تواترت تطورات كثيرة و معطيات عديدة، في ظرف زمني قصير جدا لتعلن عن بداية مرحلة جديدة في الأوضاع العالمية السائدة، في مختلف مناطق العالم تجذب نحو الصعوبة والتعقيد. اليوم لم تعد الخطورة البالغة التي تكتسيها التداعيات المترتبة عن انتشار وباء كورونا والتي خلفت ، و لا تزال تخلف ، الخسائر الفادحة في جميع اقتصاديات العالم، ولكن بنسب متفاوتة، حيث تدفع الدول ذات الدخل المحدود أو المتوسط تكلفة أغلى من نظيراتها من الدول الغنية. والعالم لا يزال في حالة ارتباك في مواجهة هذه التداعيات التي تسببت فيها تدابير وإجراءات العزل و الإغلاق، وتوقف أنشطة الانتاج والتسويق و النقل . لم تعد هذه التداعيات ، بما تتطلب من جهود للحد من آثارها ، وحدها التي تشكل أكبر وأخطر تهديد للاستقرار في العالم، بل، يمكن الجزم أن عوامل أخرى تكالبت ضد الاستقرار العالمي وزادت من حجم الأخطار والتحديات المحيطة بالأوضاع العالمية الراهنة. فما أن اقترب العالم من الإحاطة بهوية الأزمة الصحية الطارئة التي هزت أركان العالم، حيث تمكن من تجاوز مرحلة البداية التي كان يجهل فيها كل صغيرة وكبيرة عن الفيروس القاتل، ودخل مرحلة التصدي الفعال له والتعايش معه عبر التدابير الاحترازية. و بذلك فإن العالم بصدد اعتبار الفيروس مرضا يمكن التعايش معه، حتى استجدت تطورات أخرى أعادت الأمل في تثبيت استقرار عالمي إلى نقطة الصفر . ثمة عوامل سياسية أفرزتها تطورات في العلاقات الدولية السائدة ، و أسباب طبيعية كثيرة ، مثلت انتكاسة حقيقية لهذا الأمل الذي ترقبه الرأي العام الدولي بقلق بالغ، حيث اشتعلت حرب مفاجئة بين روسيا الفدرالية و جمهورية أوكرانيا، التي يبدو أنها كانت تنتظر خفوت حدة الوباء لتعلن عن بدايتها. وهي حرب لفها الغموض الكبير حول طبيعتها وأسبابها المرتبطة بالحسابات الجيواستراتيجية في المنطقة وفي العالم بأسره، أدخلت المجتمع الدولي في مرحلة انعدام اليقين في طبيعة النظام الدولي السائد، وألقت بظلالها الكثيفة حول مفهوم العيش الإنساني، حيث زادت من معدلات المخاوف. وكانت النتيجة المؤقتة أن اختلت سلاسل الانتاج والتسويق والنقل في العالم مما أفضى إلى زيادات مهولة في أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية من حبوب وزيوت ومحروقات ومعدات البناء و الإصلاح و إنتاج العديد من الخدمات. و إذا كان تحقيق حديث أعلن عن نتائجه البنك العالمي قبل أيام أكد أن ثلثي الأسر في الدول ذات الدخل المحدود والمتوسط صرحت بتقلص وتراجع مداخيلها المالية بسبب تداعيات وباء كورونا، وأنه و منذ عشرين سنة خلت، فإن 97 مليون شخص في العالم وجدوا انفسهم في منطقة الفقر المدقع لنفس السبب، فإن الحرب الجديدة التي فندت التوقعات التي كانت تتنبأ بنهاية عهد الحروب العسكرية المباشرة، وبداية عصر الحروب الجرثومية والفيروسية، زادت من تعميق هذه الجروح المندملة وكرست حالة اللايقين فيما يتعلق بمصير الإنسانية جمعاء. والأكثر خطورة في كل هذا الذي يحدث، أن لا أحد من الخبراء والمختصين يمكنه اليوم، و في الظروف الراهنة، صياغة جواب واضح عن أمد هذه الحرب التي مثلت، و لأول مرة طيلة العقود الماضية، مواجهة مباشرة بين القوى العظمى المتحكمة في النظام العالمي السائد . وبصفة موازية وجدت كثير من شعوب العالم نفسها في مواجهة تداعيات أخرى تسببت فيها سياسات الدول العظمى في تعاطيها مع هذه التطورات. وفي هذا الصدد يجري حديث بكثير من القلق عن الارتباك الكبير في السياسات المالية العالمية التي ستكون لها تأثيرات مباشرة عن الأداء والتسديد، خصوصا ما يتعلق بجهود بعض الدول الهادفة إلى فرض عملات مالية دولية بديلة عن العملات المالية التقليدية. ناهيك أن العديد من البنوك المركزية في الدول الكبرى انتهزت هذه الظروف الصعبة لتعلن عن زيادات مؤثرة في معدلات الفوائد، مما يزيد إشكالية الديون العالمية استفحالا وتعقيدا، خصوصا وأن هذه الديون بما لها وعليها، كانت، ولا تزال، تمثل جرعات أوكسجين للاقتصاديات الضعيفة والمتوسطة، والأكيد أن ارتفاع تكاليف الديون الخارجية ستسبب بصفة مباشرة تقليص حجم الاستثمارات العمومية الخاصة بالبنيات التحتية في الدول التي يمكن اعتبارها ضحية لنظام الديون الخارجية السائد حاليا في العالم. يضاف إلى ذلك خطر التضخم المالي الذي اكتسح العديد من الاقتصاديات العالمية مما تسبب، ولازال يتسبب، في ارتدادات عنيفة في سلاسل الانتاج والتزويد وفي حقيقة الأسعار التي لن يتوقف مؤشرها عن الاتجاه نحو الزيادة والارتفاع المتواصل. كما أن دولا كبرى أخرى اعتبرت أن الظروف الصعبة التي يجتازها العالم تفرض عليها تقليص، أو توقيف، تصدير كثير من منتجاتها الغذائية والصناعية تحسبا للمرحلة القادمة الصعبة و لما تخبئه الأيام والأسابيع والشهور القادمة من مفاجآت غير سارة لها . لم تتوقف المؤشرات والمعطيات السلبية عند هذا الحد، بل وجدت سندها القوي في الظروف الطبيعية الصعبة التي تواجهها كثير من دول العالم، حيث ارتفعت معدلات الجفاف في الكثير منها، في حين تعرضت أقطار أخرى إلى فيضانات كبيرة قضت على قسط كبير من المزروعات، ووصلت حد تعطيل عمل بعض الموانئ مما عطل حركة النقل بها. وكانت هذه التقلبات المناخية عاملا حاسما في تقليص المحاصيل الفلاحية والزراعية، مما سيضطرها إلى البحث عن مصادر خارجية لضمان جزء من أمنها الغذائي، في علاقات تجارية واقتصادية دولية مطبوعة بالأزمة المركبة. هكذا يجد العالم نفسه أمام مرحلة تتميز بالغموض الكبير الذي يعمق أسئلة القلق والخوف من المستقبل المنظور قبل البعيد منه لدى أوساط الرأي العام الدولي، وموازاة مع ذلك تتواتر التطورات التي ترجح فرضية الانهيار المتواصل في كثير من المسلمات.