شتان بين مشهدين، مشهد الأقصى في يومنا الحاضر، ومشهد العبور في السادس من أكتوبر. الأقصى لا يجد من يدافع عنه إلا صدور الفلسطينيين العزل في مواجهة الآلة الصهيونية المدججة، ومليار ونصف المليار من المسلمين ينظرون إلى المشهد كأنهم يتابعون مباراة رياضية مثيرة. الأقصى ليس ملعباً رياضياً، إنما هو أولى القبلتين وثالث الحرمين، أي أنه من أقدس أقداس المسلمين الذين حافظوا عليه على مر القرون. وحينما كان يدنس يصبح الدفاع عنه لدى المسلمين فرض عين فتتجهز له الجيوش ويحتزم القادة بالأكفان من أجل شرف الاستشهاد ذباً عنه. والآلة الصهيونية ليست فريقاً يريد تسجيل الأهداف، إنما جيش بطاش ينوي الإطاحة به بعدما رأى أن العرب لا يستطيعون الدفاع عن وثيقة غولدستون، فكيف بهم الدفاع عن الأقصى. بعد إحراق وثيقة غولدستون، أصبحنا أمام اليهود كالحال أمام المغول، عندما تم تسليم الرقاب للجلاد من دون همسة احتجاج. حتى الفئة القليلة منا التي تتصدى دفاعاً عن الأقصى تجد منا خذلاناً وتيئيساً. وفي الأفق الماضي يبرز اليوم أمامنا مشهد البطولة والشموخ، مشهد توحدت فيه بعض قدرات العرب، المصرية والسورية، والمؤازرة التضامنية العربية لقهر المحتل واسترداد الأرض المغتصبة والكرامة المخدوشة. بين المشهدين ستة وثلاثون عاماً تمثل منحنى للتضامن العربي يهبط باستمرار حتى لامس القاع، أو ما تحته. مشهدان ينزفان بالعظة لمن يريد، لكننا فقدنا على ما يبدو القدرة على الاتعاظ، وربما مجرد الرغبة، كأن حال الفرقة يسعدنا أكثر، وكأن مناظر الاقتتال في ما بيننا ترضينا أكثر، وكأن تفتت البلدان غاية ترجى. مشهدنا العربي الراهن يطل علينا كحلم بعيد في نوم عميق، لأنه لا يشابه تاريخنا، ولا يماثل ثقافتنا، ولا يلبي طموحاتنا. حلم كأشد الكوابيس غثاثة ورعباً، نفقد فيه إنسانيتنا قبل أن نفقد هويتنا أمام الآخرين الذين يدافعون عن حقوقنا التي نتخلى عنها لأنهم يرون في دفاعهم تحقيقاً لإنسانيتهم. حلم نتجرع فيه الذل من كأس عدونا، فتأخذنا النشوة من قباحته، وتستولي علينا الغيبوبة من مرارته. كنا نضحك من مسرحنا حين كان يتنبأ هازلاً بأن البلد سيصبح بلدين، وأصبحنا نضحك ضحك البكاء حين تتمثل النبوءة أمام ناظرينا بفعلنا العاجز، ورؤيتنا المريضة. فإلى أين نحن ذاهبون؟ قد يتغذى المتفائل منا أملاً ممن يرون التاريخ دورة، لكن التاريخ أيضاً مملوء بقصص الأمم البائدة. فالتاريخ لا يدور إلا لمن يحاولون صنعه لا لمن يقتاتون على فتاته. ونحن ما زلنا ننظر إلى الأيدي الممتدة إلينا بالقهر والضياع نظرة العاجز الفاقد للقدرة والبصيرة. متى يسترد العرب تلك الروح، روح صنع العبور، العبور لتخليص بيت المقدس من براثن الإرهاب الصهيوني؟