1 «بينك وبيني الماء يجري التاريخ أيضا وعندما حدقت في عينيك تساءلت مع نفسي من منا حقا يجري هل الماء أم أنا و أنت؟» هذه ترجمة لأول نص كتبته بالألمانية، كان ذلك في فسحة ما وسط زحام معرض فرانكفورت للكتاب، وكانت وقتها لغة الضاد ضيفا على مدينة غوته العظيم. بقدر ما كان زهوا خفيفا، بقدر ما كانت الأسئلة تتزاحم في ذهني وتولد قلقا دائما أو كما قال المتنبي «على قلق كأن الريح تحتي». هل أستطيع الكتابة باللغة التي أبدع بها غوته و ريلكه، طوماس مان، وهاينريش هاينه. كانت الأسلئة تتوالد بداخلي هل تسعفني هذه اللغة ؟.. تذكرت نص فقيدنا أحمد المجاطي « تسعفني الكأس و لا تسعفني العبارة». ما السر الذي دفعني إلى كتابة نص في هذه المدينة التي لم تنل حبي ، كما هو حال المدن الصغيرة على الرغم من أنني كتبت فيها نصا قبل أن أراها، بل حتى قبل أن أفكر في السفر. «... مطار فرانكفورت هدير الطائرات قسم المستعجلات حادثة القلب القيصرية والرباط تتنفس ببطء» 2 كان السفر، ذات أحد من أيام الخريف، هل كان سفرا؟ أم هجرة؟ كنت متأكدا من أمر واحد. أنه لم يكن هروبا، ولو أنني لا ألوم أحدا عن ذلك، ربما لأن السفر أو الهجرة شكلت هوية حمائية لعدد من الأفكار، فالهجرة، هي التي حمت الأديان وحافضت عليها، حتى أن تقويمنا الزمني أخذ بعدا هجريا ، وليس غريبا أن تكون الحياة في نظر المغربي حياة مؤقتة في انتظار الهجرة الكبرى، وهكذا كان حال الكتب، هاجرت كتب ابن رشد لتحافظ على نفسها، كانت الهجرة داخلي هجرات، منها من ارتبط بالجسد والمكان من المغرب إلى الغرب وهي هجرة شمسية تزيد الميم من دفئها وهذا الحرف هو أول الحروف التي تشكل هويتي المتكسرة على ذاتها، هي بمثابة جرح للإسم الشخصي، وفي أحيان كثيرة لا تعدو لي سوى تغيير في العنوان من الدارالبيضاء إلى ألمانيا، غير أن هذا التحول أو تغيير السكن أزم علاقتي بالزمن الذي تحول من زمن ممتد مرتبط بالحوادث والكوارث، عام الجوع، رفود الملك/رجوع الملك، دقة سلغان، إلى زمن مكثف يحسب الرموش والدقائق، زمن مختصر يستغني عن الإطناب . لم تكن الرحلة تغييرا في المكان فقط بل رحلة ماجنة، تغوي الذات علها تتفتح أكثر فأكثر إيمانا بلامية الطغرائي»فإن العز في النقل» . وكانت الهجرة الثانية هجرة نصية لما لا والهجرة هي القوة الإبداعية بلسان جوليا كريستيفا في كتابها «الآخرون هم نحن أنفسنا»، هجرة من فضاء كلامي أساسه مبني في غالبيته على المقدس إلى فضاء تعبيري مغاير تماما، لكنه ليس غريبا بالكامل، كنت من قبل قد خلقت معه ألفة أو هكذا خيل لي مع بعض الأسماء في الشعر والفلسفة. لا أعرف لماذا سيطرت علي طيلة الرحلة صور الفيلم الأمريكي» حدث ذات يوم في أمريكا». وهو الفيلم الذي كنت قد شاهدته منذ سنوات خلت ضمن فعاليات نادي الرائد في الرباط. كانت هجرتي هجرات لأدع هذا النص يبوح: «مسافر ذكرياتك معطلة محطاتك استراحة الدقائق وأنت الفتى الولهان/أنا لم أزل أتحسس بتلقائية قل نظيرها ورقة التوت أعني فوطة صغيرة لرسم سينوغرافية الحب» 3 أخذت ألفتي تتطور تدريجيا مع الفضاء الجديد المكاني و اللغوي، وبدأت أوهم نفسي أنني كاتب جديد حل ضيفا على لغة جديدة، لطالما ضحكت كثيرا وأنا أحاول أن أمسك ببعض أسرارها، تذكرت زميلا في شعبة الفلسفة، الذي دخل في سجال مع أستاذنا أحمد السطاتي رحمة الله عليه حول هيغل، إذ ادعى الزميل إنه فهم هذا الفيلسوف، لكونه بدأ يقرأه بلغته الأم، من خلال زيارته لدروس اللغة الألمانية بمعهد غوته بالرباط لمدة سنتين، فأجابه سي احمد قائلا» تكايس أولدي على راسك». ومنذ ذلك الحين ونحن نلقب زميلنا بهيقل، بحرف القاف مما كان يثير غضبه كثيرا. كانت البدايات الأولى كمن يحاول القبض على ظل ما، حتى كدت أن أستسلم، لكن بدأ شيء ما يتسرب إلى الداخل كجذر ينبت في صمت يدخل في عناق مع لغاتي المتعددة التي غرفت منها في المغرب، ألسنة متعددة ومختلفة تشكل أفقا عميقا في الذات، العربي والأمازيغي، المسلم واليهودي، الأندلسي والآتي من أذغال افريقيا، مرة يأتي مسترسلا مكتوبا وآخر تتناقله الجدات. مع هذه اللغة بدأت أكتشف تخوم مملكة الظل الأخرى. إنها منبع للإيحاء الذاتي. 4 كانت مشكلتي ولا زالت مع التعريف Der Artikel ، الذي يأخذ في هذه اللغة ثلاثة أشكال عوض اثنين كما هوالحال في لغات عديدة، فإلى جانب المؤنث والمذكر هناك ما يعرف بالمحايد فالطفل والعين والعمر كلهم محايدون في لغة غونتر غراس. وهناك الكلمات الطويلة وهي خاصية تتميز بها لغة الجرمان، فما تحتاجه العديد من اللغات للتعبير عن دلالة معينة بثلاث كلمات تدغمه الألمانية في كلمة واحدة، تأخذ تعريف الكلمة الأخيرة، فتجد مثلا وزارة الثقافة الإتحادية في كلمة واحدة. اللغة الألمانية لغة دينامية وليست تابثة تعطيك صور وتراكيب من الصعب أن تجد بعضها في اللغة العربية، غير أن العديد منها موجود في اللغة المغربية. خصائص اللغة الألمانية تفرض تعاملا خاصا مع اللغة العربية، و يظهر هذا التعامل أكثر في الترجمة، حيث هناك أعمال عديدة سلكت إلى اللغة الأخرى، غير أن هذا المرور كلفها العديد من الصفحات. وهنا يطرح سؤال جوهري عن عمق الكتابة، هل هي كتابة باللغة أم بالصور؟. 5 كتابة الهجرة Migrationliteratur، كتابة العمال الضيوف Gastarbeiterliteratur ،كتابةالأجانبAusländerliteratur ، هذه هي الصفات التي أطلقتها الصحافة والنقاد على كتابات هؤلاء الذين بدأوا يكتبون منذ عقود خلت في ألمانيا،ولم تكن دائما تصنيفات بريئة، وهي كتابة مختلفة على كل حال غير أنها لا تقل أهمية. لم تكن البداية يسيرة بل شهدت صداما ذكرني بمقطع لأغنية برازيلية إسمها Bamos a la playa تقول: «من اعلى مكان في حينا نستطيع أن نرى جيدا ما يجري في ساحلكم إننا نعشق الكل، ونريد المزيد من القمة إلى الميناء أكثر من قطرة لون جيدة نريد أن نكون حيث أنتم نريد مكانا على ساحلكم سنرُج قريتكم الآن سنحتل ساحلكم». كتاب من جذور مهاجرة بدأت تعبر عن ذاتها بأشكال كتابية مختلفة، ومغاربة طبعا قليلون لكنهم قادمون، أسماء منها أعرفها وأخرى قرأت عليها، وأفشيكم سرا كان قد أفشاه لي العم غوغل وهو أن أول نص ألماني لكاتب من أصول عربية، هو لكاتب مغربي اسمه مصطفى الحجاج بعنوان « من القرد الذي يبحث عن تأشيرة». فسواء ادريس الجاي الذي يضفي على ثراثنا الشفوي بعدا آخر عبر الترجمة، أو عبد اللطيف بلفلاح القادم من عمق أسفي، أو عبد اللطيف يوسفي الذي أثار الإنتباه له من خلال أعماله القصصية، أو رشيد بوطيب الروائي الغارق في سلاسة الفلاسفة، كلهم كتاب و لا أدعي أنها الأسماء الوحيدة، كلهم يكتبون بأناقة كبيرة. لعبد اللطيف يوسفي قصة تحمل إسما مستفزا» سأتزوج كلبا» وهي تنقل تفاصيل اليومي لأسرة طنجاوية مهاجرة في صراع مرير مع الأخر القيمي والإنساني، وما الكلب هنا إلا استعارة للإسم الذي يطلقه مغاربة فرانكفورت على الألمان. أما رواية رشيد بوطيب» موت» فهي تقارب تيمة الهجرة والحب من زوايا مختلفة، حيث يقترح اعادة ترتيب السلط الرمزية والثقافية. وتتميز الرواية بحضور قوي لابن حزم الأندلسي. إنها رواية تجعل الموت شعريا من خلال تقابلات عديدة، فالموت في نظر بوطيب هو قمة الديموقراطية. إنها كتابة مغربية لم يلصق بها الآخر سوى طابع البريد. 6 كان لزاما علي أن أعيد ترتيب بعض جزئيات الكتابة، فمن خلال النصوص التي تسربت إلى شغبي، بدأت أدرك أن المشهد الثقافي الألماني نفسه يمشي في طريق سيار، من جهة هناك أدب الكاوتش أو الصالون إن شئتم، وأدب آخر مجاني يحمل لقب أدب البوب، وهي كتابات قاسية من الذات وإليها تحتفي بالجزئيات و لا يهمها مصير العالم. لا أخفيكم سرا أحسست بانتماء مباشر إليه، عالم من الكتابة يغوص في عوالم الهنا والآن. إن الكتابة بالنسبة لي كتابة أنانية ذاتية تستحضر النحن الجماعية وتدخل معها في تماس يكون برزخيا في أغلبه، يتقاطع معه الشرق والغرب في سفر دائم»من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون» أو تيمنا بنداء شيلر» كونو متعانقين، أيها الملايين». الشرق والغرب يتقابلان يتعانقان يتخاصمان ويقف المغرب بينهما حائرا قلقا. إنها ليست «كتابة بلغتين بل تحدث بلسانين» على حد تعبير الشاعر العظيم باول تسيلان. الكتابة هي طريق النجاة وليسمح لي نيتشه بهذا التحوير» نملك الكتابة كي لا نهلك في الحياة» وفي الأخير أذع هذا النص الذي يحتفي بخط الهاتف الساخن بين أيديكم دورة الحياة إلى ما لا نهاية 0190 «آلة الغسيل الساعة الحائطية قنينة الغاز تطبخ النهار على إيقاع الوقت،الذي يتأوه على رأس كل ساعة. وحدها الأخبار تنقل لنا عورات الكرة الأرضية. والرجل يطل علي من مقلاة طيفال بربطة عنق ونظارات ريبان.طنجرة الضغط تتحكم في مجاري المياه، التي تحولت فجأة الى مخابئ صغيرة لرياضة السيكس. بين الفينة والأخرى تهجم الجارة على الموبايل، وبسرعة الميكروفيلة، ينهي الجسد تمارينه في انتظار وجبة قادمة.» * ألقيت هذه المداخلة في ندوة «الابداع و الهجرة» التي نظمها اتحاد كتاب المغرب في يناير 2007