قرأت في جريدة (أخبار الأدب) التي تصدر عن مؤسسة (أخبار اليوم) في القاهرة، مقابلة صحافية أجراها رئيس تحرير الجريدة الصديق الروائي الكبير الأستاذ جمال الغيطاني في باريس، مع الكاتب الروائي المغربي الأستاذ الطاهر بن جلون، لفتني فيها قول بن جلون عن القرآن الكريم (إنني دائم القراءة في القرآن الكريم). ثم قوله : «عندما استمع إلى المشعوذين على قنوات التليفزيون، أدرك مدى الاضطراب الواقع الآن، إنني أفضل العودة إلى الأصل، إلى النصوص الموضوعية بدون تدخل. ألاحظ أن الذين يتصدون لتفسير القرآن الآن أو النصوص المقدسة، تنقص بعضهم الثقافة الدينية، كما أنهم يتجاهلون المفاهيم الرمزية. عندما نقوم بقراءة حرفية نعطي صورة عن النص المقدس ناقصة وفقيرة». ويضيف بن جلون شارحاً رؤيته إلى هذه القضية التي يتحدث فيها للمرة الأولى فيما أعلم، فيقول : «النص قابل للاجتهاد، لكن يجب أن يفهم بكيفية موضوعية وليست سياسية أو أيديولوجية، إن ذلك يعتبر هزيمة كبيرة للعقل. صار خلط بين العقلانية والشعوذة. الإسلام يجب أن يقدس ويحترم، يجب ألا يصبح وسيلة للوصول إلى الحكم، الخميني قال جملة خطيرة، الدين الإسلامي سياسي وبدونها لن يكون، هنا أقول إن الإسلام عقيدة روحية». ويسأله جمال الغيطاني عن أحد آخر كتبه التي صدرت ويتضمن حواراً مع ابنته عن الإسلام، فيقول : «الجمهور الفرنسي لديه أسئلة عديدة عن الإسلام، كثيرون يطالبونني برأيي ويريدون أجوبة عن أسئلة حول الإسلام، ما الموقف من الذين يستخدمون الدين لأسباب غير دينية، الأوروبيون يتخوفون كثيراً من تصرفات عديدة تتم باسم الإسلام، مثلاً عندما يرفض زوج أن يفحص الطبيب زوجته في المستشفى لأنه رجل، هذا أمر غير مقبول بالعقل وبالحضارة، هذا مزعج للمجتمع الأوروبي، أيضا ظاهرة الحجاب والنقاب، أجهزة الإعلام هنا قامت بنقاش واسع حول هذه الموضوعات. هذه الأشياء تزعج وتخيف الناس، النصوص الأصلية تحدد للإنسان واجباته، هذا يجعلني أتكلم لتصحيح بعض المفاهيم». ثم يسأل رئيس تحرير (أخبار الأدب) عن رد الفعل لما يقوم به من جهود في هذا المجال، فيردّ الطاهر بن جلون : «المسلمون هنا (في فرنسا) يعانون العزلة والفقر الثقافي، لم يجدوا الطعم الثقافي الذي يلبي احتياجاتهم، فيلجأون إلى العزلة، يجدون في الدين مأوى، أفضل كثيراً الروحانية والإيمان الذي يكون الشخص مقتنعاً به بدون أن يقوم بمظاهر خارج بيته». لقد توقفت طويلاً أمام هذه الفقرات التي وردت في هذه المقابلة المنشورة في العدد الأخير (الأحد 3 من يناير 2010) من جريدة (أخبار الأدب)، متأملاً، ومتعمقاً في استكناه دلالات هذه الأقوال التي لا أبالغ إذا وصفتها بأنها أقوال جديدة، ومثيرة للاهتمام، وتستحق مقاطع منها التقدير كله. فلقد سئل الكاتب المغربي الذي يكتب باللغة الفرنسية، عن قراءاته في هذه الفترة، فكان جوابه الذي لفت انتباهي : «إنني دائم القراءة في القرآن الكريم». ولا شك أنه يقصد القراءة في المصحف الشريف، وليس في ترجمة فرنسية لمعاني القرآن الكريم، لأن الرجل ابن المجتمع المغربي، ونبتة منه. ولا شك أيضاً أن المداومة على القراءة في القرآن الكريم، تنير الفكر، وتفتح آفاقاً واسعة للتأمل، وتملأ النفس سكينة وطمأنينة وتشحن القلب إيماناً ويقيناً. ولست أدري إلى أي مدى تؤثر هذه القراءة في الكاتب الطاهر بن جلون، لأن مثل هذه القراءة لابد وأن يكون لها تأثير في الفكر وفي الرؤية إلى الكون وإلى الإنسان وإلى الحياة بصورة عامة. ولست أشك أيضاً، في أن قراءة بن جلون للقرآن الكريم هي أبعد ما تكون عن (القراءة الحرفية) التي قال عنها في هذه المقابلة إنها (تعطي صورة عن النص المقدس ناقصة وفقيرة)، فالرجل مثقف كبير ومفكر بارز قبل أن يكون أديبا ًوروائياً مبدعاً. والإنسان المثقف الذي يبلغ هذا المستوى من الوعي والنضج واتساع المساحة التي يشغلها في محيطه الثقافي والأدبي، يكون أقدر من غيره على التذوق للمعاني والتعمق في المفاهيم والإدراك الواعي للدلالات والمضامين. ولذلك أجدني أميل إلى القول بأن قراءة الطاهر بن جلون للقرآن الكريم، هي قراءة تأمل، وتبصر، وتفهم، واستغراق في التفكير، لأن مؤهلات الرجل وقدراته تجعله جديراً بأن يكون قارئاً دائماً في القرآن الكريم، بعقل متفتح وقلب يقظ ونفس مطمئنة. ولقد كان الطاهر بن جلون دقيقاً حين قال : «إنني أفضل العودة إلى الأصل». وكتاب الله العزيز هو الأصل في جميع الأحوال. وحينما يقول الرجل إنه دائم القراءة في القرآن الكريم، فهذا معناه أنه دائم الرجوع إلى الأصل. أتفق تماماً مع الروائي الكبير الطاهر بن جلون في قوله إن غالبية المتحدثين في الشؤون الدينية في بعض القنوات التلفزيونية العربية، ينفرون أكثر مما يبشرون. بل إنني أذهب إلى أبعد مما ذهب إليه الرجل حين وصف هؤلاء بأنهم (مشعوذون)، فأصفهم بأنهم يسيئون إلى صورة الإسلام أبلغ الإساءة، من حيث يعلمون أو لا يعلمون. وحقاً قال بن جلون إن بعض هؤلاء (تنقصهم الثقافة الدينية). وهذه ملاحظة مهمة من الكاتب جديرة بالاعتبار؛ فالثقافة الدينية عنصر مهم في شخصية من يتصدى للحديث في وسائل الإعلام عن الدين الحنيف، والثقافة الدينية هي أولاً وقبل كل شيء، جواز المرور إلى هذه المواقع جميعاً. ولذلك فإن الأثر السلبي لهذه البرامج والأحاديث الدينية التلفزيونية التي تبثها بعض القنوات الفضائية، أثر ملحوظ ملموس. بل أستطيع أن أقول بكل ثقة، إن هذه البرامج والأحاديث، هي منبعٌ من منابع التطرف والغلو والتشدد والشطط والانحراف عن قصد السبيل. وأقدر للروائي الكبير قوله (إن الإسلام يجب أن يقدس ويحترم). فهذا رأي صائب، بل هذا واجب على كل مسلم كما لا أحتاج أن أقول. وتقديس الإسلام واحترامه، هما من الثوابت القطعية، ويكون التقديس والاحترام بالقول، وبالعمل، وبالإبداع. ولابد أن أشير هنا إلى أن الكاتب الطاهر بن جلون لم يراع هذه الثوابت في بعض أعماله الروائية. فهل آن الأوان ليراجع نفسه، بكل الشجاعة العقلية والصراحة التي عبر بهما عن أفكاره في هذه المقابلة الصحافية؟. وهل أدعوه إلى الاعتذار للقارئ العربي المسلم عن بعض ما ورد في عدد من أعماله الروائية مما يتعارض مع هذا القول وفيه مساس بالمقدسات الدينية؟. أعرف أن الطاهر بن جلون يضع نصب عينه دائماً القارئ الفرنسي، فيكتب له ما يرضيه وينال منه الإعجاب، وإن كان ذلك أحياناً على حساب ثقافة الوطن وتراثه، بل على حساب عقيدته الدينية. ومهما يكن من أمر، فإن الآراء التي عبر عنها الروائي المغربي الشهير الطاهر بن جلون في هذه المقابلة، تستحق التأمل فيها، بل تستوجب في مقاطع كثيرة منها، التقدير الذي يليق بالكاتب الكبير. وكنت أفضل لو أن الطاهر بن جلون أدلى بهذه الآراء إلى مطبوعة فرنسية، حتى يطلع عليها القارئ الفرنسي. وكنت أتمنى أن يلتزم الكاتب هذا الموقف في أحد أعماله الإبداعية، حتى يجبُّ إبداعه الجديد المشبع بهذه الآراء ما قبله. وعلى كل حال، فالرجل قال كلاماً يقدر له، مما جعلني أكبره وأحترمه. ومن باب هذا الإكبار وهذا الاحترام، أسجّل هنا هذه الملاحظات على بعض أعماله الروائية. والشكر واجب للزميل والصديق الأستاذ جمال الغيطاني الذي كان له الفضل في استخراج هذه الأقوال من الكاتب المغربي الطاهر بن جلون وإتاحة الفرصة لنا للاستمتاع بقراءتها.