افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 21 مارس 2024 مع كل هذا الشَّر الذي يَرِين حِداداً على العالم، لا أعرف هل ما زال ثمة جدوى من الشِّعْر، أكاد أجزم مع سِيادة التعسُّف والطغيان الماحق كل يوم للإنسان، أن الشِّعر فشل في لعب ذلك الدور المتعلِّق بالمشاعر الآدمية، هل حقا نعيش على هذا الكوكب مع بشر من بني جلدتنا أو عظمتنا، كيف وثمة آلة قتل تودي دون هوادة، بعشرات الآلاف من الأبرياء، أين الشِّعْر في هذا السلوك الهمجي، يُخيَّلُ إليَّ أنه انكفأ يُضمِّدُ في الذوات المريضة جراح النرجس، فنسي دوره في الأرض واهماً أنه وحيٌ من السماء ! ما جدوى اليوم العالمي للشعر، إذا لم يُعِد ترتيب الزمن بروزنامة خارج مدار الشر، كالتي وأدت تحت الأنقاض كل أيام ضحايا الحروب، ومع ذلك لا نملك كما في ليلٍ طويلٍ، إلا أن توقظنا أمهات الأفكار الراقدة بدورها في بطون الكتب، لنذهب مُبكِّراً و لو في أرذل التخلف، إلى المدرسة من جديد كي نُعيد استظهار بأعين مُغمضةٍ وعن ظهر قلب لا أعتقده ما زال حيّاً يُرزق في جوفنا، بعض دروس الحُرِّية التي تلقّاها مناضلو هذا البلد بمنطق الرصاص عُراة الصُّدور، حتى تحوَّل الجمر الذي احترقوا بعذاباته من السجون إلى المنون في أيادينا نحن جيل اليوم، زهراً يانعاً بالمكتسبات الديمقراطية و الحقوقية لبُرهةٍ من الربيع أدركه الخريف سريعاً، لنعود إلى رجْعيتنا في التفكير بالضَّرب المُوجع حديداً لحرية الكلمة بكل مُشتقّاتها التي تعوَّدنا أن نرضعها من ثدي أمنا الوطن قبل أن يمتزج السُّم في الحليب، و كأننا لا نعرف أن نعيش كل غدٍ إلا في كابوس أمسنا، فماذا تُجدي الشِّعْرَ أو الإعلام أو أي كتابةٍ ننزفها حبراً من أوردة ضمائرنا، أقلامٌ مغلولةٌ إلى الأعناق ولا تكتبُ سطراً إلا بعد أن تمحو الذي سبقهُ خوف أن تشي الكلمةُ بالكلمة! ما جدوى الشعر في عالم يبدع أقصر الأسطر للشر، ألم تَرَ كيف تُشيَّعُ الكلمة الحُرَّة في العالم العربي في أبشع الجنائز، وما زال القبر طويلا في مُحاكماتٍ الإعلاميين الأشراف وجَلْدِ وإعدام الشعراء الذين لا ذنْبَ اقترفوا قصيدتهُ، سوى أنهم كانوا إنسانيين بأرواحٍ مُضاعفةٍ أكثر من بعض الإنسان، ومع ذلك لن أنسى وأنا أعيشُ حاضري حُلُماً في القصيدة، تاريخاً صنعهُ رجالاتٌ أفذاذٌ على هذه الأرض التي نتوقُ أن لا تُخطىء في دوْرتها حول نفسها كل الفصول، عسى يُدركُ شِعْرَنَا بعضُ الربيع، سنقول مع الأمل شِعْراً جميلاً، وأعلم أن بعض الأمل يستدعي أن نردِّد مع الشاعر الجاهلي "تميم بن مقبل": لو أن الفتى حجر! تُرى هل بقي في أنفسنا مع كل هذا القبح بعضُ الشعر الجميل، بل أنَّى له أن يبقى، ألم تَرَ حين ننادي للحياة عبر سِياقٍ أو ساق في القصيدة، ينبري من يُشْهِرُ معولا ليقتفي في حَفْرهِ الوادي، ليس الذي يسقي الحقول، إنما ذلك الوادي في لوح اجتماعي أشبه بشطرنج، يا للهول حتى الشاعر انخرط في الصراع على مربع ضيق، فماذا يفيد أن تصيب الربح في الجيب وتخسر القلب ! ألم أقل ما جدوى الشِّعر في عالم يسوده الشر، كيف لا وما ذلك المربع سوى مجتمع ضاق بعد أن انحصرت منابع خيراته في جيوب قِلَّةٍ من الإحتكاريين، أما كان أجدر لتَجْري المياه بصفاء، أن يرشُّوا ببعض البياض السواد الأعتم، و مازال الوادي الذي في رقعة الشطرنج ساريا بحَفْره في عروق الناس، يجتثَّ كل كلمة تريد هامشاً صغيراً من الحُرية كي تقول كلمتها، لكن عبثا والبيادق ما فتئت تنمو أسواراً عالية، وهاهي استفحلت في الفساد الذي يليه تقاعد مريح، وأصبحت تتصدَّرُ في تخندُقها النَّفْعي الصفوف الأولى وتنفخنا جميعاً للريح! لن أنتهي كما بدأت، فقط أحتاج إلى أن أرفع عاليا هذا النداء: فيا أيها الشُّعراء لقد توقّف الأنبياء عن النزول من السماء، فكونوا كلمة العدل والمساواة والجمال، عسى بالشِّعر يتبدَّدُ بعض الشّر!