رغم أن المغرب حليف استراتيجي لأمريكا أثناء الحرب الباردة وبعدها فإن نزاع الصحراء لا يشغل بال العديد من صناع القرار في واشنطن أعاد اجتماع مجلس الأمن الأخير (الأسبوع الماضي) قضية الصحراء والدعوة إلى المفاوضات إلى الواجهة، لكن الجديد فيه هذه المرة هو«احتجاج» البوليساريو على الموقف الفرنسي الداعم للمغرب. هذا «الاحتجاج « يدعو إلى التساؤل عن موقف باقي القوى الخمس الدائمة من قضية الصحراء ومقترح الحكم الذاتي والمفاوضات بين البوليساريو والمغرب. ويبرز، في هذا السياق، موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية كعضو دائم في مجلس الأمن، إذ إنه رغم أن المغرب حليف استراتيجي للولايات المتحدةالأمريكية أثناء فترة الحرب الباردة وبعدها، فإن نزاع الصحراء لا يشغل بال العديد من صناع القرار الأمريكيين كما تشغلهم بعض الصراعات الأخرى في العالم؛ ومقابل ذلك، تظل الولاياتالأمريكية، في منظور المغرب، أهم فاعل خارجي واقعي ومفترض في هذا النزاع. ويثير مسار السلوك الأمريكي في موضوع نزاع الصحراء، طيلة الثلاثين سنة الماضية، الملاحظات التالية: -1 لم تنظر الولاياتالأمريكية إلى قضية الصحراء من منظار واحد، بل تعددت رؤاها في الموضوع، ذلك أنها اتخذت في 1977 موقف الحياد في نزاع الصحراء، رغم أن الدبلوماسية الأمريكية نفسها هي التي عملت على دفع إسبانيا إلى اتخاذ موقف يلتقي مع مطالب المغرب في استرجاع الصحراء، والقبول بمعاهدة مدريد التي تخلت بمقتضاها إسبانيا، في نونبر 1975، عن الصحراء لصالح المغرب. لكن هذا الموقف الأمريكي المؤيد للمغرب تغير مع صعود الديمقراطيين إلى البيت الأبيض في الفترة الأولى لحكم الرئيس كارتر، الذي عرفت العلاقات الأمريكية المغربية، في بداية حكمه، أزمة احتدت سنة 1978 عندما جمدت الولاياتالمتحدةالأمريكية مبيعاتها من السلاح إلى المغرب، ليعود الانفراج من جديد في نونبر 1979 لما أعطى كارتر موافقته على بيع السلاح من جديد للمغرب، تحت تأثير ضغوطات بعض أعضاء الكونغرس الذين كانوا يقدمون المغرب كحليف استراتيجي في فترة الحرب الباردة. 2 - أعادت فترة حكم الرئيس ريغان التعامل مع المغرب، وطورت المنظور إلى الصراع في الصحراء بتصنيفه صراعا «بالوكالة»، يدخل في إطار الحرب الباردة، مصنفة جبهة البوليساريو كحليف للاتحاد السوفياتي. ورغم ذلك، تميزت هذه الفترة بسلوك أمريكي يقوم على الحياد الإيجابي المتمثل في دعم المغرب عسكريا دون الوصول إلى درجات دعم الموقف السياسي للمغرب المتمثل في الدعوة إلى الاستفتاء في منتصف الثمانينيات، أو دفعه إلى تطوير هذا المنظور السياسي للنزاع والمرافعة عنه داخل المنتظم الدولي. وبعد نهاية الحرب الباردة، تراجعت الأهمية الاستراتيجية للمغرب في السياسة الأمريكية وتراجعت التحالفات القديمة. هذا التحول كان له تأثير على مجرى الاهتمام الأمريكي بقضية الصحراء، لكن أهم ما ميز موقف إدارة جورج بوش في بداية التسعينيات هو احتفاظها بموقفها المحايد من النزاع ودعوتها علانية إلى البحث له عن حل سلمي. ويلاحظ أنه رغم الدور الذي لعبه المغرب في حرب الخليج بعد تدخل العراق في الكويت، وهو دور مؤيد للتحالف الدولي، واستعداده خلال هذه المرحلة للعب دور الوسيط في صراع الشرق الأوسط لإنجاح عملية السلام -وهي إشارات مغربية تهدف، بالمقابل، إلى التأثير على حياد الولاياتالمتحدة في قضية الصحراء- فإن الولاياتالمتحدة أصرت على أن يظل موضوع الصحراء بين يدي الأممالمتحدة (ذكر جورج بوش، خلال لقائه بالملك الحسن الثاني سنة 1991، أن اتخاذ القرار بشأن الصحراء تعود مسؤوليته إلى الأممالمتحدة)، وهو موقف ينطوي على أكثر من تفسير في مرحلة التسعينيات: من جهة، يحسن من «صورة» الولاياتالمتحدة ويؤكد تمسكها بالشرعية الدولية؛ ومن جهة أخرى، يقود إلى بداية بناء الولاياتالمتحدة لسياستها في منطقة المغرب العربي بعد نهاية الحرب الباردة، والتي تهدف من خلالها إلى إبقاء المغرب كحليف له دور جيوستراتيجي دون أن يضر ذلك بمصالحها الاقتصادية في الجزائر. 3 -خلال ولايتي كلينتون الأولى والثانية، استمر الموقف الأمريكي المحايد الذي لا يعترف بمغربية الصحراء ولكنه يدافع، بالمقابل، عن إيجاد حل سلمي للنزاع ترعاه الأممالمتحدة، ليبدأ تحول طفيف في السلوك الأمريكي في نهاية ولاية كلينتون، لما بدأ التفكير في إمكانية انهيار المساعي الرامية إلى إيجاد حل سلمي في الصحراء، وإمكانية ولادة مخاطر تهدد بتجدد العنف على نحو يعرض مصالح الولاياتالمتحدة في المنطقة للخطر ويشكل، في نفس الوقت، خطرا محتملا على منطقة جنوب أوربا. 4 - ورغم الدعم المغربي الواضح للولايات المتحدةالأمريكية في قضايا التعاون الثنائي خلال فترة حكم جورج دبليو بوش، فقد ظل الموقف السياسي الأمريكي، المبني على ثابت الحياد، مستقرا، وإن كانت الولاياتالمتحدة قد تدخلت في ملفات أخرى مرتبطة بالمغرب، مثل حالة الوساطة في قضية ليلى في الصراع مع إسبانيا. وظل موقف الحياد ثابتا رغم التطور المفاجئ لموقف الولاياتالمتحدة من النزاع في الأممالمتحدة في 9 يوليوز 2003، عبر تمرير الإدارة الأمريكية لبيان يقضي بدعم خطة بيكر لحل النزاع في الصحراء (إما حكم ذاتي للمحافظات الصحراوية ضمن إطار مملكة فيدرالية مجهولة الترسيم الحدودي أو القبول بقرار تقسيم الصحراء)؛ وهو موقف أمريكي عابر عاد بعده الرئيس بوش، مجددا، إلى التأكيد على أن حل قضية الصحراء لن يفرض على المغرب لحساسية الملف في سياسته الداخلية، وهو موقف يفسر بخضوعه، في جوهره، لاستراتيجية شن الحرب على الإرهاب الدولي، إذ إن السلوك الأمريكي إزاء نزاع الصحراء ارتبط، في فترة حكم جورج دابليو بوش، بمسألة التعاون المغربي في محاربة الإرهاب. وقد حاول المغرب توظيف هذا النوع من التعاون بدوره، وذلك ببناء خطاب يستند إلى نوع من الالتقائية بين تسوية قضية الصحراء ومخاطر انتشار الجماعات الإرهابية في صحراء شمال إفريقيا. لكن هذا الخطاب ظل محدودا لكون طرفي الصراع في ملف الصحراء (المغرب والجزائر) وجدا نفسيهما متساويين من حيث درجة انخراطهما في السياسة الأمريكية لمحاربة الإرهاب، بل مدفوعين، أحيانا، تحت الضغط الأمريكي، إلى تبادل المعلومات حول موضوع الإرهاب وانتقال الإرهابيين، بعد الإعلان عن ميلاد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. ويمكن، من خلال هذه الملاحظات، استنتاج العناصر التالية: 1 - يمكن تحليل الموقف الأمريكي في قضية الصحراء من خلال مقارنة بعض المؤسسات الأمريكية المساهمة في صناعة القرار المرتبطة بالسياسة الخارجية (الإدارة الأمريكية والكونغرس الأمريكي)، ذلك أن إدراك هذا الموقف من داخل المؤسستين يسمح لنا بقياس درجة أهمية ملف الصحراء المغربية بالنسبة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. إن موفق الكونغرس ليس موحدا من قضية الصحراء، إذ إن هناك مؤيدين للمغرب بنوا حججهم على العلاقات التاريخية وعلى الحرب على الإرهاب وقضية الشرق الأوسط والتطور الديمقراطي داخل المغرب. مقابل وجود مواقف معارضة للمغرب، تعتمد حجة تقرير المصير وحقوق الإنسان في الصحراء. وتضاف إلى ذلك مواقف شبه محايدة تميل إلى رؤية تناول قضية الصحراء في بعدها الإقليمي أكثر من معالجة القضية كأزمة بين جبهة البوليساريو والمغرب. ويبدو، في السنوات الأخيرة، انقسام واضح للكونغرس بين المدافعين عن الحكم الذاتي والمدافعين عن تقرير المصير. أما المؤسسة الثانية، التي هي الإدارة الأمريكية، فقد انتقلت في السنوات الأخيرة (في عهد جورج دابليو بوش)، في مرحلة أولى، إلى الضغط بتهديد جون بلوتون، السفير الأمريكي السابق في الأممالمتحدة، بسحب البعثة الأممية من الصحراء، بل وصلت إدارة بوش الابن الأولى إلى حد تداول مسألة نقل الملف من الفصل السادس للميثاق إلى الفصل السابع الذي تترتب عنه مسؤوليات جزائية خطيرة في حالة رفض مقتضياته، لتعود الإدارة الأمريكية، في مرحلة ثانية، إلى الحياد المدعوم بخطاب الشرعية الدولية، متجاوزة مرحلة الضغط. 2 - ويفسر هذا التناقض والغموض في الموقف الأمريكي باختيار اللعب على مسافة لا تقلق ولا ترضي الشريكين والحليفين الاستراتيجيين لأمريكا، بدرجات متفاوتة، في المنطقة، اللذين هما، في نفس الوقت، طرفا الصراع (المغرب والجزائر). 3 - إن الولاياتالمتحدة كدولة عضو في مجلس الأمن كثيرا ما تعبر عن موقفها حول النزاع من داخل الأممالمتحدة عبر دفع المنظمة إلى الاستمرار الأبدي واللامحدود في المنطقة من خلال ممارسة وظيفة «الشرطي السياحي». 4 - إن موقف الحياد يفسر بكون مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية في المغرب ليست هي نفسها المصالح في الجزائر، فالمغرب في السياسة الأمريكية هو حليف يعود إلى زمن الحرب الباردة، وهو يشكل حاليا مدخلا جيوستراتيجيا للولايات المتحدة في جنوب أوربا وإفريقيا، كما يشكل مدخلا سياسيا للعالم العربي يستعمل كنموذج في مجال إصلاح وبناء المعادلات الديمقراطية في المنطقة. أما الجزائر، فهي اكتشاف اقتصادي جديد للولايات المتحدة في شمال إفريقيا لفترة ما بعد الحرب الباردة، وهي سوق استثماري مستقبلي وحقل للصراع الاقتصادي مع بقايا فاعلي الحرب الباردة في المنطقة (الصين). هذه الاستنتاجات تقود إلى القول إن نزاع الصحراء هو من النزاعات المتخلى عنها عالميا. ويبدو أن منطقة المغرب العربي لم تنضج فيها التناقضات بشكل كاف لكي تتحول إلى منطقة تنافس حقيقي بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والأوربيين (فرنساوإسبانيا خصوصا)، الذين يبدون أكثر فهما للمنطقة ولطبيعة النزاع. وتوضح بعض المؤشرات الأولى للسياسة الأمريكيةالجديدة (بداية حكم أوباما) أن ملف نزاع الصحراء والمفاوضات فيه سيدخل محك النقاش المرتبط بالشرعية الدولية الصارمة، مما ينبىء بمخاطر كبرى مرتبطة بهذا النزاع، وإمكانيات تداعياته على منطقة المغرب العربي التي بدأت تعود إليها أجواء حرب باردة بعد قطع العلاقات بين المغرب وفنزويلا بسبب قضية الصحراء والتصريحات الإيرانية، بعد الأزمة الدبلوماسية المغربية الإيرانية الأخيرة، التي بدأت تلوح بإمكانية العودة إلى دعم البوليساريو.