لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن عباس، رضي الله عنه (تابع) كنا ختمنا الحلقة السابقة بالحديث عن قراءة عبد الله بن عباس رضي الله عنه للآية 15 من سورة النور؛ تلكم الآية التي تقرأها الجماعة هكذا : »إذ تلقّوْنه بالسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم« ويقرأها هو، رضي الله عنه وأرضاه كما يلي: »إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيّنا وهو عند الله عظيم«؛ نعم هكذا قرأها هو »تلقونه« بكسر اللام وتخفيف القاف. نتابع، اليوم، على بركة الله، البحث فيما بقي من قراءته فنقول راجين منه سبحانه وتعالى التوفيق إنه ولي ذلك وقادر عليه فنقول: لقد شاركه، رضي الله عنه في هذه القراءة؛ قراءة »تلقونه« أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها وابن يعمر وعثمان الثقفي. كما قرأ، رضي الله عنه الآية 27 في سورة النور كما يلي: »يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غيرَ بيوتِكم حتّى تستأذنوا وتسلموا على أهلها ذلكم خيرٌ لكم لعلّكم تذكرون« أنا في الحقيقة، هنا، في هذه القراءة وما يروى في شأنها في حيرة شديدة من أمري. ذلك أن كثيرا من شيوخنا الأوائل يحكون قول ابن عباس في هذه القراءة؛ قالوا: إنه قال: أخطأ الكاتب، إنما هي: »تستأذنوا« يعني قوله: »تستأنسوا«. حاشا أن يصدر عن هذا الصحابي الجليل هذا القول. أنا في الحقيقة لا أعرف مطلقا سببا معقولاً يمكن أن يحمل عبد الله بن عباس، وهو من هو، على أن يقول: »حتّى تستأنسوا« خطأ أو وهم من الكاتب، إنما هو: »حتّى تستأذنوا«؛ لا يمكن أن يقول هذا أبدا. لكن الله، بمنه وكرمه، وفق الإمام أبا عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي فرد، جزاه الله خيرا، الأمور إلى نصابها لما قال في الجزء الثاني عشر، صفحة 214 من تفسيره »الجامع لأحكام القرآن«، قال: »هذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره؛ فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها: »حتى تستأنسوا« وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان، فهي التي لا يجوز خلافها، وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس«. ثم أردف قائلا: »قد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ والمعنى: »حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا«. ومما ينفي هذا القول عن ابن عباس وغيره أن »تستأنسوا« متمكنة في المعنى، بينة الوجه في كلام العرب. وقرأ، رضي الله عنه، في الآية 33 من نفس السورة، سورة النور كما يلي:».. ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم«. قرأ مضيفا الجار والمجرور« لهن »بين قوله تعالى: »إكراههن« وقوله: »غفور رحيم«. لم يشارك في هذه القراءة إلا سعيد بن جبير. ومعلوم أن هذا الجزء من الآية الكريمة هو عند الجمهور كما يلي: ».. ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم«. حلل لنا ابن جني، رحمه الله، هذه القراءة فقال في الصفحة 107 من الجزء الأول من محتسبه: »اللام في »لهن« متعلقة ب (غفور) لأنها أدنى إليها و لأن فعولا أقعد في التعدي من فعيل؛ فكأنه قال: »فإن الله من بعد إكراههن غفور لهن« ويجوز أن تكون أيضا متعلقة ب »رحيم«؛ وذلك أن ما لايتعدى قد يتعدى بحرف الجر. ألا تراك تقول: »هذا مار بزيد أمس، فتعمل اسم الفاعل وهو لما مضى؛ لأن هناك حرف الجر، وإن كنت لاتعديه فتنصب به وهو لما مضى؟ فكذلك يجوز تعلق اللام في »لهن« بنفس »رحيم«. فإن قلت: فإذا كانت اللام في »لهن« متعلقة ب »رحيم« وإنما يجوز أن يقع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل أفتقدم »رحيم« على »غفور« وهو تابع له؟ قيل اتباعه إياه لفظا لا يمنع من جواز تقديم »رحيم« على »غفور« و ذلك لأنهما جميعا خبران ل (إن). وجاز تقديم أحد الخبرين على صاحبه؛ فتقول: هذا حلو حامض. ويجوز: »هذا حامض حلو«. فلك إذا أن تقول: »فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم: ، وإن شئت قلت: »فإن الله من بعد إكراههن رحيم غفور«. ويحسن ذلك هنا أيضا شيء آخر وهو أن الرحمة كأنها أسبق رتبة من المغفرة وذلك أنه سبحانه إنما يرحم فيغفر، فكان رتبة الرحمة أسبق في النفس من رتبة المغفرة؛ فلذلك جاز، بل حسن تعليق اللام في »لهن« بنفس »رحيم« وإن كان بعيدا عنها لما ذكرناه من كون الرحمة سببا للمغفرة. فإذا كانت في الرتبة قبلها معنى حسن أن تكون قبلها لفظا أيضا. فإن جعلت (رحيم) صفة ل (غفور) لم يجز أن تعلق في »لهن« بنفس (رحيم) لامتناع تقدم الصفة على موصوفها. وإذا لم يجز أن ينوى تقديمها عليه لم يجز أن تضع ما تعلق بها قبله لأنه إنما يجوز أن يقع المعمول بحيث يجوز أن يقع العامل فيه. وأنت إذا جعلت (رحيما) صفة ل (غفور) لم يجز أن تقدمه عليه لامتناع جواز تقدم الصفة على موصوفها إذا كانت حالة منه محل آخر أجزاء الكلمة من أولها«. كما قرأ، رضي الله عنه في نفس السورة، سورة النور هذا الجزء من الآية 35 كما يلي: »كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لاشرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو يمسسه نار نور على نور.. »بالياء في قوله: »يمسسه« أما الجماعة فتقرأه بالتاء هكذا »تمسسه« بالتاء. يحسن بنا قبل التعليق على قراءة عبد الله بن عباس هذه أن نشير، ولو بإيجاز، إلى القراءات الأخرى الموجودة في هذا المقطع القرآني الرائع. أول قراءة نصادفها فيه هي قراءة »دري« بضم الدال وتشديد الياء من غير همز. يقرأ بها نافع المدني وابن كثير المكي وابن عامر الشامي وحفص عن عاصم. وتقرأ هذه اللفظة »دريء« بضم الدال والمد والهمز؛ من طرف شعبة و حمزة. وإذا وقف حمزة على هذه اللفظة أبدل الهمزة ياء مع إدغامه وعليه السكون المحض والإشمام والروم، يوافقهما في هذه القراءة المطوعي. وتقرأ كذلك هذه اللفظة »دريء« بكسر الدال والمد والهمز، قرأ بها أبو عمرو البصري والكسائي الكوفي، وافقهما اليزيدي. أما القراءة الثانية الموجودة في هذا المقطع القرآني فهي »توقد« بالتاء مفتوحة وفتح الواو والدال والقاف مشددا، يقرأ بها من السبعة ابن كثير المكي و أبو عمرو البصري ومن الثلاثة المتممة للعشرة أبوجعفر يزيد بن القعقاع ويعقوب بن اسحاق الحضرمي وافقه اليزيدي يحيى بن المبارك وهو من القراء الأربعة فوق العشرة. ويقرأ الأئمة نافع المدني وابن عامر الشامي وحفص هذه اللفظة هكذا: »يوقد« وتقرأ« توقد بتاء مضمومة و إسكان الواو وضم الدال مخففا من طرف من نشير إليهم، نحن القراء، ب (صحبة) وهم شعبة و الأخوان حمزة والكسائي. وفيها قراءة أخرى، لكن غير متواترة ولايتعبد بتلاوتها وهي »يوقد« قرأ بها السلمي والحسن البصري وابن محيصن وسلام وقتادة. وقرأ، رضي الله عنه، الآية الأخيرة من سورة الفرقان وهي فيها برقم 77 كما يلي: »قل مايعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذب الكافرون فسوف يكون لزاما »ترك فيه، رحمه الله، (أقصد ابن عباس في قراءته هذه) لفظ الحضور وهو: (فقد كذبتم) إلى الغيبة وهو »كذَّبتم«. ولابد، اعتقد، من ذكر الآية في صيغتها المتعبد بها، إنها تقرأ من طرف الجمهور هكذا: »قل مايعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما«. شارك ابن الزبير عبد الله بن عباس في هذه القراءة. قال الزهري والنحاس: »وهي قراءة ابن مسعود وهي على التفسير للتاء والميم في »كدَّبتم«. وذهب الفارسي إلى أن الدعاء مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف. الأصل: لولا دعاؤكم آلهة من دونه »وجواب« لولا« محذوف تقديره في هذا الوجه: لم يعذبكم« ونظير قوله: لولا دعاؤكم آلهة »قوله في الآية 194 من سورة الأعراف: »إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم«.