لاشك ولاجدال في أن الذين أوقدوا نيران الحرب الروسية الأوكرانية كانوا يدركون حجم تداعياتها على حياة جميع البشر في مختلف بقاع العالم ممن لا تعنيهم هذه الحرب، ولا مسؤولية لهم في الأسباب والدواعي التي تسببت فيها، و لا علم لهم بخلفياتها و بحساباتها الصغيرة المرتبطة بالدولتين المتحاربتين، والكبيرة التي توجد في صلب مصالح القوى العظمى في الشرق كما في الغرب.و إن كانوا يعون ذلك جيدا ويعلمون التكلفة الباهضة التي سيدفعها المجتمع الدولي، فإن حسابات السياسة والاستراتيجيا تغلبت على القيم والمبادئ المتعلقة بالمصالح الإنسانية العامة. و لذلك وبالضرورة وجدت أطراف هذه الحرب نفسها متورطة في مواجهة، تبدو في شكلها مواجهة مباشرة بين دولتين، ولكنها في عمقها، و في حقيقتها، مواجهة بين قوتين عالميتين تسعى كل واحدة منهما إلى فرض شروط و ظروف سيادة نظام عالمي يستجيب لمصالحها، ويشدد الخناق على القوة الأخرى، ولذلك فإنه لا غرابة في القول إن الحرب الروسية، الأوكرانية، هي مواجهة بالوكالة تكشف عن حدة التجاذب بين القوى العظمى في العلاقات الدولية المعاصرة . هكذا، لم تتفاجأ القوى المتسببة في هذه الحرب من حجم وقيمة التكلفة الاقتصادية والاجتماعية التي بدت واضحة اليوم، وتنذر بارتفاع مهول في هذه التكلفة، إذا ما استمرت الحرب لمجرد شهور قليلة.والجهة التي تفاجأت بقيمة الفاتورة التي وجدت نفسها مضطرة لتسديد قيمتها دون مناقشة و لا حتى مجرد تفكير، هي شعوب العشرات من الدول من ذوي الاقتصادات الضعيفة والمتوسطة التي لم تكن مسؤولة عن اشتعال الحرب ، و ليس لها أي ذنب في الأسباب التي أجبرت موسكو وكييف على الانتقال بالتجاذب و التصادم بينهما إلى مستوى الحرب المباشرة بينهما . وهكذا لم يكن غريبا و لا مفاجئا أن تقفز أسعار النفط في الأسواق العالمية إلى مستويات قياسية ضاعفت قيمتها مرتين و ثلاث، مما تسبب في زيادات كبيرة في العديد من المواد الاستهلاكية والخدماتية والانتاجية التي تعتمد على النقل.كما ارتفعت أثمان الحبوب إلى معدلات مرتفعة جدا، و تقلصت إمكانيات الانتاج، و ضاقت مسالك الانتاج، واختنقت سلاسل الإمدادات البحرية والبرية والجوية في العالم . ولا أحد يمكنه أن يتنبأ بموعد عودة الرشد للقوى العظمى لتطوي صفحة الحرب وتفتح أبواب المستقبل أمام العيش الآمن والمستقر، ولذلك من الطبيعي أن تخلف التداعيات المتعلقة بالحرب عواقب خطيرة ضد البشرية جمعاء . هكذا بدأ الحديث اليوم عن تفاقم مؤلم و مهول في مستوى المجاعة في العالم، خصوصا بالنسبة لدول عجزت عن تحقيق أمنها الغذائي في زمن السلام. و في هذا الإطار كشفت منظمة الزراعة و الأغذية (الفاو) التابعة لمنظمة الأممالمتحدة أن (ما بين 8 و13 مليون شخص سيعانون من الجوع في العالم بسبب عواقب الحرب في أوكرانيا، لا سيما في آسيا والمحيط الهادئ و شمال أفريقيا ودول جنوب الصحراء الأفريقية) وأوضحت المنظمة الدولية أن أوكرانيا وروسيا تعتبران من بين أكبر مصدري القمح والذرة والشعير وبذور اللفت و عباد الشمس في العالم، و هما معا تشكلان أكثر من ثلث صادرات الحبوب في العالم.وأضافت بأن26 دولة في أفريقيا و الشرق الأوسط و آسيا تعتمد بنسبة تتجاوز 50 بالمائة على هذين البلدين فيما يتعلق بوارداتها من القمح . وتنبه منظمة (الفاو) في بياناتها الجديدة التي عممتها في الأسبوع الثاني من الشهر الماضي، بعد حوالي شهر من بداية الحرب الروسية الأوكرانية، إلى أن التداعيات المترتبة عن الحرب الجديدة تنضاف إلى ما لا تزال جائحة كورونا تخلفه من خسائر وتكاليف غالية لنفس الشعوب، التي ازدادت قدرتها الشرائية ضعفا والتي قهرتها شروط و ظروف التقشف الكبير التي فرضت عليها بسبب المرحلة الصعبة التي يجتازها الاقتصاد العالمي.هؤلاء هم نفس الأشخاص الذين سيجدون أنفسهم يدفعون تكلفة ظروف طارئة تتميز بأزمة حادة جديدة لا ذنب لهم فيها، بسبب الارتفاع المهول في أسعار العديد من المواد الاستهلاكية الرئيسية والأساسية كما الشأن مثلا بالنسبة إلى مادة الخبز التي أقدمت بعض الحكومات مجبرة على إعلان زيادات في أسعارها . المثير للانتباه، أن الأوساط العالمية المختصة، و في مقدمتها منظمة (الفاو) تتوقع ارتفاع مؤشر أسعار المواد الغذائية (الحبوب، السكر، اللحوم، منتجات الألبان، الزيوت، وغيرها) بنسب تتراوح ما بين 8 و 20 بالمائة، بما يعني مزيدا من الضغط على القدرة الشرائية لذوي الدخول المالية المحدودة، و مزيدا من ممارسة الإنهاك القوي لهذه القدرة، في الوقت الذي لن تتضرر فيه حياة الأشخاص في الدول القوية المتسببة في هذه الحرب، بصفة مباشرة وغير مباشرة بنفس النسبة ، ولن تكون مجبرة على دفع تكلفة غالية للحرب، بالنظر للقوة التي تتحصن فيها اقتصاديات دولها، و بسبب ارتفاع مستوى العيش هناك و قدرة الأشخاص والأسر على الادخار . ويحصل هذا الخليط الممزوج بظروف و عوامل خطر حقيقية ليست مسبوقة في تاريخ البشرية الحديث في الوقت الذي تواجه فيه شعوب الدول المطلوب منها تسديد فاتورة الحرب ظروفا اقتصادية بالغة الصعوبة، وتزامنا مع استمرار ارتفاع معدلات المجاعة في الكون، حيث تشير الإحصائيات إلى أن شخصا واحدا من بين كل عشرة أشخاص في العالم يعاني من مجاعة حقيقية، بيد أن ثلث سكان المعمور تتواصل معاناتهم من انعدام الأمن الغذائي، حيث تجهل أعداد و نسب الأشخاص الذين يتعذر عليهم، و يعجزون عن الحصول بانتظام على الغذاء الكافي . هكذا إذن ستبقى الأوضاع الاجتماعية في العالم رهينة بالحرب التي مثلت فرصة حقيقية لمواجهة حربية غير مباشرة بين قوتين عظميين تقبضان بأنفاس النظام العالمي الجديد. و يبقى مصير شعوب الدول المغلوبة على أمرها رهينة طيعة وخائفة بين مخالب قوى مفترسة.