»أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تَعلَمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجب دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع ان يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يستطع فبكلمة طيبة فإنها تجزي الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام عليكم ورحمة الله«. من خطبة الرسول عليه السلام في حجة الوداع في شهر المحرم تلتقي شتى الذكريات الخاصة والعامة التي يختزنها كل واحد منا، أعني أفراد المجتمعات الإسلامية وأقصد بالذات المجتمع المغربي، وتتنوع هذه الذكريات بتنوع عادات وتقاليد القبائل والمدن المغربية، ومما لاشك فيه ان هناك موروثا تقليديا يشترك فيه الجميع، وهو ما يرجع إلى التقاليد المتأصلة في الثقافة الإسلامية أو الناشئة عنها، اما غيرها من التقاليد التي ابتكرها الناس أو ابتدعوها فهي تتنوع وتختلف باختلاف المناطق والمدن، والأكيد ان صوم يوم عاشوراء هو من الأشياء التي يلتقي عندها المسلمون جميعا في هذا اليوم اقتداء بالرسول الذي ورد عنه صيام التاسع والالتزام بصيام التاسع والعاشر، وورد عن معاوية رضي الله عنه انه قال هذا يوم عاشوراء لم يكتب علينا صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر، وعلى أي حال فالصيام قربة إلى الله، وما عدا ذلك فإن الناس يتحركون في هذه الأيام وفي يوم عاشوراء بالذات باعتبارات مختلفة يرجع كثير منها إلى العناية بالأطفال وترسيخ بعض العادات والتقاليد في نفوسهم، مما يعتبره الآباء عن حق أو غير ذلك مما هو نافع بهم. وهذا من طبيعة الحال في المجتمعات السنية، وأما الشيعية فهم ينظرون إلى يوم عاشوراء نظرة مختلفة باعتبار ارتباط اليوم والتاريخ باستشهاد الحسين بن علي رضي الله عنهما. ومما هو مؤكد كذلك ان الإنسان في هذه الأيام يتذكر بعض العادات الجيدة التي اندثرت ويتأسف عليها، من بينها صلة الأرحام والاهتمام بالفقراء وإعداد أطعمة مختلفة وتقديمها للأقارب والأصدقاء والفقراء، ويظهر في هذا الشهر وفي هذه الأيام نوع من التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، ولاسيما وبعض المجتمعات والفئات ومن بينها والمجتمع المغربي سنوا عرفا وهو أن الزكاة يتم إخراجها في هذا الشهر المبارك حتى صار ذلك شبه فرض ديني لا تقليدا سار عليه الناس بحكم العادة لا الشرع، إذ كما هو معلوم فقها فالزكاة الشرط فيها هو مرور الحول والحول قد يكون تمامه في شهر المحرم كما يمكن ان يكون في غيره، ولكن الناس في المغرب ربطوا بين الأمرين، وهو ما جعل الفقهاء والوعاظ والخطباء يتخذون هذه المناسبة فرصة للحديث عن الزكاة ومكانتها الدينية والاقتصادية والاجتماعية، واعتمادا على هذا العرف وتلك التقاليد رأيت من المناسب أن أثير موضوعا حيويا ومهما ويعيش المجتمع السياسي سخونته هذه الأيام والأيام الماضية، وله ارتباط بالتكافل الاجتماعي الذي دعا إليه الإسلام وجعله ركنا أساسا في السياسة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي سنها للمسلمين. لعله من نافلة القول تأكيد أن الإسلام سن سياسة مبنية على التكافل الاجتماعي والتضامن الإنساني داخل المجتمع والدولة الإسلامية، والإسلام في سياسته هذه لم يفصل بين الناس باعتبار العقيدة أو الدين في هذا الباب، فالشواهد التاريخية تؤكد أن المسؤولين في الدولة الإسلامية منذ الخلافة الراشدة كانوا لا يحرمون غير المسلمين من هذا التكافل فما جرى في عهد عمر مع يهودي مسن يتسول معروف ومدون فقد أمر بإعطائه من بيت المال وأمر بالبحث عن غيره ممن هو في حالته لإعطائه من بيت المال كما يعطي للمسلمين لأنه لا يمكن الأخذ منه في شيبته وتركه في شيخوخته إذ ورد في كتاب »الخراج« لأبي يوسف أن عمر مر يوما بشيخ كبير يسأل الناس، فلفت نظره فسأله: من أنت يا شيخ؟ قال ذمي » وكان يهوديا يسأل الجزية والصدقة « فقال له عمر: ما أنصفناك أكلنا شبيبتك ثم نضيعك في هرمك، ثم أخذه إلى بيته فأعطاه ما وجده، وأرسل إلى خازن بيت المال يقول : انظر إلى هذا وضربائه فافرض لهم من بيت المال ما يكفيهم وعيالهم، اني وجدت الله يقول: » إنما الصدقات للفقراء والمساكين« والفقراء هم المسلمون، والمساكين هم أهل الذمة وهذا منهم. (وقد حدد القرءان مجالات الإنفاق واعتبرها دليلا على الإيمان في قوله تعالى ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة« فإعطاء المال يعتبر صلة للأرحام وصدقة في الأقارب وصدقة فقط على المساكين واليتامى وابن السبيل إلى غير ذلك مما ورد في الآية وهو غير مقيد بقيد ولكنه العطاء الذي لا يقصد منه صاحبه إلا الخير العام للناس كلهم، فالطعام لليتامى والمساكين مما هو مطلوب الإنفاق فيه، بل ان إطعام الطعام وإفشاء السلام هو خير الإسلام كما ورد في الحديث لذلك فان الحديث في هذا الشهر المبارك عن عادة صلة الأرحام والفقراء بالصدقة الواجبة «الزكاة» وغير الواجبة اعني صدقة التطوع مما هو محمود بل انه من السنن التي يمكن اعتبارها مما ينبغي تقليده فهي موسم من مواسم الخير التي يجب ان تشجع في المجتمعات التي تسعى إلى أن تكون منصفة لنفسها ومنصفة لغيرها. لقد تحدث كثير من الناس في منتديات مختلفة على الأوضاع المتردية التي ينشأ عنها كثير من الآفات في المجتمعات الإسلامية ورأى كثير من الناس وحقا رأوا أن الزكاة لو خرجت على وجهها الصحيح وأنفقت في وجهها الصحيح لكان المجتمع المسلم في كل دولة من الدول الإسلامية قد تمكن من التغلب على الخصاص في الضروريات الأساس للإنسان، ولكن هذا الأمر مع كامل الأسف لم يصل بعد إلى ما يتوخاه كثير من المخلصين من أبناء المجتمعات الإسلامية لأن الرواسب التي تركها الاستعمار في ديار الإسلام لا تزال هي المتحكمة في الناس، ولا تزال العقول الواقعة تحت أسس التربية الاستعمارية الغربية هي النافدة في الدول الإسلامية وهي التي تفرض إرادتها على الجميع. إن هذه الإرادة الاستعمارية أو إن شئت التحديد قلت هذا المقصد الاستعماري في إبعاد المسلمين عن دينهم وشريعتهم وجعل أحوالهم أسوأ ما يمكن لضمان الخنوع والتبعية لا يمكن التغلب عليها إلا بإرادة قوية وإيمان صادق بقيم العدالة والحرية التي تتضمنها أحكام الشريعة وعاش عليها المجتمع الإسلامي قرونا وآمادا طويلة، انه لأمر غريب وعجيب أن يشعر الإنسان بمرض وأعراضه ويتم تشخيص المرض وضبط الاعراض ومع ذلك يتوفر للإنسان على الدواء وما يُمَكِن من الشفاء وإعادة العافية للجسم ليقوم بدوره كاملا غير أنه بوصية ممن يسعى لموته ونهايته يعرض عن الدواء الشافي ويتعلل بعلل هي من إملاء العدو المتربص ان هذا هو واقع المسلمين في عالم اليوم، لقد افتتى ذووا الحكم والمسؤولية ومن فرضهم التوجه الاستعماري نفسه على هذه المجتمعات بما تدعوا إليه وتفرضه الدوائر الاستعمارية من الحلول لمشاكل ليست بالضرورة مشاكل المجتمع الإسلامي. إن النظريات القانونية والفقهية وفلسفة القانون التي يقول بها علماء الغرب نفسه توجه إلى أن يكون قانون أي شعب أو أي أمة غير متعارض مع دين وتقاليد المجتمع الذي تريد التشريع له. وان المجتمعات الإسلامية التي تعيش أزمات اجتماعية متعددة كما تمت الإشارة وتبحث لها عن موارد يمكنها أن يكون ما يتحصل من جمع الزكوات من هذه الموارد التي تساعد على التغلب على هذه الأزمات والمشاكل، وحتى لا نغبن الذين حاولوا في هذا الباب تجب الإشارة إلى أن هناك محاولات ناجحة وموفقة في هذا الاتجاه في بعض الدول الإسلامية، ونحن بصدد الحديث عن هذا التجارب وبهذه المناسبة التي يعيش فيها المشهد السياسي في المغرب كلاما حول إحداث صندوق التكافل العائلي والذي ورد تأسيسه في مدونة الأسرة قصد مساعدة الأسرة المغربية أثناء أزمات بعض النساء في حالة الطلاق، هذا الصندوق الذي أصبحت الحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى. لقد كان رد الفعل لدى المسؤولين هو أن الصندوق في حاجة إلى أن ترصد له موارد مالية وهذه الأموال لحد الآن غير موجودة لأنها في حاجة إلى صدور قانون الذي يعتبر السند الضروري لرصد الأموال وتحديد مصادرها، وإذا كان الأمر قد استقر على ان يتم إحداث هذا الصندوق في سنة 2011م فقد رأيت بهذه المناسبة والمناسبة شرط ان أذكر بضرورة اعتماد مداخل الزكاة في تمويل هذا الصندوق الذي ينبغي كذلك توسيع مهامه من نفقة المطلقات إلى غيرها من النفقات المشابهة والتي تكون الحاجة ماسة إليها للتغلب على التفكك الأسروي ولمساعدة الأرامل واليتامى المحتاجين. ان الأموال التي يمكن الحصول عليها عن طريق الزكاة والهبات والصدقات التي لاشك ان المسلمين المغاربة لن يبخلوا بها من شأنها إذا جمعت ونظم استغلالها أحسن وامثل استغلال وأسند أمر جمعها وصرفها إلى جهة مأمونة ويطمأن إلى ان ما يتجمع من أموال هي في أياد أمينة يطمأن إليها فإن الخير سيكون كثيرا وكثيرا جدا. إن البند الذي يرد في الميزانية حول مداخل الزكاة ويبقى بدون مداخل هذه سنوات عدة آن الأوان ليفسح المجال أمام المواطنين الذين تجب عليهم الزكاة ويؤدونها ان يفدوا بها مجتمعهم والمحتاجين من الناس، وذلك لأن ما كان يتعلل به من أسباب حول من يجمع والحكم الفقهي في هذا الباب تم تجاوزه فمنذ طرح المشكل تطورت الاجتهادات الفقهية في بلادنا وفي غيرها من البلاد الإسلامية ولابد هنا من الإشارة إلى تجربة علمية فكرية قامت بها مجموعة من العلماء والمفكرين المغاربة في هذا الباب والذين اجتمعوا حول مجلة الزكاة الرائدة في بلادنا والتي كان يشرف عليها ولا يزال الأستاذ محمد بالبشير الحسني. وقد تولت هذه الجماعة ومن خلال هذه المجلة تقديم الكثير من الاجتهادات والتجارب في العالم التي يمكن الاستفادة منها وفي اعتقادي أن هذه إحدى المهام التي يجب أن يبث فيها العلماء المختصون والذين يتولون المسؤولية الدينية والأخلاقية في هذا الباب وبالأخص المجالس العلمية المحلية والمجلس العلمي الأعلى وان لا ينتظروا ان تتم الإشارة من الجهات الوصية فالعلماء ليس عليهم الا وصية وحيدة وفريدة هي وصية محددة من القرءان والسنة وورد فيها تحذير كبير جدا وذلك في قوله تعالى »ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعدما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله« الآية فهذا التحذير هو أكبر من أي وصية أخرى فالمجتمع في حاجة ماسة إلى العون والمساعدة ووفر الإسلام هذا المصدر وغيره من أجل المساعدة وأولوا الأمر في هذه البلاد وكلوا أمر إيجاد السبل الفقهية والشرعية في هذا الباب للعلماء ولاشك ان تنظيم مباراة في هذا الباب الذي دعا إليها المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه كانت الغاية منها إيجاد سند فقهي وشرعي لقطع الطريق على النوايا الخاصة لدى بعض الناس الذين يفرون من أداء الواجب، وإذا كان وارث سره محمد السادس نصره الله قد أسس صندوقا للتضامن وسعى إلى تأسيس كثير من الجمعيات للأعمال الاجتماعية وسعى بكل الطرق للأخذ بيد الفئة المحرومة من أبناء المجتمع فإن مجالسنا العلمية من واجبهم الحرص على أن تكون الزكاة بمعناها العالم والتي لا تعني فقط زكاة النقود ولكن بمختلف أصنافها موردا ماليا مساعدا. فهي إذا نظمت وجلبت على وجهها الصحيح مع تلافي ما يجب تلافيه في سن قانون جبيها وجمعها لن يفيد فقط هذا الصندوق الذي أصبحت الحاجة ماسة إليه ولكنها ستفيد في كثير من المجالات التي تدخل في الأصناف الذين يحق لهم ان تصرف الزكاة لصالحيهم. ان المبادرة في الخير والعمل من أجل انقاذ الأمة مما يتهددها بسبب الفقر من الانحرافات والأزمات يجب أن لا يخضع إلا لاعتبار المصلحة العامة لاشيء آخر سواها والعلماء هم الموكول إليهم أمر المبادرة والنصيحة لفائدة الأمة والمتضررين كمن أبنائها. إن أعداء الإسلام والمسلمين يستغلون الفقر والحاجة لاصطياد الضعفاء والذين لا قدرة ذهنية وعقلية لهم لإخراجهم من الدين وزعزعة عقائدهم وأن الحاجة المادية والعلاجية من بين أهم ما يستغلونه المتنصرون في هذا الصدد. فإذا كان الفقر يكاد أن يكون كفرا، فإنه بالفعل تحول في كثير من الحالات ولدى بعض الناس إلى الكفر والخروج عن الدين، وان مسؤولية العلماء في هذا الباب عند الله عظيمة لأنه بإمكانهم الدفع بالأمور إلى توفير العلاج لبعض هذه الأمور إن لم تكن كلها ولكنهم تركوا المبادرة في الوقت الذي يجب عليهم فيه أخذ هذه المبادرة والإلحاح عن المسؤولين لجمع الزكوات وصرفها في مصارفها الشرعية. إن الوقت لم يفت بعد لتدارك الأمر، فهل نفعل؟ أرجو أن يكون الجواب عملا لا قولا.