بدون حشو.. يبدو أن بناء الكلام والدلالات والمجازات على رشيد الأندلسي، ليس أمرا يسيرا والكتابة عنه ليست يسيرة أيضا.. حين تتأمله يتجلى كأحد أبطال، المسافات البعيدة، وحين تنصت إليه تعيدك نبرات صوته إلى دفء المنشدين ذوي الكرامات الكبرى. وكمعرفة رياضية تجد فيه عددا لا يحصى من الأنسقة .. ولو دخل في سجال مع لوبا تشيفسكي أو ريمان أو قدماء الإغريق مثل أقليدس وفيتاغوراس وغيرهما من العلماء، لخرج منتشيا نظرا لمهارة الإقناع التي يتوفر عليها ، في مجال البناء والتشييد ،ولنال رضاهم واستحسانهم بخصوص ما ينجزه من أبراج وفضاءات.. وفي برجه الدائم، لا تجد أثرا لتلك الثقافة التي تتأسس على منطق: بضاعتنا ردت إلينا، تسجيلات موسيقية لأم كلثوم، موزار واللائحة تطول حيث تجد أسماء أخرى كصاحبة رائعة « فاين أنا وفاين انت» وبعض الأعمال التشكيلية التي اقتناها أو قدمت إليه كهدايا من بعض الفنانين الملهمين ? لا المرتزقة السطحيين- كالراحل صلادي الذي كانت تربطه برشيد علاقات ، ترقى إلى مستوى المعين والإنسان الذي يخفف عنه آلامه، ويعقد له صلحا مع شياطين الإلهام. - ذات مرة قال لي: - مات صلادي في الرباط!! لم أحاول الإكثار من الأسئلة،فاحترام الفن والفنانين مسألة لا تحتاج إلى نقاش.. لكن مع ذلك قلت في سري؛ إن حياة المبدعين من عيار صلادي ، غالبا ما تنتهي بالجنون ولا شيء غير الجنون. إن عشق الفن والكتابة عند رشيد عشق قديم،سيلازمه في كل مراحل حياته وإلى الآن.. فقد دلني على لوحة من إنجازه يعود تاريخها إلى سنوات مضت، وهي عبارة عن مشهد فلكلوري بدأ يختفي من تقاليدنا المغربية. مشهد ركوب العروسة في الهودج الذي يكون مصحوبا بكثير من الطقوس ، الشموع، الموسيقى، البارود، وتأدية بعض الأشعار والأغاني التي اختفت أو طواها النسيان. عندما أسأله لماذا الانقطاع عن الرسم..؟ لا يقدم لي أية إجابة ، إلا أنني وعلى سبيل التخييل فقط، أقول ؛ لكان مصيره غير ماهو عليه الآن. أعرف أشخاصا موهوبين غيروا مسار حياتهم إلى الأفضل أو إلى الأسوء، سؤال لا أهمية له بالنسبة للموهوبين. أثناء زيارتنا إلى مدينة أزمور، أظهر لي بالملموس رغبته في تحويل المدينة ? الخراب إلى مدينة عازمة على الاحتفاء بتاريخها المجيد ورد الاعتبار لسكانها الراغبين في التغيير. وبناء حاضر مشع ومزدهر يلحقها بمدن أقل منها أهمية. وفي أكثر من مناسبة يقارن بين أزمور الآن وأزمور التاريخ كما يستحضر مدينة أصيلة التي عرفت كيف تقرأ تاريخها وكيف تجعل من القصبات والأسوار والبحر والمقابر العتيقة ، فضاءات تستهوي أكثر من عاشق لهذه الفضاءات وغيرها.. لقد تحولت أصيلة إلى مدينة الأسئلة الصعبة. بل إلى الأسئلة التي لها علاقة بالمستقبل والعالمية. كما يقارن بين مبدعي هذه المدينة ومبدعي المدن الأخرى. فلا يجد هناك تميزا، هنا أم الربيع واستبانيكو « ملعون القارات» والعروي والهبولي والبحر.. وهناك في المدن الأخرى فضاءات وأبواب وقصبات وسلالات من المبدعين. - إذن هناك أكثر من مشترك؟ وهذا ما يؤكد رغبة رشيد وبعض أصدقائه لبناء الأمكنة وترميمها بشكل يعيد لها تاريخها المجيد. بل لتحفيز الآخرين إلى فعل الشيء نفسه . أثناء إلقاء رئيس جمعية أصدقاء أزمور الأستاذ نبيل بنعبد الله لكلمته، كان يتابع بإنصات زائد -باعتباره أحد أصدقاء أزمور - ردود أفعال الجمهور الأزموري وخصوصا المسؤولين عن شأن المدينة، لا شك أن كل البدايات تكون هكذا .. وعود تتحقق وأخرى تذهب مع الريح، لكن تجلت هذه المرة رغبة الأصدقاء في فعل المستحيل من أجل الانتقال من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل، ومن مرحلة الرماد إلى مرحلة الورد. في الطريق إلى الدارالبيضاء لم يهدأ لرشيد الخاطر رغم التعب، فشرع يفكك ويقارن بين ماضي وحاضر المدن، ناقما منتقدا متحاملا، ومرة هادئا متفائلا وسعيدا؛ غدا سوف تتبدل الأمور، المهم بدل المزيد من الجهد، هكذا هي البدايات، وما أصعب البدايات.. ؟ عند محطة الأداء قال : هذه الممرات كانت من إنجازي، هي تجربة كنت أرغب في تعميمها، فعلا تستحق التعميم، فهي تعكس ذوقا ورؤية جمالية تهدىء من روع العابرين. رشيد ذاكرة تطفح بالمشاريع وهذا ينعكس على سلوكه في العمل والبحث وحتى في المأكل والمشرب والملبس أيضا. سلوك قريب من مقولة لا إفراط ولا تفريط.. هو فقيه من فقهاء الهندسة الذي يحاول أن يقرب النص الهندسي من الحياة الدنيا.. ما ينجزه شيء ملاصق أو منخرط في عيشه، الهندسة غذاء روحي ، الهندسة تجميل ما هو وحشي، الهندسة ترميم للتاريخ المنسي، الهندسة وعي بالأهمية القصوى لجغرافية المغرب. ثمة مجموعة من الرهانات والتأملات . ويبقى الرهان الرهيب والمخيف، بناء مسرح الدارالبيضاء. وهو يستعد لذلك من خلال انجاز استراتيجية تتأسس على مجموعة من المبادئ الواضحة والصعبة. المزيد من قراءة نصوص تتعلق بالإنسان والطبيعة والثقافة والمجتمع، ثم المزيد من الدوران حول العالم ، لقراءته عن قرب، قراءة تعتمد العين والأذن والقلب . وإلى جانب مسرح الدارالبيضاء، هناك مشاريع في الوعي واللاوعي، التي يتحدث عنها بروح عالية وبلغة شديدة التواضع ، استراتيجية تتطلب تجربة تتجاوز ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون؛ يقول غوبلو GOOBLO ؛ الفرضية هي قفزة في المجهول .. لكن إذا كانت الفرضية أو الفروض المفكر فيها بإتقان نابعة من صلب الواقع الملموس، لابد أن تتحول إلى شيء منظور وجاهز . وهذا ما يزيد من حماس العلماء، الذين يرغبون في إسعاد الناس وإخراجهم من حالة الوعي المقلوب و نشر ثقافة المكان الذي يعتبره كانط kant شرطا ثانيا بعد الزمان في تأسيس المعرفة البشرية، المكان الذي احتفت به الهندسة منذ نشأتها إلى يومنا هذا.