لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن عباس، رضي الله عنه (تابع) إنكم، ولاشك، تذكرون أننا في آخر الحلقة السابقة رأينا كيف قرأ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس، رضي الله عنه وأرضاه في سورة الحج الآية 23؛ لقد قرأها كما سبق أن قلنا كما يلي: »إن اللَّهَ يُدخل الذين آمنوا وعَمِلُوا الصَّالحات جنَّات تجري من تحتها الأنْهارُ يحلَوْنَ فيهَا من أساور من ذهب ولؤلُؤا ولِباسهم فيها حرير«؛ نعم، لقد أدى فيها »يحلون« بفتح الياء وتخفيف اللام مفتوحة؛ جعلها، رضوان الله عليه من »حَلِيَ« »يحْلَى«. وفي آخر المطاف قلنا: لاشك أن مرد هذا يعود، بالدرجة الأولى إلى قولهم »لَمْ أحْلَ« (بسكون الحاء وفتح اللام) منه بطائل، أيْ: لم أظْفرْ منه بطائل. وسأواصل، بعونه وقوته، راجياً التوفيق منه سبحانه، البحث في قراءته لألفاظ القرآن. لكنني سأحاول أن أقوم بهذا، بعلم وعلى أساس علم لكي تكون نتائجه، إن شاء الله، مفيدة للجميع بمنه وكرمه، فأقول: قرأ، رضي الله عنه، في سورة الحج الآية 27 هكذا: »وأذِّن في النَّاس بالحَجِّ يأتوك رُجَّالاً وعلى كل ضامر يأتينَ من كل فج عميق«، نعم قرأ هكذا: »رُجَّالاً« بضم الراء وتشديد الجيم ولام منوناً. شاركه في هذه القراءة أبو مجلز ومجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبو عبد الله جعفر بن محمد. و»رُجالاً« هذه جمع »راجل« »ك« كاتب و »كتَّاب« و »عالم« و»عُلاَّم« و»عامل« و »عُمَّال«. ولعكرمة وابن أبي إسحاق وأبو مجلز والحسن البصري والزهري قراءة أخرى هي: »رُجالاً« بضم الراء وتخفيف الجيم منونة؛ وهو مما جاء من الجمع على فُعَال ك »ظُؤار« (العاطفة على غير ولدها) وعُراق (جمع عرق وهو العظم أكل لحمه) ورُخَال (جمع رخل بكسر فسكون: الأنثى من ولد الضأن). وقرأ أيضاً في سورة الحج الآية 36 كما يلي: »والْبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم اللهَ عليْهَا صوافن فإذا وجبتْ جنُوبُها فكلوا منها وأطعموا القانع والمُعتر كذلك سخَّرناها لكم لعلَّكُم تَشْكرون«. هكذا قرأ فيها رحمه الله: »صوافِنَ« بصاد مفتوحة وواو ممدودة بفتح ثم فاء مكسورة ونون مفتوحة. شارك ابن عباس في هذه القراءة، أيْ في: »صَوَافِنَ« كل من ابن مسعود وابن عمر وإبراهيم وأبي جعفر محمد بن علي والأعمش وأبي محمد القرشي عطاء بن أبي رباح والضحاك والكلبي. وقرأ »صَوَافِي« أبو موسى الأشعري والحسن البصري وأبو وائل الكوفي الأسدي شفيق بن سلمة وأبو موسى المدني زيد بن أسلم وسليمان التيمي، كما رويت أيضاً عن الأعرج. نقول: »صَوَافِنَ« هذه هي: »الصَّافِنَاتُ« في قول الله تعالى في الآية 31 من سورة ص؛ قال سبحانه فيها: »إذْ عُرضَ عَليْه بالْعَشِيّ الصَّافِنَات الْجيادُ« إلا أنها استعملت هنا في الإبل. و»الصَوافِنُ« تعني: الرافع إحدى رجليه واعتماده منها على سُنْبُكها. قال عمرو بن كلثوم. ترَكْناَ الخيلَ عاكفة عليه * مُقلَّدَة أعِنَّتها صُفونَا كما أن »صَوافيَ »تعني: خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحداً؛ قال العجاج: حتَّى إذا ما آضَ ذا أعراف كالكَوْدَن المَشدودِ بالوكاف قال الَّذي عِنْدَك لِي صَوَافي معنى »آضَ« المذكور في قول الشاعر العجاج: صار. و »الأعراف« جمع عرف، وهو الشعر النابت فوق محدودب رقبة الفرس. و »الكودن«: البردون الهجين. و»كاف الحِمَار« برذعته. و»صَوَافَّ« قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها من »صفَّ ، يصُفُّ« وواحد »صَوَافَّ« : صَافَّة، وواحد »صَوَافِيَ«: صافية، ولا يكون واحدا »صافِنَا«: صافَّة، وواحد »صافِناً« لأن فاعلا لا يجمع على فواعل ما دام »صَافِنَا« ليس وصفاً لعاقل. كما قرأ ابن عباس، رضي الله عنه في سورة المؤمنون ، الآية 60: »والّذينَ يُؤتُونَ ما أتوا وقلوبُهُم وجِلَةٌ أنَّهمُ إلى ربِّهمْ راجعون«؛ هكذا قرأها »ما أتوا« قصراً. معنى هذا المقطع الكريم في هذه الآية بأداء الجماعة: »يعملون العمل وهم يخافونه ويخافون لقاء الله ومقام الله«. ومعنى: »يُوتون ما آتَوا« بأداء ابن عباس: »يعطون الشيء فيُشفَقُونَ ألا يقبل منهم«. أحبُّ أن أورد هنا، لقرائي الأعزاء، حكم أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها وأرضاها على القراءتين اللتين أشرت إليهما وأنا أتحدث عن هذه الآية. وأحسن من أوجز هذا وقدمه لنا بوضوح هو الإمام الطبري في تفسيره (18/26)، قال رحمه الله: »حكي عن إسماعيل بن خلف قال: »دخلت مع عبيد الله بن عمير الليثي على عائشة، رضي الله عنها فرحبت به، فقال لها: جئتك لأسألك عن آية في القرآن. قالت: أي آية هي؟ فقال: »الَّذين يُؤتون ما أتوا« (نطقها، رضي الله عنه بقصر همزة« أتوا«) أو: »يُوتون ما آتَوا« (نطقها، رضي الله عنه بمد همزة« أَتَوا«) أو : »يُؤتون ما أتَوا)، فقالت: أيتهما أحب إليك؟ قال: فقلت: لأن تكون »يُؤتُون ما أتوا« أحب إلي من الدنيا جميعاً؛ فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتُون ما أتَوْا ولكن الهجاءَ حُرِّف«. ويَرْوي لنا، في هذا الموضوع أيضاً الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: »والَّذينَ يُؤتُون ما أتوا وقلُوبُهُم وجِلَة« قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات«.شارك ابن عباس في هذه القراءة كل من قتادة والأعمش، وهي أيضاً قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن على أساس أنها بيان منه عليه الصلاة والسلام لأمته. كما قرأ أيضاً، رضي الله عنه وأرضاه في نفس السورة، أي سورة المؤمنون، الآية 67 كما يلي: »مُستَكْبرِينَ به سُمَّرا يُهَجِّرُونَ« بضم سين وتشديد ميم »سُمَّرا« وضم ياء وتشديد وكسر جيم »يُهَجِّرونَ« في حين تقرأ هذه الآية من طرف الإمام نافع المدني هكذا: »مُسْتَكْبِرِينَ به سَامِرا تُهْجِرُون«، وافقه في هذه القراءة ابن محيصن بخلفه وله قراءة أخرى هي: »مُستكبِرِين به سُمَّراً يُهجِرُون«، بضم سين وتشديد ميم »سُمَّراً« وضم ياء وكسر الجيم المخففة في »يُهجِرونَ«. ويقرأها ابن كثير وأبو عمرو البصري وابن عامر والكوفيون الثلاثة عاصم وحمزة والكسائي: »مُستكْبِرِينَ بِهِ سامرا تهجُرُون«. يقرأون »سامِرا« على وزن »فَاعِل« ويقرأون »تهْجُرُونَ« بفتح التاء وضم الجيم مخففة. أما »السَّمَرُ« فجمع »سَامِر« والسَّامِرُ: القوم يسمرون، أي: يتحدثون ليلاً، قال ذو الرمة: وكَم عرَّسَتْ بعدَ السَّرَى مِنْ مُعَرَّس بهِ منْ عزيف الجنِّ أصْواتُ سَامِرِ والسامر قد يكون واحداً وقد يكون جماعة. وأما »يُهْجَرُونَ« بسكون الهاء وضم الياء فتفسيره: يفحشون القول. يقال: هَجَرَ الرجُل في منطقه إذا: هَذى، وأهْجر: أفحش؛ قال الشماخ: كما جدة الأعراف قالَ ابْنُ ضرَّةٍ عليهاَ كلاماً جار فيه وأهجرا وقال الحسن البصري: »تهجرون« أي: تهجرون كتابي ونبيي. وأما: تُهْجِرون »بضم التاء وتشديد الجيم المكسورة فمعناها في اعتقاد بعض اللغويين وعلى رأسهم عثمان بن جني: »تُكْثرون من الهُجْر« وهو الهذيان، أو هجرُ النبي صلى الله عليه وسلم وكتاب الله، أو تكثرون من الإهجار وهو إفحاش القول؛ لأن »فَعَّلَ« تأتي، كما لا يخفى، للتكثير. كما قرأ، رضي الله عنه وأرضاه أيضاً في سورة النور الآية 15 كما يلي: »إذ تَلِقونَهُ بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيِّناً وهو عند الله عظيم«؛ نعم هكذا قرأ »تلِقونَهُ« بكسر اللام وتخفيف القاف. أما ابن السميفع فقرأه: »تُلقونَهُ« من ألقيت. ومعناه تسرعون وتخفون فيه. قال ابن عيينة: »سمعت أمي تقرأ: »إذ تتقفَّونه« وكان أبوها يقرأ كما يقرأ عبد الله. وبهذا كان يقرأ هو، تماماً كما قرأت أمه.