول نعمة الإسلام، مع شكري الجزيل له على قراءة هذه الورقة والرد على بعض ما جاء فيها من أفكار، وهو رد في الحقيقة يسعى حثيثا إلى نسف أغلب ما ذكرته، من خلال بعض التفسيرات والحجج التي يطرحها، ومع ذلك فأنا شخصيا أتقبل ذلك النقد، ما دام أنه يعتمد أدنى شروط الموضوعية، كاحترام رأي الآخر، ومناقشة الأفكار، ومقارعة الحجة بالحجة، ونحو ذلك. أولا: أخي الكريم إن هذا الدرس لم يلق باللغة نفسها التي ينشر بها اليوم، فمن عادتي أن أكتب موضوعا ما، وعند إلقائه أنتقي أهم النقاط والمحاور، فأرتجل كل واحدة على حدة، حسب المقام، وحسب فهم الناس واستيعابهم، أي بلغة تنزل إلى مستواهم التعليمي والتفكيري، مع توظيف مصطلحات وتعابير وفقرات بالدارجة المغربية وأمازيغية الريف وأحيانا باللغة الهولندية. أخي الكريم، حقا أن أغلب الريفيين من الجيل الأول وبعضهم من الجيل الثاني أميون، لكن ليس صحيحا أن مساجد هولندا لا ترتادها إلا هذه الفئة، بل ترتادها مختلف الفئات، من مغاربة أمازيغ وعرب، وجاليات مشرقية، وأفارقة، وهولنديين مسلمين، وغير ذلك. لذلك فإن أي درس ينبغي أن يكون متوازنا، يأخذ بعين الاعتبار هذه الفئات كلها، لذلك نشأ توجه جديد، يركز على استعمال اللغة الهولندية أكثر في الدروس واللقاءات والمحاضرات، كما هو الحال في فرنسا حيث تستعمل اللغة الفرنسية، وفي بريطانيا حيث تستعمل اللغة الإنجليزية، لأن القاسم المشترك بين سائر الجاليات الإسلامية المقيمة بهولندا، هو تواصلها بلغة البلد المضيف، التي هي اللغة الهولندية. ثانيا: أنا لم أدع أن درسي جاء بالجديد، فهو يندرج في دائرة الوعظ والتذكير، لا سيما في هذا الشهر الأبرك الكريم، وهو حلقة من دروس متنوعة، ينظم بينها خيط رفيع، وهو خيط الدعوة إلى نعمة الإسلام، ثم من قال لك بأن الناس لا يستفيدون شيئا من خطب الجمعة التي تلقى عليهم 52 مرة على مدار العام، فكيف تمكنوا من تعلم أمور دينهم ودنياهم، رغم أنهم أميون وغير متعلمين، ثم إن الأهم لدى الناس هو شيء واحد، وهو تلبية أمر خالقهم سبحانه وتعالى، وهو القيام بصلاة الجمعة، والسماع إلى الخطبة، وما إلى ذلك، من الواجبات المتعلقة بالركن الثاني من أركان الإسلام، الذي هو الصلاة. ثم من قال لك أن الوازع الديني يضمحل، ونحن نرى بيوت الله ملآى على آخرها، ونرى أنه في العام الواحد يدخل الدين الإسلامي في فرنسا وحدها حوالي 10 آلاف شخص! وأن الإقبال على الإسلام يزيد بشكل صاروخي، يرشح بأن يكون الإسلام الدين الأول على الكرة الأرضية، هذا ليس بناء على ما هو عاطفي كما يزعم البعض، وإنما استنادا إلى إحصائيات علمية غربية محضة، كإحصائيات المركز الاستراتيجي المسيحي الكاثوليكي. ثالثا: تقول بأنني أسقط في التناقض عندما أقول بأننا ولدنا على فطرة الإسلام، وأعارض بعض النصوص القرآنية والحديثية، هذا صحيح إذا اقتفينا طريقتك الإسقاطية والانتقائية، إذ أنك تكتفي من كلامي بعبارة (نولد على فطرة الإسلام)، وتلقي جنبا ما يليها من العبارات الموضحة والمفسرة لها، كالذي يقرأ (ويل للمصلين) ثم يقف! حقا أن الإنسان كيفما كان يولد على الفطرة كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟”. وليس على فطرة الإسلام! فلماذا أضفت لفظة الإسلام إلى الفطرة، وقلت (فطرة الإسلام) من عندك! وأنت بذلك تُقوّل الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقله! ثم إنك تؤكد أن البشر يولدون على فطرة الإسلام، “وهو، كما تقول، شيء من المعلوم في دين الله”، في حين أن القضية تظل خلافية بين مفسري القرآن الكريم، إذ ثمة فريق يذهب هذا المذهب، فيرى أن المقصود بالفطرة الإسلام، وأن الناس كلهم ولدوا على هذه الفطرة، كما هو الشأن عند ابن كثير والقرطبي وغيرهما، في مقابل ذلك يرى فريق آخر من المفسرين، أن المقصود بالفطرة ملة الإسلام، غير أن الخطاب موجه أساسا للمسلمين وحدهم، يقول الواحدي: “والمراد بالناس هنا: الذين فطرهم الله على الإسلام؛ لأن المشرك لم يفطر على الإسلام”، كما أن ثمة من المفسرين كابن عاشور، من يرى أن كون الإسلام هو الفطرة يعني ذلك “النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسداً وعقلاً، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية”، وهذا نفسه ما سبق وأن أثبته صاحب تفسير (الفتح القدير) الإمام الشوكاني، عندما قال: “كل فرد من أفراد الناس مفطور، أي مخلوق على ملة الإسلام، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان”، بمعنى أن الإسلام في هذا الصدد لا يعني الإسلام كما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما ندين به نحن، وإنما تلك الخلقة الأولى الصافية التي يولد عليها الإنسان، وهي خلقة تلائم طبيعة الإسلام وروحه. على هذا الأساس، فإن فهم هذه المسألة وغيرها من المسائل القرآنية، لا يتأتى إلا بعرضها على من هم أسمى منا معرفة وعلما وتمحيصا، وهم المفسرون والعلماء والفقهاء، الذين عادة ما يختلفون في الظنيات والجزئيات، أما أن نأتي ونأخذ برأي مفسر أو عالم واحد دون غيره من العلماء، فهذا يوقعنا لا محالة في آفة الانتقاء والإسقاط. أما فيما يتعلق بمسألة الذين أسلموا، كيوسف إسلام مثلا، فهذا موضوع آخر، لأنني أتحدث في هذا المقام عن الذين فتحوا أعينهم على نعمة الإسلام، فلم يدركوا قيمتها وأهميتها، فأنا أدعوهم إلى تأمل هذه النعمة التي منحت لهم، من دون مشقة أو لغوب، وحمد الله تعالى عليها وشكره. رابعا: أخي الكريم فيما يتعلق بإقامة المسلمين في دار الكفر، فأنصحك بقراءة فقه الأقليات المسلمة، وفكر المفكرين الإسلاميين المعتدلين الذين تناولوا قضايا المسلمين في الغرب، وسوف تصحح لا محالة نظرتك الضيقة إلى كل مسلم يقيم في الغرب، وتنزع عنك تلك النظارة السوداء التي تنظر بها إلى إخوانك المستقرين في ديار الغرب. • إن ثنائية دار الإسلام ودار الكفر، لا يرددها ويتبناها إلا ذوو القصور المعرفي والنقص في قراءة الفكر الإسلامي؛ قديمه وحديثه، إذ أجمع العديد من علماء الإسلام حول وجود دار بين هاتين الدارين، وهي دار الصلح أو دار المعاهدة، ويقصد بها تلك الدول التي لا تعادي المسلمين ولا تحاربهم، ويمكن إدراج الكثير من الدول الغربية في هذه الخانة، التي تقدم يد المساعدة للدول الإسلامية والثالثية الضعيفة، وتحتضن بين ظهرانيها الملايين من المهاجرين واللاجئين، الذين يتمتعون بالكثير من الحقوق التي افتقدوها في بلدانهم الأصلية. • ثم إن الجالية الإسلامية المقيمة في الغرب، لا تشكل أقلية عادية كباقي الأقليات، فهي تنتشر كما ينتشر شرر النار في الحطب، ليس من خلال تصاعد عدد المواليد فحسب، وإنما من خلال تكاثر مؤسساتها الدينية والثقافية والتعليمية والرياضية والاقتصادية، مما مكنها من أن تمارس نفوذا بارزا في العديد من المجالات السياسية والثقافية والتعليمية، أما ما يسوق في الإعلام من حديث لا يريد أن ينقضي حول الإجرام والعنصرية ومشاكل أخرى، فهذا أمر جد عادي، يقع في أي بقعة من الكرة الأرضية، بل وأن حالات الإجرام والاغتصاب والاعتداء التي تحدث في مدينة الناظور وحدها، يضاهي ما يحدث للأقلية المسلمة في هولندا كلها! • كما أن المعادلة التقليدية التي مؤداها؛ أن استقرار الجاليات الإسلامية في الغرب مؤقت، وأنه سوف يأتي اليوم الذي تعود فيه إلى أوطانها الأصلية، تحتاج إلى المراجعة وإعادة النظر، فتلك المعادلة قد تنطبق على الجيل الأول وقسم من الجيل الثاني، أما الجيل الثالث وجيل المسلمين ذوي الأصول الغربية، فيعتبرون أن الغرب وطنهم الأصلي، الذي يسري في عروقهم ودمائهم، لذلك فهم يتشبثون أيما تشبث بحقهم في الانتماء إلى الغرب، وأن اعتناقهم للدين الإسلامي لا يتعارض بتاتا مع ذلك الانتماء، فالعالم الغربي يسع لكل الثقافات والأديان واللغات والأعراق والألوان... • ثم إن الأهم من ذلك كله، هو أن وجود المسلمين في الغرب ليس عبثا، ولا صدفة، وإنما لغاية سامية، وهي الدعوة إلى دين الله الحق؛ الإسلام، لذلك فكل مسلم مسلم يتحمل مسؤولية الدعوة إلى الإسلام، حسب الإمكانيات التي تتوفر له، إذ أن الدعوة تبدأ من احترام الآخر، وإلقاء التحية عليه، ودعوته إلى احتساء كأس شاي، وتقديم الهدايا إليه، وغير ذلك. أخي الكريم، مس نتمورث، إن العودة التي تدعو إليها من دار الكفر إلى دار الإسلام، (وهل المغرب أو الريف دار إسلام؟!)، تعني تقويض قرون من العمل الإسلامي الجاد في ديار الغرب، الذي نتج عنه أن وصل عدد المسلمين في الغرب الخمسين مليون شخص، أليس هذا مكسبا ضخما للإسلام في عقر الدار، التي تنعتها أنت بدار الكفر! خلاصة القول، إن هذه الورقة أرادت أن تنبه إلى أمر أساس، وهو أن القاريء يملك الحرية التامة في قول ما يريد، وما يشاء، غير أن تلك الحرية لا ينبغي أن تصل إلى درجة من الميوعة والانحلال الخلقي، فتصير ردود وتعليقات بعض القراء مجرد إسهال منتن ومتعفن! لا تخدم فكرنا المحلي في شيء، بقدر ما تسيء إلينا وإلى هويتنا وثقافتنا. إن من لا يعجبه ما يكتبه فلان أو علان، ليس مطالبا بأن يقرأ ذلك، فله أن يختار مقروءا آخر، لا سيما في زمن الإنترنت والنشر الرقمي، أما أن يشرع في الإساءة إلى الآخرين ومضايقتهم، فهذا من باب سوء الخلق، وقلة الأدب. يقول بن رشيق في كتابه المشهور (العمدة): “كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان، لأنه حماية لأعراضهم، وذبّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج”، أما نحن أهل الريف فنقوم بعكس ذلك، إذ نبغض كل من ينبغ فينا، سواء أكان كاتبا أم شاعرا أم فنانا أم سياسيا أم صحافيا، ونعاديه، ونتتبع سوءاته، ونلصق به التهم!