لم يكن من الصعب فهم حقيقة علاقة الذين يصفون أنفسهم بالنشطاء الحقوقيين الصحراويين في الداخل وإن كان ذلك يتطلب فهما عميقا لطبيعة صراع ورثناه من الحرب الباردة ومن ميراث الصراع المغربي - الجزائري، فقد ألقى المغرب بحجرة كبيرة في بركة الصراع والنزاع المفتعلين في هذه المنطقة حينما أعلن عن مقترح الحكم الذاتي في الصحراء في إطار السيادة المغربية والذي مثل في كنهه ثورة سياسية وثقافية كبيرة في كيفية تعاطي بلادنا مع هذه القضية الشائكة، لأنه انتقل بنا من ثقافة إلغاء الآخر إلى الاعتراف الواضح به، وهو معطى واقعي، لكن هذا التحول كان يفرض التعامل بمقاربة شاملة مع الملف، تتماشى مع التفهم الذي أبداه المجتمع الدولي للمقترح المغربي الجديد، والذي اندرج في سياق المقاربة التصالحية الشاملة، وهنا تجدني موافقا تماما مع ما طرحه الأستاذ عبد المجيد بلغزال في الندوة التي نظمها مركز الشروق للديمقراطية بالرباط، فالمقترح المغربي كان ولايزال يعني في الفهم الدولي إعلان معالجة جديدة للقضية في إطار المصالحة الشاملة التي تعبد الطريق أمام تسوية شاملة وعادلة ونهائية للملف برمته. هذا ما أقنع - في تقديرنا - مراكز القرار في المغرب بأهمية مسايرة هذا الفهم الجديد من خلال فسح المجال لثلة من المعارضين للقناعة المغربية لممارسة نشاط محدود من الداخل، وتجلى ذلك بتوفير شروط اندماجهم في العمل السياسي والحقوقي الوطني، ولا أحد ينسى اليوم أن كثيرا من هؤلاء كان يتخفى وراء منظمات حقوقية وطنية ومركزيات نقابية مغربية لممارسة النشاط الذي كان محظورا بالأمس القريب، ولا أحد ينسى أيضا أن بعضهم تقدم لخوض غمار استحقاقات انتخابية وطنية في إطار أحزاب وطنية تضع خطا أحمر في قضية وحدتنا الترابية، وكان واضحا جدا أن مشاركة بعضهم في منتديات دولية يخدم المصالح المغربية، فرغم تصريحاتهم المعادية لحقوق المغاربة المشروعة والعادلة إلا أن ذلك كان يؤكد للعالم الذي تقبل المقترح المغربي بارتياح وتفاؤل أن المغرب جاد في المضي بمشروعه الجديد المستند الى الاعتراف بالآخر والبحث عن مقاربة المصالحة، خصوصا وأن هؤلاء كانوا يتحركون بكل حرية ويعودون إلى أرض الوطن بأمن وسلام. وكانت مراكز القرار في المغرب مدركة كما يدرك المغاربة قاطبة أن هذا النشاط المحدود لانفصاليي الداخل لن يكون له أي تأثير على الجبهة الداخلية القوية والصلبة، ولا أحد يمكنه أن ينكر اليوم أن اعتماد هذه المنهجية مكن المغاربة من كميات هائلة من الأوكسجين على المستوى العالمي. الذي حدث في تقديرنا أن الجزائر وجبهة البوليساريو الانفصالية أدركتا خطورة المكاسب التي يراكمها المغرب في هذا المجال وقررا معا الانتقال الى مرحلة السرعة الأخيرة من خلال الإقدام على تصعيد كبير للحد من تدفق المكاسب للمغاربة، فلم يكن من تفسير لسفر التامك ومن معه الى مخيمات لحمادة واجتماعهم مع قادة عسكريين من الجبهة الانفصالية وحضورهم معرضا عسكريا مع تعمد إرفاق جميع هذه الأنشطة المحظورة والسرية بحملة اعلامية مكثفة بما في ذلك نقلها على القناة التلفزية التابعة للجبهة الانفصالية لإجبار المغرب على القيام بردة فعل تشوش على المقاربة الجديدة، ولم يكن من معنى لامتناع المسماة أميناتو حيدر على الامتثال لإجراءات معمول بها في جميع نقاط الوصول في العالم، وهي المعتادة على احترامها لدفع المغرب إلى منعها واعتقالها ومحاكمتها وإلحاق قضيتها بقضية التامك ورفاقه بهدف الضغط على المجتمع الدولي ليعيد النظر في فهمه الجديد لمقاربة المغرب، ومن المؤكد فإن المخابرات الجزائرية وربيبتها الجبهة الانفصالية لن يقفا عند هذا الحد، بل لابد من وجود مبادرات تصعيدية أخرى في جعبتهما سيعلنان عنها في الوقت المناسب، فأطروحتهما لا يمكن أن تستمر في الحياة الا من خلال صب كميات هائلة من الزيت في النار لتزداد اشتعالا والتهابا. من هنا وجب التفطن لفهم عمق المرحلة الدقيقة التي تجتازها قضيتنا الوطنية المركزية، إذ أن ساحة المعركة لم تعد تقتصر على الأرض، فالمغاربة يمارسون حياتهم العادية فوق أراضيهم المسترجعة، بل ساحة المعركة الحقيقية اليوم هي الديبلوماسية والاعلام.