ليس وحده فيروس كورونا الذي نجح في تطبيع علاقاته مع الأفراد والجماعات، ولم يعد شبحا مخيفا فرض ظروف عيش استثنائية طيلة أكثر من سنتين كاملتين، بما خلف ذلك من خسائر في الأرواح البشرية ومن تكاليف اقتصادية هائلة. وليس وحدها الحرب التي انتظرت إلى أن تراجعت شراسة فيروس كورونا وضعفت قوة فتكه بالأشخاص لكي تندلع، والتي تبدو أنها من حيث الشكل تدور بين جارين جمعت بينهما الجغرافيا وباعدت بينهما الحسابات السياسية، بيد أنها في الجوهر وفي العمق تجري أطوارها المدمرة بين القوى العظمى التي لم يتوان صراعها و تنافسها الشرس على مناطق النفوذ في العالم و على إدارة شؤون الاقتصاد العالمي. ليس هذه الحرب وحدها من دخلت مرحلة التطبيع إلى أن صارت أحداثها، التي كانت مرعبة في بدايتها و تحتل باستمرار وطوال اليوم واجهة اهتمامات وسائل الإعلام في مختلف بقاع المعمور، و فرضت على أطرافها الحقيقية الإسراع باتخاذ رزمة من القرارات والتدابير التي لم تختلف عما عاشه العالم إبان ضراوة الجائحة من حيث العزل والحصار، لكن هذه المرة في حق طرف واحد فقط، إلى أن صارت هذه الأحداث اليوم، التي زادت حدتها وتنامت خطورتها، جزء من الحياة اليومية العادية للمواطن في مختلف أنحاء العالم، وتحولت إلى الأخبار اليومية المعتادة متجهة إلى أن تصبح مشابهة كثيرا لأخبار أحوال الطقس وأسعار صرف العملات. و بدا واضحا اليوم أن الحسابات المكشوفة لأطراف الحرب لم تكن دقيقة و لا سليمة، وأن توقعات أجهزة الجيوش والاستخبارات العسكرية والأمنية للأطراف كافة لم تكن محسوبة بالدقة لخوض مثل هذه الحروب الضارية والمدمرة . فالواضح أن كل طرف كان يتوقع حسم الحرب في بدايتها، وأن الطرف الآخر غير قادر على مواجهة الحرب متوسطة أو بعيدة المدى، بل إنه ما إن تطلق الرصاصة الأولى سيضطر الطرف الآخر إلى رفع الراية البيضاء. أو قد تكون الجاهزية والحدة التي تعاملت بها الأطراف المباشرة وغير المباشرة مع ظروف وشروط هذه الحرب وراء المأزق الذي قادت إليه التطورات المتلاحقة والمتسارعة إلى أن أضحت أطرافها متورطة في حرب لا تجد حاليا سبيلا ولا مخرجا يخلصها منها. و لعل كل طرف من القوى العظمى المشاركة في هذه الحرب يفكر اليوم في عدم تمكين خصمه من تحقيق النصر قبل أن يفكر في تحقيق النصر لفائدته. ثم لأن الحرب الجارية لا تبتعد كثيرا عن مفهوم و طبيعة الحرب العالمية الكبرى التي تقوم و تنشب بين القوى العظمى المؤثرة في الأوضاع العالمية بسبب حسابات و اعتبارات وأسباب تستند إلى صراع المصالح و المنافسة الحادة على مناطق النفوذ في العالم، و هذا ما ينطبق بالتحديد و بالتدقيق على هذه الحرب . ليس وحدها هذه الحرب التي دخلت رزنامة الحياة اليومية العادية، ولا فيروس كورونا قبلها، بل الأهم و الأدهى من كل ذلك أن التداعيات الخطيرة المترتبة عن مرحلة الجائحة و عن الحرب القائمة بين الجيران الأعداء سلكت طريقها المعبد نحو التطبيع العادي، مؤشرة على تطورات و توقعات غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، دون أن ينجح أحد، بما في ذلك، ليس أطراف الحرب، بل كذلك المنتظم الأممي، والمنظمات الدولية المختصة و غير المختصة في عزل مخلفات كورونا، ولكن خصوصا تداعيات الحرب عن المعطيات المرتبطة بالاستقرار والأمن في العالم. ولم تعد الحرب تقتصر على مواجهة عسكرية مسلحة بين أطراف متحاربة، بل امتدت و انتشرت لتطال قضايا الأمن الغذائي العالمي و الهجرة القسرية ومجالات و قطاعات أخرى لا تقل أهمية. والواضح أن أطراف هذه الحرب تيقنوا أنها لن تحسم بالمواجهة العسكرية المباشرة، و أنه لا بد من استخدام جميع الأساليب و الأدوات في محاولة لإضعاف الخصم وإنهاكه اقتصاديا لإجباره على رفع راية الاستسلام. وهكذا سارعت أطراف الحرب إلى إعلان قرارات عقابية مالية واقتصادية ضد بعضها البعض، و تعمدت إحداث اختلالات عميقة و قوية في سلاسل الإنتاج والتوريد والتصدير والتسويق، وفي الأنظمة المالية والجبائية العالمية، و غير ذلك كثير من التدابير والإجراءات التي تراهن عليها أطراف الحرب في عملية الحسم. و هكذا وجدت الحياة البشرية نفسها رهينة حسابات و أدوات الحسم في الحرب، وهذا ما يفسر بكل تأكيد الزيادات المهولة في أسعار العديد من المواد الاستهلاكية، وفي المواد الطاقية، ومواد البناء، والنقل والخدمات وغيرها كثير ومتعدد. وبالتالي فالذي اليوم هو بصدد تحقيق التطبيع ليصبح جزءا عاديا ومكونا طبيعيا من مكونات الحياة البشرية اليومية. و هكذا لم يعد غريبا أن تستيقظ الشعوب كل صباح على زيادات مهولة في أسعار العديد من المواد الاستهلاكية و الخدمات، وعلى ندرة مواد كثيرة أخرى. ولم تعد صادمة رزمة من القرارات اتخذتها حكومات دول منتجة لمواد استهلاكية ضرورية للأمن الغذائي والقاضية بتقليص حجم الصادرات من هذه المواد، إن لم يصل الأمر في بعض الحالات إلى توقيف و منع تصديرها تحسبا من الزمن القاسي الذي تؤشر تطورات الحرب على قدومه . والخلاصة أن النتيجة لم تقتصر على حدوث الأزمة الصحية العالمية الخطيرة، ولا على إعلان نشوب حرب خطيرة تعود بنا إلى زمن الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل ما هو أكثر خطورة هذا التطبيع الذي يستتب بين الشعوب، ويتعلق بالأمن الغذائي العالمي، وبالتالي شبح المجاعة الخطيرة التي أضحت تتربص بشعوب العالم كافة، وخصوصا شعوب دول العالم الثالث والأخرى السائرة في طريق النمو . إن هذه التطورات الكبيرة والعنيفة التي عاشتها البشرية، ولاتزال تعيشها أفضت إلى التطبيع التدريجي للتداعيات التي تهدد مستقبل البشرية فوق البسيطة.