من خلال هذه الحلقات العلمية القيمة، سنجول مع الدكتور التهامي الراجي الهاشمي في حدائق القراءات القرآنية المتواترة، حيث، سيمهد للقارئ بفضل خبرته الطويلة في هذا الميدان العلمي الذي يصح أن نقول إنه حجة فيه الطريق إلى اكتشاف كنوز هذه القراءات، تاريخا، وحفظا، وأداء، وقواعد، وأسرارا. المحرر كنا تحدثنا في ختام الحلقة الأخيرة عن قراءة أبي بن كعب، رحمه الله، للآية 177 من سورة البقرة وقلنا إنه يقرأها كما يلي: «لَيْسَ الْبِرُّ بأن تُوَلُّوا وُجُوهَكُم» بزيادة حرف الجر «ب» قبل أن «تُوَلُّوا»، وأواصل، اليوم بعون الله وقوته، البحث في قراءته، رضي الله عنه، فأقول: وقرأ كذلك الآية 60 من سورة المائدة كما يلي: «قُلْ هل أنَبِّئُكم بشر من ذلك مثُوبةً عند الله من لَّعَنَهُ اللَّهُ وغضِبَ عَلَيْهِ وجعل مِنهُمُ الْقِرَدَة والخَنازيرَ وعَبَدُوا الطَّاغُوتَ أولئك شَرَّ مَكَاناً وأضَلَّ عَنْ سواء السَّبيل»؛ قرأ «وعَبَدُوا الطَّاغُوتَ» بالواو. يحسن بنا، هنا، أن نشير إلى أن في هذه العبارة القرآنية الكريمة وهي: «وعَبَدَ الطَّاغُوت» عشر قراءات، أجملها في ما يلي: 1 «وعَبُدَ الطَّاغُوتِ» بفتح العين والدال وضم الباء وكسر «الطَّاغُوتِ»، انفرد الإمام حمزة بقراءتها. وحجة الإمام حمزة في قراءته هذه، أي حين ضم الباء في قوله تعالى «عَبُدَ» وكسر التاء في قوله «الطَّاغُوت» أنه جعل «عَبُدَ» اسماً يبنى على «فعُلَ» كعَضُد، فهو بناء للمبالغة والكثرة ك «يَقُظ» ، وأصله الصفة، ونصبه ب «جَعَلَ» أي: جعل منهم عبدا للطاغوت، وأضاف «عَبُدَ» إلى «الطَّاغُوت»، فخفضه، و «جعَل» بمعنى «خلَقَ كقوله تعالى في الآية الأولى من سورة الأنعام: «الْحمدُ للَّه الَّذي «خلقَ» السَّماوَاتِ والأرض و«جَعَل» الظُّلُماتِ والنُّورَ ثُمَّ الّذينَ كَفَروا بِرَبِّهمْ يَعْدِلُونَ» . والمعنى: وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت. وليس «عَبُدَ» بجمع لأنه ليس من أبنية الجموع. هذا من جهة، وأقول من جهة أخرى: العرب تقول: (عَبْد وعبُد)، قال الشاعر أوْس بن حجر: أبَنِي لُبَيْنَى إِنَّ أُمَّكُمُ أُمَّة وإنَّ أبَاكُمُ عبُدُ قال الفراء: الباء تضمها العرب للمبالغة في المدح والذم نحو: (رجُلٌ حَذُرٌ ويقُظ) أي مبالغ في الحذر؛ فتأويل (عَبُد) أنه بلغ الغاية في طاعة الشيطان. وكذا قرأ مجاهد في وجه له ثم فسره وقال: «وخَدَمَ الطَّاغُوت». قال الزجاج: «كان اللفظ لفظ واحد يدل على الجميع كما تقول للقوم: «مِنْكُم عَبَدَ العَصَا» تريد: إن فيكم عبيد العصا. والنصب في (عَبُد) على وجهين: أحدهما على: «وجَعَلَ مِنْهُمُ عَبَدَ الطَّاغُوتِ» والثاني على الذم، أعني: «عَبُدَ الطَّاغُوتِ». 2- «وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» بفتح العين والباء والدال وفتح طاء «الطَّاغُوتَ، هذه قرأ بها القراء السبعة كلهم إلا حمزة. 3- «وعُبُدَ الطَّاغُوتِ» بضم العين والباء وفتح الدال وخفض الطَّاغُوتِ. بهذا قرأ عبد الله بن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تغلب وعلي بن صالح وشيبان. نعتقد أن هذه القراءة «عُبُدَ «هي جمع (عبيد)؛ أنشد الشاعر، فقال: أنسب العبد إلى آبائه أسود الجلد ومن قوم عُبُد وقد يجوز أن يكون «عُبُدَ» جمع (عَبْد)، كرَهْنٍ ورُهُن وسُقْف وسُقُف. وقد تكون (عُبُد) جمع (عَابِد) كبَازِل وبُزُل وشَارِف وشُرُف. يعتقد أبو الحسن أن معنى هذه الصيغة هو: خَدَمُ الطَّاغوت. 4- «وعُبَّدَ الطَّاغُوتِ» بضم العين وفتح الباء وتشديدها وفتح الدال وخفض الطاغوت. روى هذه القراءة عكرمة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. 5- «وعُبَّدَ الطَّاغُوت» بضم العين وفتح الباء وتشديدها وفتح الدال وخفض «الطَّاغُوتٍ»؛ روى هذه القراءة عكرمة عن عبد الله بن عباس. ومعلوم أن «وعُبَّدَ الطَّاغُوتِ» جمع (عابد)، ومثله (عُبَّاد)، كضارب وضُرَّبٍ وضُرَّاب، وعليه القراءتان «عُبَّدَ الطَّاغُوتِ» و«عُبَّادُ الطَّاغُوتِ»، وعليه قراءة من قرأ «وعِبَادَ الطَّاغُوتِ»، عابد وعِبَتد، كقائم وقيام وصائم وصيام، وقد يجوز أن يكون «عِبَادِ الطَّاغُوتِ جمع عَبْد، وقلما يأتي عباد مضافا إلى غير الله، أنشد سيبويه: أتوعدني بقومك يابن حجل أشاباتٍ يُخالون العِبادا يريد عبيدا لنبي آدم، ولا يجوز أن يكون في المعنى عباد الله لأن هذا ما لا يسب به أحد والناس كلهم عباد الله تعالى، وأما قول الآخر: لا والذي أنا عبد في عبادته لولا شماتة أعداءٍ ذوي إحن ما سرني أن إبلي في مباركها وأن شيئاً قضاء الله لم يكن فيحتمل أن يكون جمع عبد، إلا أنه أنثه فصار كذكارة ( ذكارة - جمع ذكر) وحجارة وقصارة، جمع قصير. ويجوز أن تكون العبادة هنا مصدرا، أي: أن عبد في طاعته. 6 - «وعُبِدَ الطَّاغوتُ« بضم العين وكسر الباء وفتح الدال ثم ضم تاء» «الطاغُوتُ». بهذا قرأ بعضهم كما قال معاذ. وبه قرأ أيضاً أبي بن كعب كما أخبرنا بذلك أبو الفتح عثمان بن جني في الصفحة 216 من الجزء الأول من محتسبه. 7 - «وعابِدَ الطاغوتِ» بفتح العين ممدودة وكسر الباء وفتح الدال مع كسر تاء «الطاغوت»، قرأ بهذا عون العقيلي وابن بريدة. أرى أنه يحسن، هنا، أن أبدي ملاحظة أعتقد أنها مفيدة للغاية في الموضوع، هذه الملاحظة هي أن أورد بالحرف الواحد ما أثبته أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي في الصفحة 530 من الجزء الثالث من تفسيره «البحر المحيط»، قال رحمه الله»: وقرأ عون العقيلي (وعابدو)، تأولها أبو عمرو على أنها «عابد» ، وهذان جمعاً سلامة أضيفا إلى الطاغوت، فبالتاء عطفاً على القردة والخنازير، وبالواو عطفاً على «من لعنه الله» أو على إضمارهم، ويحتمل قراءة عون أن يكون (عابد) مفرداً اسم جنس 8 - وعَبدوا الطاغوتَ» بالواو، قرأ بها هذه أيضا أبي بن كعب. 9 - و«عَبْدَ الطاغوت»، بإسكان الباء، بهذا قرأ الحسن في رواية. خرجه ابن عطية على أنه أراد: وعبداً منوناً، فحذف التنوين كما حذف في قوله في سورة النساء، الآية 142: «ولا ذاكرَ الله إلا قليلا». على هذا التخريج ملاحظتان اثنتان. أولاهما التعليق الذي علق به أبو حيان الغرناطي على ما قاله الإمام ابن عطية. لقد قال: «ولا وجه لهذا التخريج لأن عبداً لا يمكن أن ينصب الطاغوت إذ ليس بمصدر ولا اسم فاعل، والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفاً من (عَبدَ) بفتحها كقولهم في سلف: سلف. ثانيهما، أنا لا أعرف أحداً قرأ في سورة النساء «ولا ذاكر الله إلا قليلا»، أنا لا أعرف إلا « ولا يذكرون الله إلا قليلا»، وعدم معرفتي هذه حالت بيني وبين ما يقصده أبو حيان بهذا التعليق، إلا أنني، إن شاء الله، مواصلاً البحث في الموضوع بحوله وقوته. 10 - «وعُبِدتْ الطاغوت» بضم العين وكسر الباء وتاء ساكنة قبلها دال مفتوحة، هي مبنية للمفعول كضُرِبَتْ المرأة وبها قرأ عبد الله بن مسعود في رواية. وقرأ الصحابي الجليل أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه كذلك الآية 69 من سورة المائدة كمايلي: «إن الَّذِينَ ءَامَنُوا والذِينَ هَادُوا والصَّابيين والنصارى مَن آمنَ باللهِ واليومِ الآخرِ وعمل صالحاً فلاَ خوْفَ عليهم ولا هُمْ يحزنونَ «قرأ» والصَّابِيينَ» بياءين، شارك أبي بن كعب في هذه القراءة كل من عثمان بن عفان وعائشة وسعيد بن جبير والجحدري رضي الله عنهم جميعاً. علق على هذه القراءة اللغوي الكبير أبو الفتح عثمان بن جني، فقال في الصفحة 217 من الجزء الأول من «محتسبه» : «الخطب في هذا أيسر من الصابيون بالرفع لأن النصب على ظاهره، وإنما الرفع يحتاج إلى أن يقال: إنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى على ما يقال في هذا حتى كأنه قال: عميته ولا صَمَمْته، كما لا يقال: زكَمه الله ولا حَمَّهُ. كما قرأ أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه الآية 74 من سورة الأنعام كما يلي: «وإذ قالَ إِبراهيمُ لأَبيهِ آزَرُ أتتَّخذُ أصناماً آلِهة إِنيَ آراكَ وقَوْمَكَ في ضَلالٍ مُبين»، «قرأَ» آزرُ بضم الراء إن ابراهيم عليه الصلاة والسلام ينادي آباه «آزر». شارك أبيّاً بن كعب في هذه القراءة كل من عبد الله بن عباس والحسن ومجاهد والضحاك وابن يزيد المدني ويعقوب ورويت عن سليمان بن قَتة التيمي. أما ابن عباس فقرأ هذه الآية كمايلي: «وإذْ قال إبراهيمُ لأبيهِ أأزْراً نتخذُ أصناماً آلهةً إٍني أراكَ وقوْمَكَ في ضَلالٍ مُبينٍ» بهمزتين استفهام وينصبها وينون. وقرأ أبو إسماعيل وهو رجل من أهل الشام» وإذ قالَ إبراهيمُ لأبيهِ أئزْراً أتتخذُ أصناماً آلهة».. مكسورة الألف منونة.