الواضح أن المجتمع الدولي عاجز لحد الآن عن استخلاص الدروس من الأحداث الكبرى والأزمات العظمى التي تعصف بمصير الإنسانية، أو لنقل بصريح العبارة إنه يقع تعطيل تفعيل القدرة على مواجهة ما يترتب عن الأزمات بما يتيح إعادة إنتاج نفس الأزمات والمعضلات. وبما يحقق تثبيت الأسباب التي أنتجت ما أنتجته من مآسي، وبما يمكن النظام العالمي السائد من مواصلة السيادة بنفس الشروط والمواصفات. حدث أن عاش العالم بأسره أزمة صحية خطيرة أزهقت أرواح ملايين الأشخاص، وثبتت أجواء الرعب والهلع، وتعطل الاقتصاد. ولا تزال هذه الأزمة ترخي بظلالها على الأوضاع العامة في مختلف أرجاء العالم، ولا تزال الشعوب تدفع الفاتورة غالية جدا من حياتها اليومية، واتضح من زمن الأزمة أن الأولويات في اهتمامات المجتمع الدولي تعتبرها اختلالات كثيرة وعميقة، حيث اتضحت بجلاء هشاشة مفهوم العولمة الذي قيل في شأنه إنه حول العالم إلى قرية صغيرة، حيث ما أن احتدمت الأزمة الصحية حتى تسابقت كبريات الدول إلى إغلاق حدودها وإلى الاحتماء في عزلة جغرافية غير مسبوقة، وتعطلت سلاسل الإنتاج والتصدير والاستيراد. وبذلك لم تنجح هذه العولمة المحتفى بها كعنوان بارز في النظام الكوني المعاصر في جعل الانتماء الموحد إلى العالم الحديث للتصدي لأزمة صحية خطيرة جدا. وهنا وجد الحديث عن مفهوم الدولة القطرية الوطنية في مقدمة الاهتمامات، وتوارى خلال احتدام الأزمة الحديث عن العولمة. ليس هذا فقط، بل إن زمن الأزمة طرح إشكالية إعادة ترتيب الأولويات فيما يتعلق بالسياسات العمومية المعتمدة والسائدة، وهكذا أكد زمن الأزمة الحادة أن أولوية الأوليات في هذه السياسات تتعلق بالخدمات الاجتماعية، فيما يتعلق بالصحة العامة ومدى قدرة بنيتها على مواجهة زمن الأزمات، وبالقدرة المالية للفرد والجماعات على مجابهة لحظات ما يترتب عن تعطيل سلاسل الاستيراد والتصدير والتداعيات التي تلقي بها على أسعار المواد الاستهلاكية والإنتاجية. وما أن بدأ زمن الأزمة الصحية العالمية الطارئة في الخفوت، وتراجعت حدتها المباشرة حتى اشتعلت مواجهة مسلحة بين القوى العظمى في النظام العالمي السائد. اختير لها هذه المرة جغرافية أوكرانيا مسرحا لها، وانعرجت الأوضاع في العالم نحو أزمة جديدة لم تكن أقل حدة من الأزمة الأخرى التي بدأت في التواري فاسحة المجال لأزمة جديدة مثلت بوضوح لحظة اصطام حقيقي لمصالح القوى العظمى المتحاربة. وعادت سلاسل الإنتاج والتصدير والاستيراد إلى الاختلال من جديد مخلفة تكاليف باهظة تدفع فواتيرها شعوب لا علاقة لها، لا من قريب ولا من بعيد بالحرب، فيما يتعلق بتراجع مخزون الغذاء في العالم وما ترتب عن ذلك من ارتفاعات مهولة في أسعار مختلف المواد الاستهلاكية الأساسية والخدماتية. وأفرزت هذه الأزمة التي لا تزال البشرية تعاني من تداعياتها المباشرة وغير المباشرة، أن أولوية الأولويات في السياسات العمومية يجب أن تتمثل في ضمان الغذاء لتحقيق سيادة غذائية حقيقية، لأن هذه العولمة المفترى عليها كركيزة للنظام العالمي السائد ليست قادرة على القيام بنفس الدور في تجنيب البشرية مآسي المجاعة، ونقص الغذاء في أزمنة الأزمات التي يفتعلها الكبار للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والاستراتيجية حينما تقتضي الضرورة الذاتية ذلك، وهكذا فإن النظام العالمي السائد يضع شعوب العالم ، خصوصا في الدول ذات القدرات المالية والاقتصادية المحدودة رهينة في أيادي القوى العظمى المتحاربة. هكذا تكشف هذه الأزمة المفتعلة لأسباب ترتبط بمحاولات القوى العظمى فرض رؤيتها لطبيعة النظام العالمي الذي يجب أن يسود بصيغة الإكراه، حتمية قيام بديل يركز على تمكين جميع الدول من تحقيق سيادتها الوطنية فيما يتعلق بالغذاء أولا. ويتعلق الأمر برهان صعب التحقيق والمنال لأنه لا يتوقف على الإرادات الوطنية فحسب، بل يتطلب تجسيدا فعليا للانتماء الموحد للعالم المعاصر، بما يعني ذلك من تغيير حقيقي في مفاهيم التعاون والتضامن والتكامل بين مختلف شعوب العالم. هكذا نلاحظ أن الأزمات الكبرى والحادة التي يواجهها العالم حاليا، ليست أزمات حروب وهشاشة اجتماعية تمثل تربة صالحة وحاضنة لأزمات صحية واجتماعية، بل هي أزمات تهم الأسباب الحقيقية التي أفرزتها بكل هذه الحدة، وهكذا لا يكفي القول حاليا بأن وقف الحرب الروسية الأوكرانية سيكون كفيلا بمعالجة ما ترتب عنها من تداعيات، لأن ذلك يعني إمكانية عودة نفس التداعيات بنشوب حرب أو مواجهة جديدة بين القوى الكبرى، بل ما يواجهه العالم المعاصر من أزمات يتمثل في الأسباب التي مكنت هذه الأزمات من الخروج إلى حيز الوجود. وهذا ما نقصده بقدرة المجتمع الدولي على الاستفادة من الأزمات واستخلاص الدروس منها. إننا بصدد الحديث عن نظام عالمي آخر وبديل لا تبدو، مع الأسف، أية مؤشرات إيجابية في شأنه.