قطع مشروع إصلاح نظام المقاصة أشواطا مهمة على درب تحقيق أهدافه، حيث تجري بلورة هذا المشروع وفق التزامات الحكومة المعبر عنها في البرنامج الحكومي الذي نال ثقة البرلمان في وقت سابق. والواقع أن نجاح مشروع الإصلاح مرتبط بعدد من المشاريع والبرامج الأخرى ، والتي حددتها الدراسة التي قام بها عدد من الباحثين الجامعيين المغاربة ، والتي خلصت على تقديم مجموعة من الحلول للإشكاليات المطروحة على مستوى المقاصة ، تمثلت في حوالي 44 توصية أساسية ، مع التركيز على ضرورة إعادة هيكلة السياسة الاجتماعية بشكل يتيح الوقاية من مظاهر الهشاشة وزيادة الاستثمار في القطاع الاجتماعي خدمة للفئات المعوزة. وقد باشرت الحكومة الحالية مباشرة بعد تنصيبها سنة 2008، عملية إصلاح هيكلي وشمولي لنظام المقاصة، من أجل الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين ، وقد تزامن هذا التوجه مع رصد اعتمادات مالية غير مسبوقة لمواجهة الارتفاعات المهولة التي عرفتها أسعار المواد الأساسية والأولية، وفي مقدمتها الحبوب والزيت والبترول والغاز. وارتكزت الحكومة في إصلاحها على مدخلين أساسيين يهم الأول ترشيد نفقات المقاصة من خلال حصر الغلاف المالي للمقاصة في نسبة معينة من الناتج الداخلي الإجمالي الوطني ، عبر تحسين نجاعة آليات الدعم والتقليص التدريجي للدعم الموجه إلى بعض المواد وعدم الزيادة في الأسعار ومواصلة دعم المواد النفطية و القيام بإصلاحات استراتيجية مواكبة . ويهم المدخل الثاني تحسين استهداف الدعم من خلال الاستهداف الجغرافي واستهداف المستهلكين واستهداف المهنيين . وحرصت الحكومة على أن ضمان شروط نجاح هذا الإصلاح عبر إشراك مختلف الأطراف والفاعلين من أجل تصحيح بعض المغالطات المتعلقة بالمقاصة في بلادنا ، ومنها أن جميع المواد الأساسية مدعمة ، وأن ارتفاع الأسعار ناتج عن الضرائب والرسوم الجمركية ، وأن مداخيل الضرائب على المحروقات تفوق احتياجات صندوق المقاصة ، وبالتالي الوصول حلول ومقترحات مقبولة من قبل الجميع، حيث شمل الإصلاح أربعة محاور تهم تقوية قدرات الإدارة ، وتنسيق التدخلات العمومية ذات العلاقة ، وبلورة استراتيجية تواصلية طويلة المدى ، واعتماد آليات ناجحة للتقييم المستمر لأثر الإصلاح . ، وظهرت من خلال أشواط الإصلاح أن صندوق المقاصة لا يدعم جميع المواد الأساسية ، وإنما المواد النفطية والغاز - بوطان ، والسكر وبذور عباد الشمس ، في حين أن الصندوق الوطني للحبوب والقطاني يدعم الدقيق الوطني للقمح الطري ، و أن ارتفاع الأسعار ليس ناتجا عن الضرائب والرسوم ، كما أن مداخيل الضرائب على المحروقات لا تغطي جميع نفقات المقاصة ، حيث تفيد المعطيات برسم سنة 2008 أن عائدات ضرائب المحروقات بلغت 16 مليار درهم ، في حين أن الغلاف المالي للدعم بلغ 36 مليار درهم ، وهو ما يعني أن الخصاص الذي كان يجب تغطيته وصل إلى 20 مليار درهم أي ما يعادل 56 في المائة . وكانت الحكومة بادرت إلى القيام بتشخيص نظام الدعم، حيث أظهرت النتائج وجود خمسة اختلالات كبرى تهم تعدد وتقادم النصوص القانونية والتنظيمية للموازنة ، وضعف استفادة الفئات المعوزة من الدعم ، وغياب النجاعة الاقتصادية في القطاعات المدعمة مما يؤدي إلى تشجيع اقتصاد الريع ، وضعف فعالية أجهزة المراقبة وغلاف مالي غير متحكم فيه موجه للدعم عوض الاستثمار وتحسين الخدمات الاجتماعية . وظهر أيضا الارتفاع المطرد للغلاف المالي المخصص للدعم ، وصل إلى مستوى القلق ما بين سنة 2002 و2008 ، حيث مر من خمس إلى حوالي الثلثين من ميزانية الاستثمار، ومن نسبة لا تتجاوز 0.9 في المائة إلى حوالي 5 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي . وبين التشخيص أن التركيبة الحالية لجل أسعار المواد المدعمة، تجعل الحكومة تدعم عدة متدخلين، على مستويات مختلفة، عوض دعم المستهلك مباشرةً ، فعلى سبيل المثال، إن الدقيق الوطني المدعم الذي يصل دعمه إلى 1.43 درهما للكيلوغرام لكي يصل إلى المستهلك ب 2 دراهم للكيلو غرام، يباع بأكثر من 2.50 درهما للكيلو غرام في السوق. وذلك راجع إلى دعم جميع مراحل سلسلة إنتاج وتسويق الدقيق، ويبقى السعر النهائي للبيع عند مستوى المستهلك حرا، الشيء الذي يفسح المجال للمضاربين والمتلاعبين على حساب القدرة الشرائية للفئات المعوزة. بالإضافة إلى عدم وجود إنصاف في توزيع حصص هذه المادة على المستوى الجغرافي ، حيث تبين في عدة حالات أن هناك أقاليم تستفيد من حصص مهمة من الدقيق المدعم، في حين تضم عددا محدودا من الفقراء ؛مقابل وجود أقاليم أخرى تستفيد من حصص اقل بالرغم من أنها تضم عددا كبيرا من المواطنين الفقراء الذين هم في حاجة إلى هذه المادة. كما أبرز التشخيص أن 20 في المائة من الفئات الميسورة تستفيد من 75 في المائة من دعم المواد النفطية ، بينما 20 في المائة من الفئات المعوزة تستفيد فقط من 1 في المائة منه. إضافة إلى إشكالية استعمال مادة غاز البوطان الحيوية ، التي أصبحت تستغل لأغراض غير منزلية وفي قطاعات إنتاجية. بالإضافة إلى الاختلال المتعلق بتعدد وتقادم النصوص القانونية والتنظيمية للموازنة ، والموجودة منذ سنة 1941، والتي تتوزع حول ظهائر، ومراسيم،و قرارا،و دوريات ، وهو ما يؤدي إلى تعقيد وإضعاف أداء عمليات المقاصة، ويساهم في إضعاف عمليات المراقبة، وبالتالي عدم ضبط التلاعبات والحد من المضاربات._وقد ساعد هذا التشخيص السلطات العمومية على بلورة إستراتيجية شمولية وهيكلية للتغلب على الاختلالات المذكورة ، تستهدف التحكم في الغلاف المالي للدعم؛_وتحقيق النجاعة الاقتصادية؛ وضمان الإنصاف في توزيع الدعم مع تحصين القدرة الشرائية للفئات الوسطى، وتقوية الحماية الاجتماعية._ ولتحقيق النجاعة الاقتصادية ترتكز التدابير الحكومية المعتمدة على تقوية سبل تقليص تبعية الاقتصاد الوطني للسوق الدولية، وذلك بالنهوض بالقطاعات الحيوية المحلية لضمان نسبة أكبر من الاكتفاء الذاتي ، ويندرج في هذا الإطار مخطط المغرب الأخضر والمخطط الوطني للطاقة وبرنامج رواج . ولتحقيق الإنصاف وتقوية الحماية الاجتماعية، ترتكز الإستراتيجية الحكومية على التأكد من وصول الدعم إلى الفئات المعوزة من خلال تطوير نظام خرائطي لتتبع مسار توزيع المواد المدعمة، مع تحسين الاستهداف الجغرافي خاصة بالنسبة لتوزيع الدقيق الوطني، وذلك بالاعتماد على خريطة الفقر الجديدة؛ واستهداف المهنيين ، بالنسبة لقطاع النقل عبر دراسة إمكانية التعويض عن الغازوال في إطار المنظومة الضريبية المطبقة على القطاع ،وبالنسبة لقطاع الفلاحة ، عبر دراسة إمكانية التعويض عن غاز البوطان من خلال دعم بعض تكاليف الإنتاج مثل الأسمدة . وإذا كانت بعض الأطراف دعت إلى إلغاء صندوق المقاصة ، فإن الاستراتيجية الجديدة للحكومة توجهت نحو تقوية وتأهيل القدرات التدبيرية للإدارات والمؤسسات المعنية بإصلاح نظام المقاصة؛ وتحقيق استهداف أنجع للفئات المعوزة، والعمل على حماية القدرة الشرائية للمواطنين ، من خلال مقاربة شمولية تتوخى الحفاظ على صندوق المقاصة وضمان غلاف مالي قار للموازنة من أجل دعم المواد الأساسية.