بورتري " أنثى الصمت " بقلم الأديب الناقد حسن بيريش بميعاد صنعه الشعر تم تعارفنا و بتوقيت أنتجه الإبداع تم لقاؤنا. في التعارف ألأول و كان في حديقة دار الصنائع بتطوان ، أدركت أنني إزاء شاعرة تتنفس الكلمات. و في اللقاء التالي، و كان في مقهى " كفاليا" بطنجة، شعرتني في حضرة مبدعة يعيشها الشعر. عندما استمتعت لها، و هي تتدفق بالقصيدة قلت : هذه امرأة لا تقول الشعر بل يقولها الشعر. فهي لم تكن تقرأ قصائدها، بقدر ما كانت ترتل آيات من سحر كلامها في محراب الجمال. صوتها الذي كان يجهر بخوالج الاحساس بدا لي أغنية تتحرك لها أوتار مسمع و تذهب بي كل المذاهب. شعورها الذي كان يشرب داخل الكلمات، تراءى لي قصيدة موازية تهز الأعطاف و تخلخل السواكن و تستقر في منطقة الإعجاب. إنشادها الذي يخلق في حياة قصيدتها كل الحيوات تبدي إزاء تفاعلي سمفونية تستفز في كفيك، أنت المستمع ألمحظوظ كل قدرتهما على التصفيق الحار الممتن. أما مضمونها الشعري الذي به أشرقت قصائدها بضياء المعاني و سلسبيل القوافي فقد كان محوره صمت أبلغ من الكلام يترنم في أوجاع الصمت. من أول وهلة في تعارفنا، لم أشك لحظة واحدة أنني في حضرة مبدعة تزخر بسيماء الشعر . و في حضرة شعر يزخر بسيماء مبدعة. لم؟ و كيف؟ - هل لأنني شممت في كلامها رائحة الشعر النفاذة و هي تعطر أجواء حديثنا العابر و المقيم معا ...؟ - هل لأنني رأيت في أناقة هندامها أناقة اللغة الشعرية باعتبار أن الشعر جميل يتعشق كل جميل ...؟ - هل لأن حيويتها المنظورة لكل العيان هي فرع من حيوية القصيد و حضورها غصن في دوحة الكلام المعتق...؟ لا أملك إجابة. فقط أتوفر على يقين مفاده: لا يمكن أن تكون هذه المرأة التي تخطف الانتباه إلى ما تتقلده من جواهر الكلام إلا واحدة من الثلاث : - إما أنها خلقت شاعرة و تلك منّة من السماء . - أو أنها حولت الأنثى فيها إلى شاعرة و ذلك فضل من الموهبة. - أو أنها في منتصف الطريق إلى ألشعر و تلك إرادة لا مفر من أن تؤولى بها إلى رأس المسير. بالنسبة إلي و بمجرد استماعي إلى أطايب أشعارها: وجدت الشعر و عثرت على الشاعرة في آن واحد. تأتيها القصيدة على ميعاد. وحده الليل المشروخ بالصمت من يستفز فيها شهوة الكتابة. و يطلق في دواخلها عصافير الشعر فتطلق العنان للإيقاع، و هي تهب زمام الوقت للكلام و تنتصر للجمال. الليل شراعها المبحر صوب مرافئ الشعر. و الصمت مدادها الذي به تهزم بياض الورق. و هما معا منبع صرختها الإبداعية " وحدي و أنا " . ذات مفاجأة ندية، ذهبت كلماتها المتراقصة إلى القاهرة، و هي ترفرف بجناحي الذات المبدعة، ثم عادت إلى طنجة، و هي مضمومة في باقة مختلفة الألوان و العطورمرسومة بعنوان" صراخ الصمت " . هكذا عرفنا أن صمت الأنثى هو كلام جهير. و أن كلام الشاعرة هو صمت علني. هكذا علمنا أن الشاعرة حين تقول لنا: " أمن الضروري أن أكون شاعرة لأخط دستوري...؟ " نقول لها: " من الضروري أن تكوني مبدعة لتخط إعجابنا على الورق" أينعت مشاتل إبداعها داخل حقل الكتابة، مذ كانت في ريعان الدهشة. نشأت في بيت يتوارث الخشوع أمام " البردة " و شقيقتها " الهمزية" و أينع شعورها بالكلام و هي محاطة بأمداح الحضرة البقالية. و لآلئ الالة الأندلسية. فتشبّعت أذنها بفارع الإيقاعات و ارتوى قلبها من ينابيع الحرف المؤثل. و أخدت بمجامع هذا و ذاك ، فاستقر شروق الشعر في جوانحها رافضا أي مغيب. ما بين " ما حك جلدك مثل ظفرك " نصها الأول بالعربية (1986)و " هذيان " مفتتح تفجر ينبوع شعرها (2011): سنوات من البياض، كان بمثابة المحرك لتدفق جاد علينا بأجمل القصائد. بعده أبت الشاعرة إلا أن تضع " عصمتها " بين يدي الكلام و أوفت بما عاهدت الشعر عليه . إذا كان الشعر عندها" ترمومترا" تقيس به درجة حرارة الروح ، فإن الحرية عندها قيمة بها تقاس درجة الاعتداد بالنفس. و الشعر هو شقيق الحرية، و الحرية هي دم القصيدة. في ديوان " صراخ الصمت " نحن إزاء شعر يعبد الحرية ، و إزاء حرية تعشق الشعر. الحرية هنا تتخذ شكل قصيدة. و الشعر هنا يلبس لبوس الحرية. لذلك تبدو لي عبارة الشاعرة: " لا تقيد حريتي" هي المفتاح الذي يشرع الأبواب نحو العوالم الشعرية لهذه المبدعة التي لا تساوم على الشعر و لا تبايع إلا الحرية. لا تقطف زهور الشعر من حدائق غيرها. فلها في حديقتها الخاصة ما يكفي من زهور، تتركها حتى تينع على مهل، لتهدينا إياها بين إعجاب و آخر. فنستنشق في عطرها أريج الشعر ، وتستنشق في عيوننا فوح الفرح بشعر لا ينتهي رحيقه و يظل فينا طويلا . لذلك هي تكتب ذاتها بحبرها الخاص. لا يعنيها سوى أن يرضى عنها الشعر.إنها تكتب لمن يعشق الكلام. أما الذين حرمتهم الحياة من تذوق صراخ الصراخ. فهي لا تضعهم في حسبان ما تكتبه. المبدع يخلق ألف ناقد،و الناقد لا يخلق مبدعا واحدا.هذا شعارها في درب الشعر ترفعه في وجه كل من تنفخ أوداجه بالغرور الجاهل. هي بسيطة الماء. فإذا مسّت في كبريائها الشعري تحولت إلى إعصار. و تلك صفة شاعرة تدرك أن صيانة قوة كلماتها تبدأ بصيانة قوة شخصيتها. فهل أدركتم من هي؟ أجل لقد عرفتموها... إنها بهيجة البقالي القاسمي.