الليل شراعها المبحر صوب مرافئ الشعر والصمت مدادها الذي به تهزم بياض الورق بميعاد صنعه الشعر تم تعارفنا و بتوقيت أنتجه الإبداع تم لقاؤنا. في التعارف الأول وكان في حديقة دار الصنائع بتطوان ، أدركت أنني إزاء شاعرة تتنفس الكلمات. وفي اللقاء التالي، وكان في مقهى « كفاليا» بطنجة، شعرتني في حضرة مبدعة يعيشها الشعر. عندما استمتعت لها، وهي تتدفق بالقصيدة قلت : هذه امرأة لا تقول الشعر بل يقولها الشعر. فهي لم تكن تقرأ قصائدها، بقدر ما كانت ترتل آيات من سحر كلامها في محراب الجمال. صوتها الذي كان يجهر بخوالج الإحساس بدا لي أغنية تتحرك لها أوتار مسمع و تذهب بي كل المذاهب. شعورها الذي كان يشرب داخل الكلمات، تراءى لي قصيدة موازية تهز الأعطاف وتخلخل السواكن وتستقر في منطقة الإعجاب. إنشادها الذي يخلق في حياة قصيدتها كل الحيوات تبدي إزاء تفاعلي سمفونية تستفز في كفيك، أنت المستمع المحظوظ كل قدرتهما على التصفيق الحار الممتن. أما مضمونها الشعري الذي به أشرقت قصائدها بضياء المعاني وسلسبيل القوافي، فقد كان محوره صمت أبلغ من الكلام يترنم في أوجاع الصمت. من أول وهلة في تعارفنا، لم أشك لحظة واحدة أنني في حضرة مبدعة تزخر بسيماء الشعر. و في حضرة شعر يزخر بسيماء مبدعة. لم؟ و كيف؟ - هل لأنني شممت في كلامها رائحة الشعر النفاذة وهي تعطر أجواء حديثنا العابر و المقيم معا ؟ - هل لأنني رأيت في أناقة هندامها أناقة اللغة الشعرية باعتبار أن الشعر جميل يتعشق كل جميل؟ - هل لأن حيويتها المنظورة لكل العيان هي فرع من حيوية القصيد وحضورها غصن في دوحة الكلام المعتق؟ لا أملك إجابة. فقط أتوفر على يقين مفاده: لا يمكن أن تكون هذه المرأة التي تخطف الانتباه إلى ما تتقلده من جواهر الكلام إلا واحدة من الثلاث: إما أنها خلقت شاعرة و تلك منّة من السماء، أو أنها حولت الأنثى فيها إلى شاعرة وذلك فضل من الموهبة، أو أنها في منتصف الطريق إلى الشعر وتلك إرادة لا مفر من أن تؤول بها إلى رأس المسير. بالنسبة إلي وبمجرد استماعي إلى أطايب أشعارها: وجدت الشعر وعثرت على الشاعرة في آن واحد. تأتيها القصيدة على ميعاد. وحده الليل المشروخ بالصمت من يستفز فيها شهوة الكتابة. ويطلق في دواخلها عصافير الشعر فتطلق العنان للإيقاع، وهي تهب زمام الوقت للكلام وتنتصر للجمال. الليل شراعها المبحر صوب مرافئ الشعر. والصمت مدادها الذي به تهزم بياض الورق. وهما معا منبع صرختها الإبداعية «وحدي وأنا». ذات مفاجأة ندية، ذهبت كلماتها المتراقصة إلى القاهرة، وهي ترفرف بجناحي الذات المبدعة، ثم عادت إلى طنجة، وهي مضمومة في باقة مختلفة الألوان والعطور مرسومة بعنوان» صراخ الصمت». هكذا عرفنا أن صمت الأنثى هو كلام جهير. وأن كلام الشاعرة هو صمت علني. هكذا علمنا أن الشاعرة حين تقول لنا: «أمن الضروري أن أكون شاعرة لأخط دستوري؟ « نقول لها: « من الضروري أن تكوني مبدعة لتخط إعجابنا على الورق». أينعت مشاتل إبداعها داخل حقل الكتابة، مذ كانت في ريعان الدهشة. نشأت في بيت يتوارث الخشوع أمام «البردة» وشقيقتها «الهمزية» وأينع شعورها بالكلام وهي محاطة بأمداح الحضرة البقالية. ولآلئ الآلة الأندلسية. فتشبّعت أذنها بفارع الإيقاعات وارتوى قلبها من ينابيع الحرف المؤثل. وأخذت بمجامع هذا وذاك، فاستقر شروق الشعر في جوانحها رافضا أي مغيب. ما بين «ما حك جلدك مثل ظفرك» نصها الأول بالعربية (1986) و « هذيان « مفتتح تفجر ينبوع شعرها (2011): سنوات من البياض، كان بمثابة المحرك لتدفق جاد علينا بأجمل القصائد. بعده أبت الشاعرة إلا أن تضع « عصمتها « بين يدي الكلام وأوفت بما عاهدت الشعر عليه . إذا كان الشعر عندها» ترمومترا» تقيس به درجة حرارة الروح، فإن الحرية عندها قيمة بها تقاس درجة الاعتداد بالنفس. والشعر هو شقيق الحرية، والحرية هي دم القصيدة. في ديوان « صراخ الصمت « نحن إزاء شعر يعبد الحرية، وإزاء حرية تعشق الشعر.الحرية هنا تتخذ شكل قصيدة. والشعر هنا يلبس لبوس الحرية. لذلك تبدو لي عبارة الشاعرة: «لا تقيد حريتي» هي المفتاح الذي يشرع الأبواب نحو العوالم الشعرية لهذه المبدعة التي لا تساوم على الشعر و لا تبايع إلا الحرية. لا تقطف زهور الشعر من حدائق غيرها. فلها في حديقتها الخاصة ما يكفي من زهور، تتركها حتى تينع على مهل، لتهدينا إياها بين إعجاب وآخر. فنستنشق في عطرها أريج الشعر، وتستنشق في عيوننا فوح الفرح بشعر لا ينتهي رحيقه ويظل فينا طويلا. لذلك هي تكتب ذاتها بحبرها الخاص. لا يعنيها سوى أن يرضى عنها الشعر.إنها تكتب لمن يعشق الكلام. أما الذين حرمتهم الحياة من تذوق صراخ الصراخ. فهي لا تضعهم في حسبان ما تكتبه. المبدع يخلق ألف ناقد، والناقد لا يخلق مبدعا واحدا.هذا شعارها في درب الشعر ترفعه في وجه كل من تنفخ أوداجه بالغرور الجاهل. هي بسيطة الماء. فإذا مسّت في كبريائها الشعري تحولت إلى إعصار. و تلك صفة شاعرة تدرك أن صيانة قوة كلماتها تبدأ بصيانة قوة شخصيتها. فهل أدركتم من هي؟ أجل لقد عرفتموها... إنها بهيجة البقالي القاسمي. * ناقد مغربي -هامش: ألقيت هذه الشهادة في حفل قراءة وتوقيع ديوان «صراخ الصمت» للشاعرة بهيجة البقالي القاسمي، الذي أقيم بمندوبية الثقافة بطنجة يوم الأحد 18 نونبر الجاري، خلال فعاليات المعرض الجهوي للكتاب.