احتجاج أمام "أفانتي" في المحمدية    جلسة حوارية "ناعمة" تتصفح كتاب "الحرية النسائية" للمؤرخ بوتشيش    برشلونة يحرز لقب كأس إسبانيا    "لبؤات الفوتسال" يواجهن أنغولا    حقيقة قتل "سفاح ابن أحمد" لطفلة    "المرأة البامبارية" تُبرز قهر تندوف    المديني: روايتي الجديدة مجنونة .. فرانسيس بابا المُبادين في غزة    فوزي لقجع نائب أول لرئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم    توقيف شخص بتهمة الوشاية الكاذبة حول جريمة قتل وهمية    الأمن يصيب جانحا بالرصاص بالسمارة    بنكيران يتجنب التعليق على حرمان وفد "حماس" من "التأشيرة" لحضور مؤتمر حزبه    الدوري الماسي: البقالي يحل ثانيا في سباق 3000 متر موانع خلال ملتقى شيامن بالصين    قتلى في انفجار بميناء جنوب إيران    مخيمات تندوف تغرق في الفوضى تحت أنظار الجزائر    الكرفطي ينتقد مكتب اتحاد طنجة: بدل تصحيح الأخطاء.. لاحقوني بالشكايات!    المباراة الوطنية الخامسة عشر لجودة زيت الزيتون البكر الممتازة للموسم الفلاحي 2024/2025    الكلية متعددة التخصصات بالناظورتحتضن يوما دراسيا حول الذكاء الاصطناعي    أدوار جزيئات "المسلات" تبقى مجهولة في جسم الإنسان    أخنوش يمثل أمير المؤمنين جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    مناظرة جهوية بأكادير لتشجيع رياضي حضاري    تتويج 9 صحفيين بالجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    العثور على جثة بشاطئ العرائش يُرجح أنها للتلميذ المختفي    جديد نصر مكري يكشف عن مرحلة إبداعية جديدة في مسيرته الفنية    بواشنطن.. فتاح تبرز جاذبية المغرب كقطب يربط بين إفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    المغرب يرسّخ مكانته كمركز صناعي إفريقي ويستعد لبناء أكبر حوض لبناء السفن في القارة    جيدو المغرب ينال ميداليات بأبيدجان    إطلاق مشروعي المجزرة النموذجية وسوق الجملة الإقليمي بإقليم العرائش    مؤتمر "البيجيدي" ببوزنيقة .. قياديان فلسطينيان يشكران المغرب على الدعم    برهوم: الشعب المغربي أكد أنه لا يباع ولا يشترى وأن ضميره حي ومواقفه ثابتة من القضية الفلسطينية    بدء مراسم جنازة البابا في الفاتيكان    البشر يواظبون على مضغ العلكة منذ قرابة 10 آلاف سنة    تصفية حسابات للسيطرة على "موانئ المخدرات" ببني شيكر.. والدرك يفتح تحقيقات معمقة    من تندرارة إلى الناظور.. الجهة الشرقية في قلب خارطة طريق الغاز بالمغرب    هولندا.. تحقيقات حكومية تثير استياء المسلمين بسبب جمع بيانات سرية    شبكات إجرامية تستغل قاصرين مغاربة في بلجيكا عبر تطبيقات مشفرة    تتويج الفائزين في مباريات أحسن رؤوس الماشية ضمن فعاليات المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب 2025    كرانس مونتانا: كونفدرالية دول الساحل تشيد بالدعم الثابت للمغرب تحت قيادة الملك محمد السادس    ماذا يحدث في بن أحمد؟ جريمة جديدة تثير الرعب وسط الساكنة    بدء مراسم تشييع البابا فرنسيس في الفاتيكان    اعتذار على ورق الزبدة .. أبيدار تمد يدها لبنكيران وسط عاصفة أزمة مالية    ولاية أمن الدار البيضاء توضح حقيقة فيديو أربعة تلاميذ مصحوب بتعليقات غير صحيحة    المرتبة 123 عالميا.. الرباط تتعثر في سباق المدن الذكية تحت وطأة أزمة السكن    المعرض الدولي للنشر والكتاب يستعرض تجربة محمد بنطلحة الشعرية    الصين تخصص 6,54 مليار دولار لدعم مشاريع الحفاظ على المياه    الهلال السعودي يبلغ نصف نهائي نخبة آسيا    وثائق سرية تكشف تورط البوليساريو في حرب سوريا بتنسيق إيراني جزائري    الجهات تبصِم "سيام 2025" .. منتجات مجالية تعكس تنوّع الفلاحة المغربية    العالم والخبير في علم المناعة منصف السلاوي يقدم بالرباط سيرته الذاتية "الأفق المفتوح.. مسار حياة"    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    متدخلون: الفن والإبداع آخر حصن أمام انهيار الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب    الرباط …توقيع ديوان مدن الأحلام للشاعر بوشعيب خلدون بالمعرض الدولي النشر والكتاب    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعري والتيمي
في ديوان "حدائق زارا"* للشاعر رشيد الخديري
نشر في طنجة الأدبية يوم 27 - 08 - 2009


على سبيل البدء:
لن نردّد مع النقاد "إن الشعر ديوان العرب " ونقف؛ لأن الزمنَ ليس هو الزمن والشعرَ ليس هو الشعر، ولن نتردّد في القول مع زيد الشهيد، الكاتب العراقي إنه - الشعر- "نقيضُ الافتراضات سليلُ الافتراقات؛ ابنُ الهَتْكِ الجَمُوحِ لسُلالة اليومي الطائع، وفاتكُ رَفْلِ الواقع. لا يقتفي خطو الرضا، ولا يجامع فتاة الهُمُود .. في صميمه يستكين لهيبُ المنطق، وفي ثناياه تتناسلُ جذوةُ النُّطق .. إنه النَّظْمُ الذي يختزل عُصارةَ الروح ويكتنفُها؛ حتى ليغدوَ برهافةِ نسمةٍ هاربةٍ من كف السحر، أو خفقِ جناحِ فراشة نَزِقَةٍ أطلقتها ضحكةُ جدولٍ بهيج، أو آهةٍ متموجة حررها فمٌ علَّلهُ الظمأُ أو نبضةٍ يقولها قلبٌ أضرمته نيرانُ هجرٍ" (1).
في صميمِ هذا السَّيل الدّافق في محراب الشعر يظهر مدى السعي الحثيث الذي سعى ويسعى من خلاله الشعراءُ المحدثون تحقيق توازن ذاتي، بهدف خلق دينامكية جديدةٍ في روحِ وجسدِ القصيدةِ .. الأمرُ الذي لا يعني التنصُّلَ كليّاً من ثدي قصيدةٍ رضَعنا منها جميعاً، أو بتعبير شاعرنا رشيد الخديري "كل شاعر حديث يسكنه شاعر قديم" (2)، وعلمنا طبعاً أن "طرفة بن العبد" هو مَنْ سَحَرَ صاحبَنا، بدافع التشابه في المعاناة المعاشة بحسْبِ قول الكاتب أحمد شكر.
أولاً: النصوص الموازية:
تبقى النصوص الموازية بناءً على النظريات الغربية أرضياتٍ خصبةً للتفكيك والتحليل ثم التوليد، لكننا نحن نبغي من وراء نظرتنا كشفَ العلائقِ والخيوطِ التي تجعل منها وحدةً متراصّةً تحفظ للديوان انسجامَهُ وتكامُلَهُ.
يبدو العنوانُ وهو المشكَّلُ من كلمتين رابطاً يوحي بنوعٍ من التّساكن والاحتماء؛ إن لم نقل التماهي .. وقد نعكسُ ذلك إذا ما نظرنا صيغةَ الجمع "حدائق"، ومن ثَمَّ يبدو بعدُ التِّيه حاضراً .. مقاربةٌ تجسدها الصورة إلى أبعد الحدود، فملامحُ مكوناتها تغرقُ في الغموض والتلاشي، ولَعَمري إنها أبعادُ تتماهى والمنطلقاتِ التي تشكل مادة خام لنصوص المبدع الشاعر رشيد الخديري، أما حكايةُ الألوان فجديرٌ بها أن توحي للقارئ استشرافَ الممكنِ في عالم اللا إمكان؛ وإنْ في فضاءاتِ التموّجِ.
عنوانُ "حدائق زارا" يحتمي كذلك وراءَ علامةٍ دالةٍ على معطيَيْنِ: مكاني ورمزي، هذا وإنّ اختيارَه عوضَ العناوين الأخرى تُبرزُهُ عدةُ افتراضاتٍ، أهمها -حسْبَ اعتقادنا- قوّتُهُ الدِّلاليةُ؛ التي تذهب إلى حدّ تشكيل تساوُقٍ بين المكونات التالية:
حدائقُ = قصائد
زارا = الشاعر
في الوقت الذي نتحسّسُ مدى المخاضِ الذي مرَّ منه الشاعر رشيد الخديري - لربما - أمام هكذا اختيار، كيف لا و "الشاعر الحديث عادة ما يصطدم بتمنّع عوالم يبنيها انطلاقاً من لغة تعبيرية محتَجبة في دِلالاتها ومتحوّلة في معانيها ومتداخلة في مقاصدها. بذلك يواجه سؤالَ العنوان مواجهةً ليست أقل صعوبة من مواجهته لسؤال الإبداعية ذاتها وهي تعاندُهُ وتراوغهُ قبل أن تسمح له بولوج بعض منافذها في لحْظات سديمية غامضة" (3).
طباق من حجر/ أقل من الجنون/ قطة/ حدائق زارا/ وصايا الشمس/ مقامات الذوبان/ أفعى الحكمة/ ضفاف المحو/ سوناتا الجذب/ غيم ومرايا/ مقام العشق، بهذا الترتيب تشكّلت قصائدُ الديوان، تركيباً تجمع بينها الصيغةُ الخبريةُ، فالخديري صاحبُها خبيرٌ بها، مُخبِرُنا عنها، ثم إنها مضافةٌ إذا ما استثنينا البُعيض منها (أربع قصائد)، وكلُّها تَنشُدُ تمام المعنى إذا ما أزلنا عنوان "قطة"، العنوانُ المكثفُ دِلالةً كنصّهِ:
لا تلمسي جبهة التّل
على الأقل
أنتِ قطةٌ وهو تل (4)
أما بُعدُها الدّلالي فنراه لصيقاً بذاتية الشاعر في علاقتها بالنص اللاحق؛ إذا ما سلّمنا مع الشاعر عبد الهادي روضي أن المجموعة تشكل مرتعاً لانكتاب الذات الشاعرة، ضمن قراءته "كتابة الذات في مجموعة" حدائق زارا" الشعرية - ثنائية النفي والإثبات/ الجزء الأول.
كلُّ هذا وغيرُهُ مما قد يشكل افتراضاتٍ تَزْعُمُ تِبيانَ الخيوطِ التي تنسُجُ علائقَ بين العناوين لا يعدو كونُهُ جانباً من جوانبِ دراسة العنوان الشعري من خلال تحديد حدوده وتمفصلاته (5)، لكن يبقى أن "الباحث ليس مطالباً بأن يدرس أبعاد العنوان مجتمعةً؛ إذ له أن يركز على ما يراه منها أكثر تمثيلاً للمقاصد التي يريد أن يحققها في تحليله أو على تلك التي يرى أن النص بعنوانه أكثر تركيزاً عليها" (6).
بعدَ نصَّي وجه الديوان (العنوان والصورة)، وقبل التوقف عند الإهداء باعتباره حسْبَ بعض النقاد نصّاً موازياً، نشير إلى مسألة تجنيس النص بورود كلمة "شعر" أسفل الصورة، هذا وقد أَظْهَرَ الوجهُ أيضاً اسم مالك الحدائق رشيد الخديري.
الإهداءُ (= إلى امرأة من برج الشمس)، على غرار العنوان يكشف بُعدَ التقابل؛ هذا الذي نظنهُ التيمةَ الرئيسةَ في ديوان صاحبنا، فالمرأةُ التي من برج الشمس تفيد التحديد كما تعني التعدد؛ فلأنها من برجٍ محدّدٍ فالشاعر يعرفها، ولأن البُرجَ عند المنجّمين مِقْصَلةٌ تضم كثيراً من المنخرطين تظل مجهولةً؛ إنها الحقيقة والوهم، المعرفةُ والجهلُ، هذا ويجوز القولُ؛ إنه إهداءٌ لامرأةٍ غير موجودة، ينشُدُ الشاعر ولادتها، وَلِمَ لا تكون أيضاً القصيدة لجامع الأنثوية ..!، قصيدةٌ يُهدي إليها الديوانَ؛ لأنه لم يكتبها.
ثانياً: المحكي الشعري وتيمةُ التقابل:
أولاً؛ لأننا نؤمن بعدم جدوى الحديث عن الفصل بين اللفظ والمعنى، وهي ظاهرةٌ جرجانيةٌ (7) أتت تتويجاً لاختلاف ابستيمولوجي في كل أطياف العلوم؛ من فقهٍ، لغةٍ، علمِ كلامٍ وفلسفةٍ، فإننا سننظرُ إلى البُعْدَيْنِ معاً وهما متجسّدان في "حدائق زارا".
ثانياً؛ لا نظن حديثاً يعدو مقبولاً أمام هكذا كتاباتٍ شعريةٍ يجسّد الفصلَ بين روحٍ وجسدٍ، في الوقت أيضاً الذي تكون الذات المتشظيةُ مركزَ انشغال اللغة والموضوع، هذا وإنّ إبرازَ تيمةِ "التقابل"؛ التي تكون أرضيتُها ذاتا جريحةً يحتم على القارئ الأخذ بعين الاعتبار ما يشكل بؤرةَ الوجود (الجسد والروح).
الجسد = اللفظ = الوعاء
الروح = المعنى
ثالثاً: قد يَظُنُّ القارئُ كما اعتُقِدَ نقداً أن المحكي الشعري ينزع إلى البحث عن الشعري في الحكي، ومن ثَمَّ يَجُرُّ على الكاتب الفرنسي جان ايف طادييهJean-Yves Tadiè أمرَ تأسيسه ل"قصيدة النثر"، ضمن كتابه "المحكي الشعري" Le récit poétique، فقط لأنه -حسْبَ الدكتور عبد الرحيم كلموني- "كتابٌ يتميّزُ بنزعةٍ شاعريةٍ وانفلاتٍ من أسْرِ التِّقْنوية، في محاولة الكاتب (صاحبه) تلمُّسَ معالم جنس أدبي ملتبس، يوجد بين تخوم الرواية والقصيدة" (8).
تحديداتٌ ومزاعمُ كثيراً ما تدفع المتتبعَ إلى عكس السؤالِ بسؤالِ البحث عن الحكي في الشعري، خاصة أن طادييه كاتبُ سيرة، ثم إننا إزاء ديوانٍ تتربعُ الذاتُ عرشَ كرسيّ قصائدِه.
يشكّلُ ديوان "حدائق زارا" الفضاءَ الشعري الذي من خلاله نتلمّسُ شعريةَ المحكي الشعري، بدءاً بكيفيةِ توظيف الشخوص، طينيةً كانت أو أسطوريةً، مروراً بتشكيل الفضاء، الزمان، البنية، الرمز، ثم إبراز التعامل مع اللغة .. كلُّها محدداتٌ يظل حضورُها مكسواً برداء تيمة "التقابل".
تَظهرُ الشخوصُ في قصائد زارا بصور مختلفةٍ، قد تعكسُ تلك التي كانت عليها قبلاً؛ لأنه أمام محاولات متكررة لصنع عالم غير موجود، نجد الشاعر يوظف الشخوص توظيفاً نابعاً من الحلم، لا من الإدراك بحسب تعبير طادييه (9).
هناك خلف سياج الحديقة
تتمدد أوليفيا
هاأنا متعبٌ يا زارا
أفسر رؤيا الليل
بأشجار هوميروس (...) (10).
نمْ هانئاً يا قاسم حداد
قد تزوج قيس بحيرتي
لم تعد ليلى سوى سقطِ متاعٍ
(.........)
طاليسُ يا وجع أيامي
أسكن الريح مثل الرعاة (11).
ما قالته النوارس لبحار ماياكوفسكي
لي قصبة من هواء
ورائي هيلين ترقُصني (12).
يتضح أن هناك استحضاراً لشخوصٍ من أزمنة متباعدة ومن وضْعياتٍ مختلفةٍ .. وقالبُ استدعائها يراه الشاعر سفينةً يمكن امتطاؤها لتجاوز عَقْباتِ واقعٍ كسّرَ أضلُعَهُ.
الطفولةُ برمزيتها البريئةِ يجعلها الخديري تمنح له هواءً طَلْقاً للتنفس، ثم ل: التصوّف والغربةِ والتصرّفِ.
تصوفت
تغربت
تصرفت
كطفل تضيع منه مفاتيح الغواية (13).
هذا وإنّ حلمَ الطفولةِ يتكسّرُ مع قساوة الزمن، ليَظْهَرَ التقابلُ. ثم إن الجهل بالذات والبحثَ عن حقيقتها أمام هكذا تشظي وانشطار يظل البؤرةَ التي تشكل قصيدةَ "وصايا الشمس".
وأنا من أنا
من ذكاء المرآة: هذا جسدي
(..........)
وأنا من أنا
من حكمة النار
(..........)
وأنا من أنا
من انشطار المعنى، أحيا
لكي أَفنى
ليبقى سؤالُ الكينونة مستمرّاً (= وأنا من أنا)، لتنتهيَ به القصيدةُ (14).
وفي تداخل بين الفضاء وتيمة التقابل نعاينُ في قصيدة "حدائق زارا" تشكّلاً لغوياً يُضْمرُ فعل التردد:
الشرق الشرق
الغرب الغرب (15).
إلا أنه سرعان ما ينصهرُ ليتبدى الحلمُ كخيطٍ أبيضَ وسْطَ سماءٍ ظلّلتها الغيومُ ( الغرب الحلم)، حلمٌ مرفوقٌ بالرحيل المرّ، تاركاً وراءهُ شرقاً ملغوماً ( الشرق اللّغمُ).
ولإظهار التقابل الممزوج بنسيج الفضاء، ننظُرُ التشكيلةَ الدّلالية التالية:
الشرق (= فضاء) # الغرب (= فضاء)
اللغم (رفض) # الحلم (= طموح)
يرى طادييه أن نظام التقابل ليس نابعاً من تجربة معيشة؛ بل إن بناءه راجعٌ إلى التقابلات المعجمية والتركيبية وكذا الصور وسير المحكي، أي ما يمكن إجماله في ظواهر اللغة الأدبية (16).، إلا أننا مع "حدائق زارا" نجد التجربة الذاتية هي مَنْ استدعى تلك التقابلات، علماً أنها محدّداتٌ تختلف من شاعر لآخر، فما يراه الخديري شرقاً، يراه غيرُه غرباً، وما يصطبغُهُ بالغربِ ينظرُهُ الآخر شرقاً.
لا أعتقدُ وجودَ فصلٍ إجرائي بين الفضاء والزمن داخل المحكي الشعري؛ لأن"التقابل بين فضاءات حميميةٍ وأخرى معاديةٍ يوازيه التقابلُ بين لحْظاتٍ سعيدة وأخرى شقية مثلما أن الفضاء المتقطع يستدعي زمناً متقطعاً هو الآخر" (17)، لذلك فما حققه الفضاء من تقابل داخل "حدائق زارا" يفعله الزمن أيضاً، فالحديث عن شرقٍ مبغوضٍ وغربٍ مأمولٍ يؤطّرُهُ الزمن الحالي، أما ماضياً فالصورةُ معلومةٌ.
فالزمن وهو مرتبطٌ بعمر الإنسان، والطفولةُ وهي الإطلالةُ الأولى في عالم مظلم، يُظْهران التداخل ومن ثَمَّ التقابلَ في ينابيع "حدائق زارا"، طفولةٌ كلُّها حلمٌ ونورٌ، وزمنٌ كلُّهُ بطْشٌ واعتداء.
طفولتي شكلُ البحر
أتقوس
أتوسد
عشب ذاكرتي
وأعلن:
هذا ما تبقى من تاريخ
يصادر الشمع ويتلو على المصلوبين آية
الريح (18).
إذا كانتا حديقتا: "أفعى الحكمة وضفاف المحو" تحتفيان ب"الجسد"، احتفاءَ جنازةٍ لاحتفاء ولادة؛ فإنهما أيضاً يكشفان بكثافة البُعد الرمزي ضمن مكتوب الخديري.
هذا الجسد لوحُ وصايا
حروف صلّت في محراب اللغة
كلما مسّني غزل
توّحدت في البياض (19).
وفي قصيدة "ضفاف المحو" ورد:
كسّرتُ يوماً إبريق المعاني
تناثر اللفظ شظايا (20).
هذه الأسطرُ الشعرية وغيرها تخترق المتعارَف عليه لغوياً لتَرمُزَ بإيحاء عميقٍ إلى أنّ غيرَ الممكن ممكنٌ، وأن ما نظنّهُ مستحيلاً يتراءى أمامنا شبحاً مُخيفاً.
تظهر في الأفق
غارات المحو (21).
إن الحديث عن البنية داخل "حدائق زارا" هو حديث عن الوظيفة الشعرية، التي نستوحيها من "المحكي الشعري"، بنيةٌ تجعل من لون القصيدة يتبدّلُ وفْقَ وضعيات شعرية مختلفة .. إنها البنية المنحازة إلى "كثرة البياضات والفراغات والتقطعات وسيادة التفكك إلى حدّ يوحي ظاهرياً بالعبثية" (22).
فالصّفْحات: (07/ 09/ 10+ السطر السادس منها/ 13/ 14/ 15/ التشكيلة اللغوية ص: 22/ 26/ 27/ 28/ 30/ 32/ 35/ 36/ 37/ 39/ 42/ 43/ 44/ 45/ 46/ 54 )، تجعل القارئَ يتيه أمام كثرة بياضها ويحتار أمام رمزها المُضْمَرِ؛ ومن ثمّ يستكينُ ليشاركَ إليوت قولَهُ "ويبقى الشعر نصا (قد) يحمل الكثير من الخفايا والإبهام".
أما عن التقطعات وسيادة التفكك فهي الأخرى لها حضور ضمن الحدائق.
يحتويني
أل
غ
ي
ا
ب (23).
حروف لم تعد بطلسمها المعهود، إنما باتت تحمل أكثر من دِلالة؛ لأنّ "تقسيم الكلمات المفردة تبعاً لحروفها حيث يصبحُ لكل حرف هيبتُه الخاصةُ وثقلُه المميز الذي يمكن موازنته بثقل المفردة بكاملها: يصبح للصوت الأهمية ذاتها التي تكتسيها المفردة" (24).
يذكرُ الشاعر في مستهل قصيدته "حدائق زارا" حروفاً باسمها لا برسمها، الأمرُ طبعاً ينحو منحى مغايراً لما عليه السابقة، نظنّهُ يربطها ببُعد الرؤيا؛ حيث طغى على نصِّها ما يوحي بذلك (أفسر/ رؤيا/ تعاليم/ معجزة/ ...).
هذا عن تشتت الفونيم أما توزيع المونيمات على أسطُر تتفرّدُ بها فظاهرةٌ لاغَرو تُلفتُ نظر القارئ، ولعلّها دِلالياً توحي بما يعتملُ الذات من انشطار.
في السياق ذاته نلحظ ضمن قصيدة "مقامات الذوبان" تَكراراً يهدف إلى "إحداث أثرٍ شعري قبل كل شيء" (25)، ويكشف أيضاً الامتداد الذي يُحَصّلُهُ الشاعرُ بين عناوينه ونصوصه الملحقَة.
الذوبان الغياب أل
غ
ي
ا
ب
على سبيل الختم:
لا أعتقدُني نِلتُ كلَّ نِعَمِ "حدائق زارا"، فهي متعددةٌ، متشعبةٌ، صعبةُ المِراس، لكني معها عشتُ شغفَ الشعر، ألم يقل إليوت: "إنّ بعض الشعر الذي شغفني هو شعرٌ لم أفهمه من أول قراءةٍ، وبعضُهُ شعرٌ لا أحسَبُني أفهمُهُ حتى اليوم".
ليس الكلام هنا من باب إيلاء رشيد الخديري ما هو بعيدٌ عنهُ، فنحن أمام تجربة شعرية تسعى تشكيلَ دربٍ يجاور دروبَ شعراء كبار .. تَتَحيَّنُ رسمَ لوحةٍ تتفرّدُ أسلوباً وبناءً، إننا معه ولسان حاله يردد مع رامبو: "إنني مخترعٌ ما أنا جدير به، مختلفٌ تماماً عن جميع مَنْ سبقوني".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.