صدر ضمن سلسلة »عالم المعرفة« (العدد 335) كتاب من تأليف هورست أفهيلد وترجمة د. عدنان عباس علي بعنوان »اقتصاد يغدق الفقر التحول من دولة التكافل الاجتماعي إلى المجتمع المنقسم على نفسه«، وهو يشتمل بعد مقدمة المترجم والتمهيد على بابين، تندرج في الأوّل منهما وهو بعنوان »وداعا أيتها الرفاهية«، ثلاثة فصول هي: »الوهم الكبير: نمو اقتصادي جديد يخلق فرص عمل جديدة ورفاهية للجميع«. و »من يتحمل الأعباء: رأس المال أم العمل؟« و»الحلول السياسية وإشكاليات الحلول المقترحة«. وتندرج في الباب الثاني وهو بعنوان »اقتصاد عالمي غير مجد: هل نحن في حاجة إلى نظام اقتصادي عالمي آخر؟« ثلاثة فصول كذلك هي: »انعكاسات السوق العالمية الحرة على الاقتصاد الألماني« و»خصائص النظام الاقتصادي الكفيل بتحقيق الرفاهية للجميع« و»إلى أين يفضي الدرب«. يحدّد المترجم المقصود بالليبرالية المحدثة بأنه »تلك المجموعة من النظريات الاقتصادية التي ترى أن اقتصاد السوق والانفتاح الاقتصادي خير السبل لتحقيق المجتمع الحر وزيادة رفاهية شعوب العالم المنفتحة اقتصادياتها على السوق العالمية. وحسب رأي المؤلف تمر، حاليا، الدول الصناعية التقليدية بالمرحلة نفسها التي مرت بها الأرجنتين والعديد من دول أمريكا الجنوبية في مطلع العصر الصناعي والهند إبان حقبة الاستعمار البريطاني. فقد دمرت حرية التجارة العالمية الصناعة في هذه البلدان وحولتها، من ثم، إلى أفقر دول العالم. وتأسيسا على هذا المنظور يطالب المؤلف بإلحاح بضرورة التخلي عن مبادئ الفكر الليبرالي المحدث. الوهم الكبير وينطلق، في الفصل الأول »الوهم الكبير« من المعطيات الاقتصادية الكلية ويتوصل إلى نتيجة مفادها أننا إذا تجاهلنا بعض الحالات الاستثنائية، فسنلاحظ أن النمو الاقتصادي في ألمانيا قد اتخذ، منذ خمسينيات القرن العشرين، مساراً خطيا، أي أن معدلات النمو كانت تتراجع من عام إلى آخر وأن هذه المعدلات ستبلغ الصفر مستقبلا، وأبان المؤلف أن النمو الخطي لا يقتصر على ألمانيا فقط، بل ينشر ظلاله على جل الاقتصاديات الصناعية. من ناحية أخرى أقام المؤلف في هذا الفصل الدليل القاطع على أن المجتمع الألماني قد أخذ ينقسم على نفسه طيلة الحقبة الليبرالية المحدثة، وأن والتفاوت في توزيع الثروة الوطنية في تفاقم مستمر. ومع أن صافي دخول العاملين بأجر كان في ارتفاع مستمر حتى عام 1970، إلا أن الأمر الواضح هو أن ثمة تحولات جذرية باتت تنشر ظلالها على الحياة الاجتماعية؛ ففي الوقت الذي ترتفع فيه دخول المشاريع وأصحاب الثروة بمعدلات تفوق معدلات نمو الناتج القومي الاجمالي بكثير، ظلت دخول العاملين بأجر عند مستواها المعهود، أي أن النمو الاقتصادي لم يعد يترك أي أثر يذكر على نمو هذه الدخول. ويبين الفصل الثاني: »من يتحمل الأعباء: رأس المال أم العمل؟« أن الحكومات قد صارت ترمي العبء الضريبي على كاهل عنصر العمل أكثر فأكثر منذ أخذها بتطبيق المنهج الليبرالي المحدث، فإذا كانت النسبة القائمة بين الضرائب المستقطعة من الأجور والناتج القومي الإجمالي قد تضاعفت منذ عام 1970، فإن المؤلف يستنتج من البيانات الإحصائية أن النسبة القائمة بين الضرائب المستقطعة من دخول أصحاب الثروة والمشاريع قد انخفضت بمقدار 50 في المائة في الفترة الزمنية نفسها. وأسهب المؤلف، في الفصل الثالث : »الحلول السياسية وإشكالياتها« في مناقشة الإجراءات التي تتخذها، حاليا، الحكومات للتعامل مع الأزمة الاقتصادية الاجتماعية. ومن تحليله لهذه الإجراءات يستنتج أن غالبية هذه الإجراءات مضيعة للوقت، فهي عاجزة بالكامل عن حل المشاكل الهيكلية، والمعضلات الجذرية، وأنها لن تساعد على تخفيف الحيف اللاحق بالعاملين بأجر ناهيك عن أن تساعد على إلغاء هذا الحيف كليا. فالمشكلة الجذرية تكمن ، بحسب تصوراته، في السوق العالمية المحررة من القيود وفي الانفتاح الاقتصادي على هذه السوق. وراح المؤلف يعرض في الفصول الثلاثة التي يتكون منها الباب الثاني: »اقتصاد عالمي غير مجد: هل نحن بحاجة الى نظام عالمي آخر؟« العديد من الوقائع والأفكار ووجهات النظر المستقبلية. فقد تناول في الفصل الرابع زيف الزعم القائل بأن التجارة الحرة خير وسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي. فواقع الحال يفند هذا الزعم بنحو واضح. ففي حين أدى تحرير التجارة الدولية إلى نمو هذه التجارة بنحو يكاد يكون انفجاريا، إذا ما أخذنا عام 1970 كسنة أساس، نما الناتج العالمي في جل الدول الصناعية التقليدية وفق مسار خطي لاغير، أي أنه نما بمعدلات متراجعة منذ العام المذكور. على صعيد آخر، سبب تحرير التجارة الخارجية وإلغاء القيود على حركة أسواق المال الدولية فقدان العمل أهميته في الكثير من دول أوروبا الغربية، وذلك لأن رأس المال صار قادرا على الانتقال إلى ما يسمى بدول الأجور المنخفضة أو الزهيدة. وللتدليل على هذه الحقيقة، يذكر المؤلف، على سبيل المثال لا الحصر، أن القطاع الصناعي الألماني قد نقل الى خارج البلاد 2.8 مليون فرصة عمل في الفترة الواقعة بين عام 1991 وعام 2001. ويناقش المؤلف في الفصل الخامس سبل الحد من العولمة وتمكين الدولة من استعادة دورها في حماية اقتصادها الوطني، ويبرز المؤلف هاهنا دور الضرائب الجمركية في حماية الاقتصاد الوطني وأهمية وضع القيود على استيراد وتصدير البضائع والخدمات وماسوى ذلك من خطوات توجيهية، باعتبار أن هذه جمعاء تشكل عناصر مهمة وضرورية لتعزيز وإنعاش الاقتصاد الوطني عامة والطلب السلعي المحلي على وجه الخصوص. اقتصاد عالمي جديد ويلخص المؤلف في الفصل السادس: »إلى أين يفضي الدرب؟« تصوراته بشأن النظام الاقتصادي العالمي الجديد بتخطي النتائج السلبية التي أفرزتها العولمة وما نشأ عنها من بطالة جماهيرية وتفاوت في توزيع الخيرات ووهن في الأداء الحكومي وتراجع في معدلات النمو الاقتصادي وتفكك في البنية الاجتماعية. وعلى خلفية هذه التطورات السلبية لامندوحة من كسر طوق النظام الاقتصادي العالمي غيرالعادل والسعي إلى إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد إما من خلال تراجع الدول، فرادى، عن حرية التجارة الخارجية تماما كما تراجع بسمارك عن قواعدها بعد ما توحدت ألمانيا على يديه، وكما انسحبت الولاياتالمتحدةالأمريكية عن هذه القواعد بعدما شرع الرئيس روزفلت بتطبيق سياسته الاقتصادية الجديدة (new deal)، وإما بنحو جماعي، وذلك من خلال الاتفاقيات والمعاهدات الموقع عليها في رحاب »منظمة التجارة العالمية« فإنه لايحصل إلا في إطار مفاوضات تفترض توافر حد معين من القوة الاقتصادية والسياسية للدول المتفاوضة ويرى المؤلف أن إفلات دول العالم من فخ الليبرالية المحدثة لايمكن أن يتحقق على يد دولة أوروبية واحدة، بل يفترض تكاتف دول الاتحاد الأوروبي جمعاء لتحقيق هذا الهدف، فلا ألمانيا ولا فرنسا ولا أي بلد أوروبي آخر يستطيع، بمفرده، تغيير النظام الاقتصادي العالمي. بهذا المعنى ينطوي تغيير النظام الاقتصادي العالمي على طبيعة القوى التي ستهيمن على الساحة الدولية مستقبلا. ولكن ما الخاصية الجديدة التي ينبغي للاقتصاد العالمي الجديد أن يتصف بها، حسب وجهة نظر المؤلف؟ في النظام الاقتصادي الجديد لابد من التخلي عن التزام الحكومات بتقديم كل ما هو مطلوب لكي يحقق رأس المال أعلى ربح ممكن. بدلا من هذا الالتزام على الحكومات أن تتعهد ليس بتحقيق الاستقرار الاقتصادي والحيلولة دون اندلاع الأزمات الاقتصادية فحسب، بل أن تلتزم أيضا باتخاذ كل الخطوات الضرورية لرفع رفاهية المجتمع وتعزيز التكافل بين أبناء المجتمع الواحد. بالإضافة إلى هذه التعهدات والالتزامات على الحكومات أن تركز جهدها على توظيف الخيرات الاقتصادية لتخطي التفاوت الاقتصادي بين فئات المجتمع سواء على مستوى الدولة الواحدة أو على مستوى العالم أجمع. فتخطي التفاوت الاجتماعي شرط ضروري لأن يتصف عالم المستقبل بالعدالة المنشودة والسلام المطلوب. فبلا عدالة ليس ثمة سلام دائم، وبلا سلام دائم ليس ثمة رفاهية اقتصادية لأبناء المعمورة كافة وليس ثمة تنمية اقتصادية مستدامة. بدلا من تأكيد مصالح رأس المال، لابد من إعلاء شأن رفاهية القطاع الحكومي أيضا، وذلك لكي يكون بمستطاع هذا القطاع تقديم الخدمات الضرورية لأفراد المجتمع كافة والنهوض بأعباء التكافل الاجتماعي بين أبناء الدولة الواحدة وأبناء المعمورة ككل. إن هذه الأهداف لاتتحقق إلا إذا كانت هناك قواعد وترتيبات خاصة تراعي خصوصيات ومشاكل وطموحات كل إقليم من أقاليم العالم المختلفة. بهذا المعنى لا بد من أن تراعي مشاريع إصلاح النظام الاقتصادي، في المقام الأول، مدى النفع الذي تحققه اقتصاديات العالم المختلفة من انفتاحها على السوق العالمية. فهذا النفع يختلف اختلافا كبيرا من اقتصاد إلى آخر. كما أنه في تغير مستمر عبر الزمن. فما هو مصلحة البلد المعني في اليوم الحاضر، قد يكون وبالا عليه بعد حين من الزمن. ولهذا السبب لايجوز فرض الانفتاح أو الحماية التجارية على دول العالم من خلال قرارات وقواعد وترتيبات تتبع من توجهات أيديولوجية معدة مسبقا ومستنتجة من تحليل نظري ينطلق من شروط لاوجود لها في دول العالم المختلفة. إن من حق كل بلد أن يتخذ لنفسه القرار المناسب لطبيعة ومستوى تطور اقتصاده الوطني. وفي هذا السياق يسأل المؤلف عن السبب الذي يمنع الدول النامية من أن تنتهج لنفسها ذات الاستراتيجية التي طبقتها الولاياتالمتحدةالأمريكيةوألمانيا في القرن التاسع عشر ، حين انتهجت الدولتان السياسة الضرورية لحماية قطاعهما الصناعي الناشئ من مغبة المنافسة البريطانية غير المتكافئة؟ فالبلدان ماكان لهما أن يطورا القطاع الصناعي لو لم يفرض حماية فعالة تقي الصناعة الوليدة من مغبة المنافسة غير المتكافئة. وإذا كانت الحماية التجارية ستفضي، في نهاية المطاف، الى تفكك الاقتصاد العالمي كلية، فلا مراء في أن في الإمكان تلافي هذه المخاطر وذلك من خلال تأسيس تكتلات إقليمية تضم دولا بلغت المستوى نفسه من التطور الاقتصادي والمستوى التكنولوجي، ففي إطار هذا التكتل أوذاك يغدو تحرير التجارة مع الدول الشريكة بالتكتل نفعا أكيدا. إن سياسة التكتل هذه لاتساعد على تحقيق التنمية الاقتصادية المنشورة فحسب، بل هي تحقق أيضا اقتصادا عالميا عادلا الى حدما. أضف الى هذا أن التكتلات الإقليمية تسمح لدول العالم المختلفة أن تطبق المعايير الاجتماعية المنسجمة مع المستوى الاقتصادي الذي بلغته دول التكتل المعني، أعني المعايير الضرورية لصيانة حقوق الطبقة العاملة. فبالنسبة الى دول الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يتيح التراجع عن حرية التجارة الخارجية فرصة ثمينة للعودة الى مجتمع التكافل الاجتماعي والى رفع معدلات الأجور الحقيقية الآخذة بالتدني، بنحو مطرد، بفعل المنافسة الأجنبية. أما بالنسبة الى جل دول العالم الثالث، فإن التراجع عن حرية الانفتاح الاقتصادي ينطوي على فرصة مناسبة جدا لانتهاج سياسة اقتصادية ترمي الى خفض معدلات الفقر في هذه البلدان وتساعد على التخلص من هيمنة الشركات العابرة للقارات على اقتصادياتها وسياساتها الوطنية. فاستسلام الدول الوطنية لإرادة الشركات العابرة للقارات صار يشكل خطرا على إرادة الشعوب. فالدول المقيدة الإرادة لا تستطيع تمثيل إرادة شعوبها بالنحو المطلوب قطعاً. وغني عن البيان أنه لا يمكن الجزم مسبقا بالحجم الأمثل للتكتل الاقتصادي المعني، فشروط هذا الحجم تتغير مع مرور الزمن وتختلف من اقتصاد إلى آخر بكل تأكيد. ومع هذا، فإن الأمر الواضح هو أن أمريكا الشمالية والاتحاد الأوروبي سيظلان يلعبان أهم دور في هذه التكتلات بكل تأكيد. وليس ثمة شك قط في أن دول جنوب شرقي آسيا ستلعب أيضا، سواء مع الصين أو من غير الصين، دورا مهما في الاقتصاد العالمي. من ناحية أخرى فإن الهند، بمفردها، قادرة على أن تكوّن تكتلا لا يستهان به في قائمة التكتلات الاقتصادية المكونة للاقتصاد العالمي الجديد. من ثم، هناك دول أمريكا الجنوبية ودول القارة الافريقية. فهذه الدول قادرة على أن تتخذ الترتيبات الاقتصادية والسياسية الضرورية لإقامة تكتلات اقتصادية خاصة بها. تكتلات تمكنها لا من توحيد سياستها الاقتصادية حيال العالم الخارجي فقط، بل وتجعل لها، أيضا صوتا مسموعا في المحافل الاقتصادية الدولية. والعالم الإسلامي الممتد على مساحة جغرافية مهمة والقائم على أسس مشتركة عقائديا وقيميا وتاريخيا وحضاريا ورساليا يمكنه بما حباه الله تعالى من ثروات طبيعية وبشرية ومالية أن يقيم تكتله الاقتصادي الخاص بل هذا من واجب المسؤولين على حياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولا شك أن هذا التكتل سيدعم موقعه في العالم، حتى يتسنى لأبنائه تبوّأ مصاف الريادة، وتبليغ رسالته الحضارية على النحو الأفضل. ويعتقد المؤلف أن تكتل الدول المتناظرة اقتصاديا والمتشابهة اجتماعيا والمتضافرة سياسيا وتكوينه تكتلات، تتمتع بأكبر قدر من الحريات الاقتصادية داخليا وتتصف بتحكم الدولة في العلاقات الاقتصادية خارجيا، أي تتصف بقيام الإدارة السياسية للتكتل المعني بالتدخل في تحديد نمط العلاقات مع التكتلات الأخرى وبفرض الحماية التجارية مقابل هذه التكتلات، سيحد من انتقال المشاريع إلى العالم الخارجي وسيكون سورا منيعا يحول دون استمرار تدهور معدلات الأجور الحقيقية في البلدان الصناعية. ويرى المؤلف أن كل تكتل من هذه التكتلات يجب أن يكون بحجم لايعيق إدارة التكتل سياسيا ولا يحول دون انتهاج قواعد للحياة الاقتصادية تضمن تحقيق الرفاهية لمواطني الدول المشاركة كافة في التكتل المعني.