صحيحٌ أنّ صناعة التفاهة موجودة في كل مكان وزمان، لكنّ ما باتت تعج به منصاتُ التواصل الاجتماعي في زماننا هذا وبلدنا هذا، يتطلب وقفةً حقيقيةً لطرح السؤال: ما الذي جعل الانحطاطَ يهيمن على محتوى ما تتداوله هذه المواقع والتطبيقات؟ فحينما نقرأ أن الموقع الإلكتروني الذي يسبه المغاربة صباحَ مساء حقق 13 مليار مشاهدة خلال سنة واحدة، فلا بد أن نبحث عن مكمن الخلل. وإنْ كنتُ شخصياً، أرى أن نفاقنا الاجتماعي يجعل مثل هذه المواقع كالعاهرة التي يضاجعها زبونُ السوء خلسةً ويشتمها جهرة..!
وعندما نجد امرأة أمية راكمت في حسابها البنكي 63 مليون سنتيم من نشر فيديوهات التفاهة، حتى إن جهلها زيّن لها إنكارَ وجودِ كورونا على رؤوس الأشهاد ممّا أوردها السجن، فيجب أن نبحث عن موضع الخلل.
وإذا كان الفصل 447 قد أوقع بصاحبتنا البدوية، رغم أنها غادرت عكاشة أكثر شهرة وسمنة، فإن غيرها من صُنّاع التفاهة يعيتون في وسائل التواصل الاجتماعي فسادا دون حساب ولا عقاب.
ولولا مخافة المتابعة القانونية بتهمة التشهير، لسردتُ عليكم لائحة تطول وجلكم لها عارفون، من الذين يجنون الملايين على ظهر بؤساء مُغَيَّبِي الذائقة.
ولمّا نجدُ المحتوى "الوسخ" يحقق ملايين المشاهدات والتعليقات والتفاعلات، بينما "النقي" لا يشاهده إلا صاحبه ونزر قليل من محاربي التفاهة حوله، فضروري أن نتساءل عن علّة هذه العلة.
ومما يُقلق أكثر، هو مصيرُ الأجيال التي تنشأ على كل هذه التفاهة والعنف والقبح... ذلك أنْ ليس هناك حاجز بين الأطفال الذين يولدون اليوم وفي أيديهم هواتف ذكية، وبين الولوج لهذه الكوارث الافتراضية. فمقولةُ تربية البيت والمدرسة والشارع للأطفال، تحتاج إضافة عنصر رابع وخطير هو الأنترنيت.
ولأنّ المقارنة تُظهر الفرق، فإنّ دولاً مثل خالتي فرنسا التي نصر في هذا البلد السعيد على الاقتداء بها، يسود فيها هي أيضا نزوعٌ نحو المضامين التافهة، والقنوات سيئة الذكر هناك غنية عن البيان في هذا المجال، بيدَ أنها لا تضاهي بحالٍ "سفالةَ" ما تنشره قنوات البعض لدينا على منصة يوتيوب وغيرها..
ولأنّ التفاهة لا دينَ لها، فإنّ لدى الأمريكان بدورهم "روتيني اليومي"، غير أنه مختلف تماما عن فضائح نسخته المغربية. فمشاهدة الأمريكان تعلمك نمط عيش وثقافة ولغة، بينما المغاربة لخبار فراسكم.
للموضوعيةِ وتجنباً للمغالطات، فطغيان التفاهة، لا يستلزم وجوباً تعميمَ فكرة تهافت المغاربة على المحتوى الفضائحي، وذلك لحيثيات شتى من أبرزها وجودُ فئات عريضة من المجتمع مقاطعة لهذا المحتوى، واستغلال مروجيه الميلَ الطبيعي للإنسان نحو كل ما يتعلق بالثالوث المحرم: الدين والجنس والسياسة، وتطويعهم الفئةَ المستهدفة عبر التحايل والتدليس..
يقول ألبرت أينشتاين: "شيئان لا حدودَ لهما، الكون وغباء الإنسان". ويقول فيكتور هيغو: "جحيم العاقل أفضل من نعيم الغبي". ويقول جلال أمين: "الطلب يخلق العرض، والذوق الرخيص يخلق الإنتاج الرخيص".
سبب نزول المقولات أعلاه، يجد تفسيره في أحدِ أمرين؛ إما أنّ جمهورَ التفاهة غبي دون ذوق أو أن صُنّاعها أذكياء دون أخلاق، لكن النتيجة واحدة تلخصها مبالغُ بالملايين يجنيها هؤلاء من المشاهدات والإشهارات التي أصبحت سوقا قائمَ الذات، عمادُه الملاسنات والشتائم والمشادات، وما يندى له الجبين من الكلام والصور واللقطات..