ماذا عن مسودات قصائد محمود درويش؟ كيف كنت تتعامل معها كشخص قريب جداً من محمود؟? كنت أرى المخطوطة الأخيرة التي تذهب لرياض الريس، مثل مخطوطة ( حالة حصار) و( في حضرة الغياب) و( أثر الفراشة)، وكان الأستاذ يطلب مني أن أصور هذه المخطوطات وكنت أرسلها أنا عبر ( ارامكس) لرياض الريس. وكان الأستاذ يحتفظ بنسخة عن المخطوطة لديه، وأتوقع انه كان يرسل معي الصورة ويبقي الأصلية لديه. لم يكن أحد على الإطلاق يرى مخطوطته الشعرية قبل أن تصبح كتاباً. وبعد صدور الكتاب كان محمود يهدي عشر نسخ تقريبا لأصحابه، وأريد هنا أن اكشف أن الأستاذ كان يكتب ثلاث نسخ من المخطوطات بمعنى ثلاث مراحل، وهذه معلومات منه، حيث وصف نفسه في حديث مع أحد أصحابه في السيارة، مرة بأنه ( نكد) في الكتابة، بمعنى انه كان يكتب مخطوطة ما، ثم يلقي بها جانباً ويبدأ في عمل آخر ثم يعود لاحقاً إلى الأولى وهكذا، ثلاث مراحل من كتابة المخطوطة: يكتب المسودة الأولى ثم يعدل عليها ثم يعدل على المعدل عليها. وهكذا تمر المخطوطة بثلاث مراحل من التعديل. في ( أثر الفراشة) كانت هناك مسودة سابقة في بيته في رام الله بعناوين مختلفة ونصوص مشطوبة، وتبين لنا أنه لم يتلف المخطوطة الثانية، هذه المسودات موجودة وتم التحفظ عليها.? ما رأيك وموقفك من طباعة ديوان محمود درويش الأخير بعد وفاته؟ لو كان أعضاء لجنة الأصدقاء الذين أشرفوا على طباعة عمل الأستاذ الأخير يعرفون كيف كان الأستاذ يكتب شعره لما أقدموا على خطوتهم التي أدت إلى هذا السجال. لقد أساءت طباعة هذا الديوان إلى الأستاذ بكل المعايير. صار هناك نقاد يقيمون شعر الأستاذ وهم لا علاقة لهم بالنقد. ألم يكونوا يعرفون أن هذه المخطوطة لم تكن جاهزة؟؟ لا أريد أن اشكك في نواياهم، اعتقد أنهم تصرفوا بحسن نية، لكنهم اخطأوا خطأ كبيرا، فلو كلف أحد النقاد الذين كان الأستاذ يثق بهم مثل الأستاذ صبحي حديدي، لما حدث ما حدث. فالمخطوطة الأصلية لم تصل لرياض الريس، بالمناسبة أنا الذي كنت أرسل مخطوطات الأستاذ إلى رياض الريس، وما زلت احتفظ بفواتير بريد ( ارامكس). الذي حدث على ما أظن أنهم اخطأوا، فقد فرغوا المخطوطة على الحاسوب ثم أرسلوها. لم يرسلوا الأصلية كما كان الأستاذ يفعل. تخيل كارثة أن يقوم أي شخص بتفريغ أشعار الأستاذ على الحاسوب؟؟ من يقوم بذلك عليه أن يكون شاعراً وإنساناً مؤتمناً وذكياً وحريصاً.? هل تستطيع أن تتخيل غضب محمود لو قدر له أن يعرف ماذا حصل لأشعاره الأخيرة؟? لم يكن الأستاذ ليسمح لأحد بأن يتدخل في عمله الشعري أبداً أبداً، كان يفصل بين عمله وحياته الاجتماعية.?* بعد رحيل الأستاذ أين أنت الآن مهنيا، وألاحظ أنك ما زلت تحتفظ بسيارة الشاعر الكبير؟? * أعمل الآن في مؤسسة محمود درويش التي تأسست بعد رحيله، وما زلت احتفظ بالسيارة، وكل شيء كان يؤمنني عليه الأستاذ ما زال معي، لأثبت لكم مجددا أن محمود درويش لم يرحل كما تعتقدون. بعد أشهر من رحيل الأستاذ انتبهت إلى أني لم أغسل السيارة، علما بأنني كنت أغسلها بشكل يومي حين يكون الأستاذ في رام الله. وقد بقيت السيارة معي بطلب من الأخ ياسر عبد ربه، حيث كنت رافضا أن أركب السيارة بعد رحيل الأستاذ، وقد أصر الأخ ياسر عبد ربه على ترك كل شيء لمحمود على حاله، حفاظا على طقوس محمود ووفاء منه إلى صديقه الأقرب إلى قلبه وبيته. ? لماذا تأخر باعتقادك بدء العمل بصرح محمود درويش حتى الآن؟? * حسب معلوماتي، واطلاعي، لكوني أعمل في المؤسسة، هناك بعض رجال الأعمال الفلسطينيين الذين تم التوجه إليهم بطلب المساهمة في إنشاء هذا الصرح الوطني الكبير، وعدوا في البدايات بمبلغ ضئيل، مقارنة برأسمالهم، وذكرت أسماؤهم في المؤتمر الصحافي، ولم يوفوا بوعودهم حتى اللحظة، وفوجئت أيضا بأن رجال أعمال فلسطينيين، لم يجلسوا في حياتهم على الإطلاق مع الأستاذ محمود قد تبرعوا من أول لحظة. إنني أغار، كمواطن فلسطيني، من رجال الأعمال اليهود في أوروبا الذين يساهمون ويتبرعون لإنشاء شارع او جامعة في إسرائيل.? كيف كانت علاقة محمود مع الأطفال؟? كان يحب الأطفال. في آخر سنواته كنت ألاحظ ميله لمداعبة الأطفال. الأستاذ إنساني للغاية، رقيق إلى أبعد الحدود، وحين هاتفته في أمريكا قبل العملية بساعات، قال لي: قبل أن تطمئن على صحتي، أخبرني هل ( حكت) ابنتك ياسمين أم ليس بعد؟ هل صارت تحب أن ترى نفسها في المرآة؟. ? ماذا عن مواقفه الوطنية هل كنت تناقشه فيها؟? كان وطنياً جداً جداً وكان يتألم لسقوط الشهداء. كنت ادخل عليه في المكتب وكنت ألاحظ الألم على وجهه وهو يتصفح الجرائد. كان يقول لي: ( تصور اليوم عشر شهداء!)، وأتذكر بوضوح مقدار ألمه وحسرته على مأساة هدى غالية. وكنت اعرف انه سيكتب عنها وكتب. أسبوع كامل وهو يتحدث معي في السيارة عن هدى، وعائلتها الشهيدة كان مسكوناً بفاجعتها إلى أبعد الحدود. ومحمد الدرة أيضا، كنت اعرف انه سيكتب عن مأساته وكتب.? كيف كانت علاقته مع أمه؟? كان يحبها جداً لكنه كان يخجل جداً منها. كنت ألاحظ ملامحه حين يحدثني عنها حين أسأله عنها. ثمة حب واحترام ومحبة في علاقته معها. تعرفت على والدة الأستاذ في أوائل سنوات عملي. كانت تزوره في رام الله اسبوعياً مع أبنائها وأحفادها. يحضرون السمك ويتغدون معه. وأحياناً كان هو يزورهم عبر مدينة جنين. في آخر سنواته حين كان يزورها، كنت أسأله عندما يعود عن صحتها، فكان يجيبني أنها بصحة ممتازة وهي تسألني عنك لحظة وصولي إليها، وأسأله: هل ما زالت تتذكرني؟ ويجيبني أنها لا تنسى شيئا وذاكرتها حديدية، وقد زرتها بعد رحيل الاستاذ، واستقبلتني بحفاوة وطلبت مني الجلوس بجانبها، وكانت تقول لي راح راح راح الحبيب.? هل أنت راض عن وجود ضريح محمود درويش في رام الله؟? وجود الضريح في رام الله يسهل على الفلسطينيين الوصول إليه. محمود رمز من رموز فلسطين وفلسطين كلها تحب أن تراه وتزوره، وقد شاهدنا جنازته الضخمة التي شارك فيها الآلاف، الأمر الذي شكل حالة استثنائية لشاعر يتم الاحتفاء به شعبياً قبل رسمياً. كنت التقي بعمال تركوا أعمالهم ليشاركوا في الجنازة. التقيت بسيدة مسنة كانت تبكي على ضريحه سألتها: هل تعرفين محمود درويش شخصياً؟?أجابت أن ابنها الشهيد كان يحبه، « ألا يكفي هذا لأبكيه»؟؟ انتهى